تستمر الحرب الإسرائيلية ضد غزة لتتحوّل الى ما يشبه الإبادة الجماعية، مع استمرار المجازر وارتفاع عدد الضحايا.
يحصل ذلك وسط تصعيد الحصار الخانق، إذ قطعت إسرائيل إمدادات الوقود عن محطة كهرباء غزة، وفرضت حصاراً مطبقاً على القطاع، مانعةً دخول المساعدات الإنسانية والمواد الغذائية والطبية، فيما استهدفت العاملين في الدفاع المدني والمستشفيات التي أصبحت على وشك الخروج من الخدمة، بعد قرب نفاد المواد الطبّية وزيادة أعداد المصابين التي تفوق إمكاناتها.
دمّرت الغارات الإسرائيلية أحياءً بكاملها وعدداً كبيراً من المباني في مخيم للاجئين شمال قطاع غزة. وقالت وزارة الصحة الفلسطينية إن ما لا يقل عن 3200 فلسطيني قُتلوا على يد الإسرائيليين، من بينهم ما يزيد عن 500 قتيل سقطوا جراء قصف إسرائيلي على مستشفى الأهلي المعمداني في غزة، بينما أصيب 11000 شخص آخرين. وأبلغ الدفاع المدني الفلسطيني عن وجود أكثر من 1000 مفقود تحت أنقاض المباني المدمّرة في غزة.
وفي خضم هذه الأجواء الدامية، وصل عدد النازحين إلى 260 ألف شخص داخل قطاع غزة، منذ السبت 7 تشرين الأول/ أكتوبر، بينما يتواصل القصف الإسرائيلي الكثيف جواً وبراً وبحراً على القطاع، حسبما أعلنت الأمم المتحدة.
على الجانب المصري، توقف معبر رفح بين مصر وغزة بعدما قصفت طائرات إسرائيلية الجانب الفلسطيني منه ثلاث مرات، ما تسبب في إغلاق المعبر الذي توافدت إليه حشود من الفلسطينيين للعبور إلى مصر، التي تتوقع أن يحاول سكان القطاع التدفق إلى أراضيها هرباً من جحيم التدخل البري المنتظر للجيش الإسرائيلي، وهو ما يطرح أسئلة حرجة على السلطة السياسية المصرية، التي ترى في نزوح الفلسطينيين إلى أراضيها “تصفية للقضية الفلسطينية”.

وتحظى القضية الفلسطينية بأهمية قصوى لدى الدولة المصرية، إذ إنها تعد إحدى الأوراق التي تمنحها مكانة إقليمية ودولية، كما أنها أحد مبررات حصول مصر على معونة عسكرية من الولايات المتحدة الأميركية، تقدَّر بـمليار و300 مليون دولار سنوياً، لذا تتمتع مصر بممارسة تأثير كبير في القضية.
وفي هذه الأجواء، قال كبير المتحدثين العسكريين الإسرائيليين دانيال هجاري، في تصريح تلفزيوني: “يا سكان مدينة غزة، أناشدكم مرة أخرى: حماس تحاول منع إخلائكم. سنتيح الوصول إلى الجنوب. اتركوا مدينة غزة وجميع المناطق المحيطة بها من أجل أمنكم الشخصي”.
في المقابل، حثّت حركة “حماس”، على لسان رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية، سكان غزة على ضرورة البقاء وعدم الاستجابة لتهديدات اسرائيل في “الحرب النفسية”، وانتشرت فيديوات لمواطنين فلسطينيين يرفضون النزوح ويذكّرون بأيام النكبة.
إلا أن خشية مصر من تحميلها عبء الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وحدها، عبر إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء، لا تعني أنها لم تطرح على نفسها سؤال إمكان السماح لجزء من سكان غزة بالانتقال إلى سيناء هرباً من العنف الإسرائيلي المفرط ضد القطاع.
الرئيس عبدالفتاح السيسي قال: “لن تقبل بتصفية القضية الفلسطينية على حساب أطراف أخرى”، مشيراً إلى رفض توطين الفلسطينيين في سيناء في ظل الضغوط الغربية للقبول بإعادة توطين سكان غزة مقابل مكاسب اقتصادية قد تشمل إسقاط بعض الديون.
موقع مدى مصر نشر تقريراً يستند إلى 21 مصدراً من جهات حكومية وأمنية ودبلوماسية مصرية مقرّبة من دوائر صنع القرار، بالإضافة إلى دبلوماسيين أجانب يعملون في القاهرة وعواصم غربية وباحثين مقرّبين من أجهزة سيادية، وشهود عيان عند معبر رفح، والذين أفادو بأن مختلف الأطراف الدولية ناقشت مع مصر حوافز مقابل قبول أي حركة نزوح فلسطيني تتوقعها مختلف الأطراف باتجاه سيناء، وأوضحت المصادر أن هناك ميلاً داخل دوائر صناعة القرار السياسي في مصر إلى الموافقة.
لكن هذا الميل الى الموافقة على نزوح الفلسطينيين لم يمنع محاولة مصر المستميتة لإيصال ألف طن من المساعدات الغذائية والطبية إلى غزة، تخفيفاً لحركة النزوح المنتظر، ومقايضة الأميركيين على خروج حاملي الجنسية الأميركية من معبر رفح في مقابل إدخال المساعدات إلى غزة، فيما جهزت محافظة شمال سيناء مرافق حكومية عدة استعداداً لعملية نزوح واسعة.
إقرأوا أيضاً:
وعقب نشر التقرير، قرر المجلس الأعلى للإعلام استدعاء المسؤولين في موقع “مدى مصر” للتحقيق في ما يفترض أنه “أخطاء مهنية”، بينما اتّهم رئيس المجلس كرم جبر الموقع بـ”العمالة”، وهو ما اضطر الموقع لحذف التقرير.
وحسب التقرير، فإن إسرائيل أرسلت وفداً من الموساد إلى القاهرة، وبمشاركة قطرية، بما يمثل خطوة أولى في نقاش أوسع يتواصل سراً وعلناً في حال أجبرت الحرب الإسرائيلية جموعاً من فلسطينيي القطاع على النزوح إلى مصر.
وتحاول مصر التعامل مع المعطى الذي فرضته إسرائيل كأمر واقع، بل تحاول أميركا والاتحاد الأوروبي الضغط على مصر لقبوله، وتساهم دول عربية مختلفة فيه، لكن على الرغم من حركة النزوح القوية من سكان غزة إلى جنوب القطاع، إلا أنه لا توجد مؤشرات إلى رغبة فعلية للسكان في مغادرة بلادهم.
وعلى النقيض من الرغبة الإسرائيلية -الأميركية وبعض الحكومات العربية المؤثرة في تصفية القضية والتخلص من “حماس”، لا تزال هناك عوامل مهمة لمقاومة مصر هذه الضغوط يبرزها التقرير، وعلى رأسها العامل الأمني، إذ إن المنطقة الوحيدة المتاحة هي المنطقة العازلة على الجانب المصري من الحدود مباشرة، لكن هناك مخاوف من تداعيات ذلك على سيطرة مصر على حدودها الشرقية بشكل فعلي، خصوصا أن تلك المنطقة كانت موطناً لسكان رفح الذين هجرتهم الحكومة المصرية بهدف السيطرة على الحدود وتدمير الأنفاق، وإذا استوطنها الفلسطينيون قد يعيدون حفر الأنفاق الموصلة إلى غزة مجدداً.
لكن الأمر لا تحسمه الميول ولا الاعتبارات الاقتصادية، فإذا تحرك الفلسطينيون تجاه سيناء هرباً من اجتياح بري لن تقدر مصر على ردهم، وفي هذه الحالة، سيكون السؤال حول أي عدد يمكن استقباله، وإلى أي مدى سيبقى.
في المقابل، ينظر النظام المصري إلى المسألة الفلسطينية كطوق نجاة محتمل من أزمة الديون، فقد تحصل البلاد على وعد بشطب جزء من الديون وجدولة جزء آخر، وهو أمر تكرر مع نظام حسني مبارك في التسعينات حين كانت مصر على وشك الإفلاس وتدخلت أميركا لإسقاط نصف ديونها ثمناً للمشاركة في الحرب على العراق، وهو ما أنقذ النظام من السقوط.
ويتوقع أن تحصل مصر على حزمة من المساعدات المالية في ظل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، لكن ليس من المؤكد أن يتم شطب الديون، خصوصاً أن مصر لا تملك الكثير من الأوراق في القضية، كما أن إسرائيل تمكنت من وضع مصر في موضع محرج، وجعلتها عاجزة عن إدخال مساعدات الى غزة، وستكون عاجزة عن الحد من التدفق البشري الآتي من غزة إذا حدث اجتياح، وستضطر الحكومة المصرية للسماح بدخول الفلسطينيين، حتى لو تمنعت يومين أو أكثر، تحت سطوة الضغط والتضامن الشعبيين.
لقد رمت مصر الأدوات التي تمكنها من ممارسة نفوذ والقيام بأدوار في غزة، وعلى رأسها الأنفاق التي سمحت على مدار الفترة من 2006 إلى 2013 بتداول السلع والبضائع بين مصر وغزة، والتي دمّرها النظام المصري جميعها بهدف التحكم في شبكات تهريب السلاح لـ”الإرهابيين” في سيناء (وإرضاءً لإسرائيل في ظل الرغبة الحثيثة للنظام الجديد حينذاك في كسب شرعية دولية وتأييد أميركي بخاصة عبر البوابة العبرية).
لم يحافظ النظام المصري على نفق واحد تحت إدارته الأمنية حتى، كان ليصلح كأداة لتوصيل الغذاء والوقود والدواء للشعب الفلسطيني المحاصر في غزة.
كانت الأنفاق علامة على عدم مشاركة نظام مبارك في حصار غزة بشكل كامل، فكانت تُفقد الحصار الإسرائيلي على غزة فاعليته، بل وتُشكل قلقاً مزمناً لإسرائيل من أن أعضاء “حماس” يتسللون إلى الخارج ويلتقون قياديين في “حزب الله” وإيران، ويعودون لضرب إسرائيل في أهداف غير متوقعة.
وبالمثل، ربطت الأنفاق غزة بسيناء على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، وحققت شكلاً من أشكال الفصل بين الاقتصاد الفلسطيني والإسرائيلي، ومنح غزة القدرة النسبية على الاستغناء عن اقتصاد تل أبيب. لقد سلمت مصر مصير غزة كلياً إلى إسرائيل، التي تنتقل الآن من محاولة الانتقام لضياع الهيبة العسكرية إلى مرحلة فتح الفصل الأخير للنكبة.
كيف وصلنا إلى هنا؟
على مدار عقود، دمرت إسرائيل كل الأسس الممكنة لقيام دولة فلسطينية، فهي تنفذ من دون توقف عمليات واسعة للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وإقامة المستوطنات والقواعد العسكرية، بما يجعل من مطلب المجتمع الدولي بالعودة الى حدود 1967 مستحيلاً ببساطة.
ولا تمثل الضفة الغربية ولا قطاع غزة سوى نسبة ضئيلة من فلسطين التاريخية، فالفلسطينيون مكدسون في جزر ضئيلة غير قابلة للحياة، وبالتالي فإن دولةً فلسطينية على جزء من الضفة الغربية، وجزء من غزة، من المستحيل أن تصبح كياناً قابلاً للحياة.
حوّلت إسرائيل فلسطين إلى أرخبيل تعزله وتراقبه وتسيطر عليه، وتفتت اقتصاده وتقيد حرية الفلسطينيين، فيما تسيطر إسرائيل على حدود هذا الأرخبيل وتسيطر على الأراضي والمياه، وتقدّم الحكومة الإسرائيلية دعماً لبناء المستوطنات يصل إلى 75 في المئة في المدن الفلسطينية المزدحمة، و100 في المئة في المناطق البعيدة مثل غلاف غزة.
هذا الوضع الاستثنائي الذي طال استمراره لم يكن يصلح للاستدامة، لقد بذلت الدول الغربية ودول البترول العربية جهداً كبيراً في توفير المساعدات للضفة الغربية، بهدف خلق شكل من أشكال الرفاهية الاجتماعية يعمل بالإحسان الدولي على أمل احتواء الغضب الفلسطيني والأجيال الصاعدة. وفي المقابل، تركزت الجهود والمساعدات في غزة على منع المجاعة، وليس إنهاء معاناة السكان.
قبل عملية “طوفان الأقصى”، لم تكن إسرائيل تسمح سوى بإدخال قدر ضئيل من المواد الغذائية الأساسية والوقود إلى غزة، تمسكاً بسياستها القديمة بمنع حصول كارثة إنسانية في القطاع تجلب عليها شجباً دولياً، لكنها لم تتخلَّ يوماً عن تعريضهم لسوء التغذية وتدهور الوضع المعيشي. أما الآن، وقد ضمنت تأييداً دولياً في تدمير غزة وسحق البنية السياسية لـ”حماس”، فقد حكمت على القطاع بالمجاعة.
ليس واضحاً ما إذا كانت مصر ستنجح في تأمين الإغاثة الإنسانية لسكان غزة، كي يتمكن القاطنون في القطاع من البقاء لأكبر وقت ممكن ريثما تنتهي الحرب، وإلا فإن مصر ستضطر لاستقبالهم ولو إلى حين، وسيضطر عدد معتبر من فلسطينيي القطاع الذين سبق وفقدوا أراضيهم وبيوتهم في الأربعينات والستينات، لمواجهة ألم التهجير والترحيل مجدداً.
إقرأوا أيضاً: