يسود اعتقاد في أوساط الطبقة السياسية السائدة في الساحة الفلسطينية، مفاده أن النقد السياسي للتجربة الوطنية الفلسطينية (المنظّمة والسلطة والفصائل) بخطاباتها وبناها وممارساتها وعلاقاتها وأشكال عملها، فائض عن الحاجة، أو نوع من الترف، أو المزايدة، وأنه يفتّ من روح التضحية والمقاومة، ويشكل تهديداً للبديهيات الوطنية المؤسّسة، أو أنه يضمر تبخيساً بالإنجازات الوطنية المتحقّقة، أو بالتضحيات والبطولات المبذولة.
في الواقع، فإن تلك الاعتقادات خاطئة، ومضرّة، ومتسرّعة، ومتعسّفة، وتنطوي على التهرّب من الحقيقة، ومن تحمّل المسؤولية عن الأوضاع التي وصلت إليها الحركة الوطنية الفلسطينية، كما أنها تتنافى مع أبجديات العمل السياسي، التي يُفترض أنها تنطوي على المشاركة السياسية، أو تتنكّر لها، وعلى المراجعة والمحاسبة والنقد، باعتبارها عملاً يقوم به بشر، ويديره أفراد، قد يصيبون وقد يخطئون، إذ إن العمل البشري لا يَفترض العصمة أو القداسة.
لنلاحظ هنا أن التجربة الفلسطينية في مسارها المعقّد والطويل (ستة عقود) في الأردن ولبنان والضفّة وغزّة، وفي تجارب الكفاح المسلّح، من “نفق عيلبون” إلى “طوفان الأقصى”، مروراً بالعمليات الفدائية والهجمات التفجيرية والضربات الصاروخية، وما تخلّلها من مسارات سياسية واتّفاقات تفاوضية وانتفاضات وهبّات شعبية، مع كياناتها الجمعية المتمثّلة بالمنظّمة والسلطة والفصائل، لم توضع ولا مرّة على طاولة المراجعة والدراسة والتشريح والنقد والمساءلة، رغم كلّ التحولات والإخفاقات والمشكلات والتعقيدات الحاصلة، في ذلك الزمن الطويل، والمثير، بحكم افتقاد الساحة الفلسطينية القيادة الجماعية، والتفكير النقدي، والإطارات الشرعية، المؤسّسية والجمعية، والآليات الديمقراطية، التي يُفترض أن تدفع نحو مراجعة الخيارات والسياسات لترشيدها أو تصويبها أو تطويرها أو تغييرها.
وبالتحديد، فإن ما نتحدّث عنه هنا يتعلّق بالنقد المسؤول والبنّاء، الذي يصدر عن عقلية وروحية وطنية مسؤولة، في حين أن السائد من النقد الفصائلي في معظمه مجرّد مزايدات أو ادّعاءات أو تهم وتشكيكات لا تقدّم ولا تؤخّر، أي لا يمكن وضعها في إطار التفكير النقدي.
في الواقع، فإن المحاولات النقدية الجادّة تتوخّى طرح الأسئلة الصعبة، الناجمة عن تعقيدات الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي للفلسطينيين، والمداخلات أو المعطيات الخارجية المؤثّرة على قضيتهم، وتالياً النظر في معنى مآلات وتحوّلات تجربة طويلة وثريّة وباهظة الثمن، فيما باتت الفصائل أو الطبقة السياسية المهيمنة، لا تضيف شيئاً على هذا الصعيد، سوى حرصها على استمرار الواقع القائم، من دون أي محاولة لتغييره أو تجاوزه.
وبديهي، فإن أي نقد يفترض الانطلاق من المطابقة بين الشعب والأرض والقضيّة والرواية التاريخية، المتأسّسة على الحقيقة والعدالة، واستعادة الحركة الوطنية الفلسطينية لطابعها كحركة تحرّر وطني، وإعادة بناء منظّمة التحرير، باعتبارها ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني في كلّ مناطق وجوده من دون استثناء، بتكييف الرؤى السياسية والخيارات الكفاحية بطريقة تعزّز وحدة الشعب، ولا تفرّقه، ولا تبعثر طاقاته وقدراته. والمعنى من ذلك أن وحدة الأرض والشعب والقضيّة يفترض أن تنعكس في الرؤية السياسية، وفي الكيانية السياسية (منظّمة التحرير) وأيضاً في أساليب الكفاح الممكنة، المستدامة، والمجدية.
على ذلك، فإن التعاطي الاستنكاري مع النقد، الصادر عن القوى الفلسطينية المهيمنة، ينطوي على تبرّم، وربما خشية، من تولّد أفكار نقدية في الحقل السياسي الفلسطيني العامّ، كما ينطوي على اختزال للسياسة، وإصرار على خصخصتها، على طريقة الأنظمة، بجعلها احتكاراً للطبقة السياسية المسيطرة، بمعزل عن معظم الشعب، وبغضّ النظر عن علاقات المأسسة والتمثيل والمشاركة السياسية.
قصارى القول، إن الساحة الفلسطينية بحاجة إلى عقلية نقدية تغييرية، أي تجديدية وتطويرية، لأن الوضع بات يتطلّب القطع مع العقلية الفصائلية الضيّقة، بخطاباتها وأشكال عملها، التي سادت في المرحلة الماضية، بعدما ضَمُرَتْ تلك الفصائل، وتآكل حضورها في المجتمع، وفي ميدان الصراع ضدّ إسرائيل، من دون أن يشكّل ذلك قطعاً مع الخبرة الوطنية المكتسبة، ولا مع الإنجازات، التي ينبغي صونها والبناء عليها وتطويرها، لأنه من دون هذا القطع الذهني لا يمكن الحديث عن توليد حركة وطنية فلسطينية جديدة، ولا حتى تجديد شباب، أو حيوية، الحركة الوطنية الفلسطينية بكياناتها السائدة.
هذه المقدّمة ضرورية لهذا الكتاب، الذي أعتبره امتداداً لكتاباتي في مراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية ونقدها، وكامتداد لكتبي السابقة: “الثورة المجهضة… دراسات في إشكاليات التجربة الوطنية الفلسطينية”، و”فتح 50 عاماً قراءة في مآلات حركة وطنية”، و”نقاش السلاح… قراءة في إشكاليات التجربة العسكرية الفلسطينية”، وكلّها صادرة عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر (على التوالي 2013، 2016، 2020) ومنها ما صدر بالتعاون، مع مكتبة “كلّ شيء” في حيفا، ومركز “مسارات” في رام الله.
وللتوضيح، فقد ناقشت في كتابي هذا عدداً من القضايا أو الخيارات الأساسية التي استعصت؛ من وجهة نظري، على الحركة الوطنية الفلسطينية، والأخطاء الاستراتيجية التي أعتقد أنها ارتكبتها. إذ مع إدراكي أن العوامل الخارجية، والظروف الموضوعية، وتفوّق إسرائيل في موازين القوى، وفي كلّ المجالات، على الشعب الفلسطيني، المجزّأ، الذي يفتقد الموارد وإقليماً مستقلاً، والذي يخضع لهيمنة دول عدّة، على اختلاف سياساتها، لعبت دوراً كبيراً مؤثّراً بل مقرّر، إلا أنني أعتقد، أيضاً، أن ضعف العامل الذاتي، المتمثّل بعدم تبصّر القيادات المعنيّة بالخيارات السياسية والكفاحية التي انتهجتها، وقصور إدراكاتها لموازين القوى وللواقع ومعطياته العربية والدولية، وتخبّطها في إدارة الموارد البشرية، أو إدارة كفاح شعبها، لعب دوراً كبيراً في مفاقمة أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية، وفي تعذّر قدرتها على مواصلة نجاحاتها.
أيضاً، ثمّة فكرة أودّ أن ألفت الانتباه إليها، في مقدّمة هذا الكتاب، تفيد بأن الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة كانت حقّقت معظم إنجازاتها في السنوات العشر الأولى لقيامها، أي في منتصف السبعينيات، أما في ما بعد، فقد دخلت تلك الحركة في حالة أزمة أو جمود أو استعصاء، إذ تحوّلت إلى سلطة في لبنان، ثم أُخرجت منه، ثم تحوّلت الى سلطة في الضفّة وغزّة، بعدما تراجعت عن منطلقاتها الأولية، علماً أنها عندما انطلقت (1965) لم تطرح ذاتها كسلطة في هذه المناطق التي لم تكن محتلّة بعد.
إقرأوا أيضاً:
في هذا الكتاب، اعتمدت منهج معايشة الأحداث والقضايا، نسبة إلى معاصرتي كلّ ما أخضعته للنقاش، مضافاً إليه التجربة الشخصية، وركّزت على منهج البحث في الممارسة السياسية للكيانات الفاعلة، وليس منهج البحث في الأوراق أو الأدبيات الصادرة، التي يغلب عليها الطابع الإنشائي والاستهلاكي والدعائي والتبريري، أما عندما أُحيل إلى وثائق، في بعض الأحيان، فأنا أتحدّث عن الوثائق الرسمية الأساسية.
بيد أن اعتماد المنهج المذكور لا يمنع من تقديم بعض الملاحظات العمومية حول الوثائق السياسية البرنامجية الصادرة عن الفصائل الفلسطينية، كما عرفناها، وضمن ذلك:
أولاً، أن هذه الوثائق تبقى، غالباً، حبيسة أدراج المكاتب، ولا تتحوّل إلى خطوط عمل ملزمة للقيادات المعنيّة. هكذا اعتمدت حركة “فتح” مثلاً “البرنامج المرحلي”، المتعلّق بالتسوية، في منظّمة التحرير منذ أواسط السبعينيات، لكنها ظلّت تعتمد برنامج “التحرير” حتى في مؤتمرها الرابع (1981) وفقط اعتُمد البرنامج المرحلي في المؤتمر الخامس (تونس 1988).
ثانياً، ثمّة بون شاسع بين المقولات، أو الشعارات المطروحة في الوثائق السياسية وبين الإمكانات، وهذا أمر مشروع من حيث المبدأ، بيد أن تلك الوثائق يُفترض أن تجيب، أيضاً، عن أسئلة الواقع والمعطيات وموازين القوى والإمكانات الذاتية، والتدرّج في العملية النضالية، ومرحلة الأهداف، وصولاً إلى الهدف النهائي، أو المتوخّى.
ثالثاً، تحاول البرامج أن تقول كلّ شيء، كأنها تنشد البراءة، أو مجرّد الاستهلاك الشعبوي، لكنّها في الوقت ذاته لا تقول شيئاً متعيّناً. ومثلاً، معظم البرامج تتحدّث عن اعتماد الكفاح المسلح، لكن لا أحد يقول ما هي الاستراتيجية العسكرية للفلسطينيين في ظروفهم الخاصّة، ولا أحد يكلّف خاطره بشرح ذلك؛ منذ ستّة عقود، إذ تُرك الأمر للعفوية والتجريبيّة.
رابعاً، مشكلة البرامج السياسية للفصائل أنها لا تُطرح للنقاش العامّ، ما قد يغنيها، أو يفيدها، لا سيّما وأن هذه فصائل تطرح نفسها ممثّلة للشعب، وأنها فصائل وطنية، وأن ما تقوم أو ما لا تقوم به يؤثّر مباشرة على الفلسطينيين.
تعمّدت تقسيم الكتاب إلى خمسة فصول: الأول، يتحدّث بشكل إجمالي عن مشكلات وتمثّلات صعود الوطنية الفلسطينية، وهبوطها. والثاني، يتحدّث عن مركزية الكفاح المسلح في الفكرة، والكيانية، الوطنية الفلسطينية، والتداعيات الناجمة عن ذلك. الفصل الثالث، خصّصته لنقاش إشكاليات الهوّية الوطنية الفلسطينية، وصيرورة تمثّل الفلسطينيين لكونهم شعباً. أما الفصل الرابع، فخصصته للحديث عن هجوم “طوفان الأقصى”، وحرب الإبادة الجماعية التي شنّتها إسرائيل على شعبنا، باعتبارها نكبة جديدة. وأتى الفصل الخامس، على شكل طرح استخلاصات من كلّ الفصول السابقة، وضمنها خاتمة، على شكل مقترحات لاستراتيجية سياسية وكفاحية جديدة للحركة الوطنية الفلسطينية. أيضاً ثمّة ملحق في الكتاب لبعض الوثائق الفلسطينية الأساسية التي تضيء على بعض ما طُرح في الكتاب، كما ثمّة إحالة إلى بعض المراجع والمصادر، التي تشرح بعض ما ورد من مصطلحات أو أحداث في متن الكتاب.
أخيراً، آمل بأنني في هذا الكتاب والكتب التي سبقته، “الثورة المجهضة”، و”فتح 50 عاما”، و”نقاش السلاح”، وُفّقت في تقديم مساهمتي الشخصية في خدمة شعبي، مع اعتزازي بتجربتي في الحركة الوطنية الفلسطينية (في فتح) التي انتميت إليها في فترة مبكرة، في مطلع السبعينيات، والتي غادرتها قبل أربعة عقود، إذ خصّصت كلّ جهدي بعدها للكتابة، للتعبير عن ذاتي، وهمّي، وتجربتي، وثقافتي.
هذا الكتاب بمثابة تحيّة وفاء إلى أرواح الذين ضحّوا بحياتهم، والذين أمضوا أعمارهم من أجل الحقيقة والعدالة والحرية والكرامة والمساواة، وإلى كلّ رفاق هذا الدرب الشاقّ، درب الألم والأمل… وإلى أولادي لينا وسلام ونوار وآدم، وأمثالهم من جيل الشباب، التوّاقين إلى عالم أفضل للبشرية على هذه الأرض.
*مقدّمة كتاب: من نفق عيلبون إلى طوفان الأقصى، يصدر بعد أيام عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عمان.
إقرأوا أيضاً: