fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

نهاية الديمقراطيّة الليبراليّة: هل فقدت الشعوب الغربيّة السيطرة على مصيرها؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

كان الإلهام الأساسي للدبلوماسي البريطاني كارين روس وراء تأليف كتاب “ثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الحادي والعشرين”، هو الرد الذي تلقاه من أحد المتظاهرين في ميدان التحرير، بعد سؤاله “ماذا تريدون من هذه التظاهرات؟”، كان الرد جريئاً وصادماً؛ لم يتوقع روس أن يُفصح شخص من “العالم الثالث” بهذه الثقة: “خذ ديمقراطيتك يا باشا، نحن لسنا شحاذين”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في عام 2011، في وسط الميدان، وبين أجواء الغليان الثوري الذي اجتاح مصر خلال أحداث الربيع العربي، كان المشهد مليئًا بالأصوات والشعارات. مشهد فوضوي يحمل في طياته أملاً عظيماً وخوفاً عميقاً في آن.

الدبلوماسي البريطاني كارين روس، كان يراقب هذه الأحداث بعين الأجنبي المتأمل. ووسط هذا الصخب كله، طرح سؤالاً على أحد المتظاهرين، سؤالاً بسيطاً لكنه جوهري: “ماذا تريدون من هذه التظاهرات؟”. وجاءه الرد صريحاً: “نريد الديمقراطية… لكن ليست ديمقراطية الغرب. تلك الديمقراطية التي أصبحت تخدم مصالح النخب وسقطت في أيدي دجالي اليمين. ما نريده هو ديمقراطية حقيقية، يحكم فيها الشعب لخدمة الشعب”.

هذا الرد ظل محفوراً في ذهن روس لسنوات، وكان الإلهام الأساسي لكتابه “ثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الحادي والعشرين”. يرى روس أن الرد الذي تلقاه من المتظاهر كان جريئاً وصادماً؛ لم يتوقع أن يُفصح شخص من العالم الثالث بهذه الثقة: “خذ ديمقراطيتك يا باشا، نحن لسنا شحاذين”.

ما زاد من قوة هذا الطرح بالنسبة الى روس هو خيبته الشخصية في الديمقراطية الغربية، التي كان شاهداً على مظاهر زيفها خلال عمله كدبلوماسي. أشار في كتابه إلى تجربة الحرب على العراق عام 2003، عندما تمكنت الحكومات الغربية من تمرير الحرب بفضل الأكاذيب السياسية. هذه الصدمة لم تقتصر على روس وحده، بل طاولت العالم العربي بشكل أوسع، خصوصاً مع الأحداث التي أعقبت هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر وتصاعد أزمة الأقصى.

الديمقراطية الغربية، التي لطالما اعتُبرت نموذجاً للحكم العادل، أظهرت عيوبها ليس فقط من خلال الجرائم المرتكبة باسمها، ولكن أيضاً من خلال تجاهل إرادة الشعوب الغربية نفسها. تظاهرات واحتجاجات حاشدة في أوروبا وأميركا، تطالب حكوماتها بالالتزام بالقانون الدولي والكف عن مساندة الاحتلال الإسرائيلي، تم تجاهلها بشكل صارخ، ما زعزع ثقة الكثيرين في الديمقراطية كنظام سياسي.

في عام 2019، وفي مؤتمر علماء النفس السياسي في لشبونة، طرح الباحث شون روزنبرغ ورقة بحثية أثارت جدلاً واسعاً. قدم روزنبرغ فكرة مفادها أن الديمقراطية الغربية تأكل نفسها، وأنها ستنهار مع الوقت، ليس بسبب زعماء مثل ترامب، الذين يعتبرهم مجرد أعراض للمشكلة، ولكن بسبب طبيعة البشر أنفسهم. فقدرة الناس على التفكير النقدي وإدارة الاختلافات محدودة، وهذه القيود العقلية والعاطفية تجعل الديمقراطية في خطر دائم.

طرح روزنبرغ كان صادماً الى درجة أنه أثار غضب العلماء الحاضرين، إذ رفض البعض الاستماع، بينما غادر آخرون القاعة. نظريته اعتُبرت انتقاداً عميقًا لفكرة الديمقراطية، وعلى رغم ذلك، فهي تتوافق مع واقع صعود اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا، وانتخاب زعماء يستغلون خوف الناس وغضبهم، مثل فيكتور أوربان في المجر وناريندرا مودي في الهند.

لكن، هل الديمقراطية كنظام سياسي كذبة كبرى؟ إذا كنا ندرك الآن عيوبها الجوهرية، فما هو البديل؟ سؤال مفتوح أمام الإنسانية، بلا إجابة قاطعة حتى الآن.

إعادة التفكير في الديمقراطية: أزمة النموذج الليبرالي في عالم متغيّر

قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، أعلن فرانسيس فوكوياما نظريته الشهيرة عن “نهاية التاريخ”، مؤكداً انتصار الديمقراطية الليبرالية كنموذج أوحد للحكم. كانت الفكرة مغرية، إذ بدا وكأن البشرية وصلت إلى غايتها النهائية، وأن الديمقراطية الغربية هي الوجهة الحتميّة لكل الأمم.

لكن، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على هذا الإعلان، تبدو صورة التاريخ بعيدة كل البعد عن التوقف عند “نهاية” واحدة. صعود قوى غير ديمقراطية مثل الصين بنجاحاتها الاقتصادية والسياسية، وروسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين، يثبت أن الديمقراطية الليبرالية ليست الخيار الحتمي الوحيد. بل على العكس، تشير تقارير مثل تلك الصادرة عن مؤسسة “فريدم هاوس”، إلى أن عدد الدول التي انحرفت عن الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة يفوق بكثير تلك التي تبنّتها.

في الوقت نفسه، تواجه الديمقراطيات الغربية أزمات اقتصادية وسياسية عميقة. حالة السخط الشعبي المتزايد تعكس أزمة ثقة بالنظام الديمقراطي، بخاصة بين الأجيال الشابة. وفقاً لياسشا مونك في كتابه “الشعب ضد الديمقراطية”، فإن الكثير من الشباب في الغرب باتوا يرون الديمقراطية كأمر ثانوي، بل ويفضّل بعضهم الأنظمة الاستبدادية الصريحة التي تبدو أكثر كفاءة في مواجهة الأزمات.

أحد أكبر التحديات التي تواجه الديمقراطية اليوم هو الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. الديمقراطية الليبرالية، التي لطالما قدمت نفسها كنموذج لتحقيق العدالة والمساواة، باتت غير قادرة على تلبية هذه الوعود. الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتّسع بشكل مقلق، والفئات الأكثر ضعفاً تعاني بصورة أكبر. الحركات الاحتجاجية، مثل “احتلوا وول ستريت” و”حياة السود مهمة”، جاءت كرد فعل مباشر على هذا الإخفاق. المفارقة هنا أن الديمقراطية، التي من المفترض أن تحمي الحقوق وتحقق العدالة، تبدو عاجزة عن معالجة القضايا الأساسية التي تهم المواطنين.

محمد نعيم، في مقاله “أكثر من شبح يطارد أوروبا”، يشير إلى أن اليمين الأوروبي، الذي يعاني من أزمة فكرية، يلجأ إلى استغلال الخطاب المناهض للمهاجرين واللاجئين كوسيلة لكسب الدعم الشعبي. في الوقت نفسه، يبدو اليسار الأوروبي فاقداً للحلول الاقتصادية الجديدة، مكتفياً بالتحذير من صعود اليمين من دون تقديم بدائل حقيقية.

هذه الأزمات تكشف عن جذور المشكلة: الديمقراطية الليبرالية أصبحت جزءاً من النظام النيوليبرالي الذي يعامل المواطن كمستهلك، ويُعلي من شأن الأسواق على حساب العدالة الاجتماعية. هذا التصور يهدد الأسس الأخلاقية للديمقراطية ويجعلها عرضة للتآكل الداخلي.

في خضم هذه الأزمات، نشهد صعوداً متزايداً للحركات الشعبوية عالمياً. زعماء مثل فيكتور أوربان في المجر ودونالد ترامب في الولايات المتحدة وجايير بولسونارو في البرازيل يجسّدون هذا التوجه. الشعبوية، على رغم وصولها إلى السلطة عبر الانتخابات الديمقراطية، تعمل على تقويض القيم الديمقراطية الليبرالية بمجرد تولّيها الحكم. هذه الحركات تعزز الانقسامات الاجتماعية وتستغلّ المخاوف الشعبية بدلاً من العمل على حل الأزمات.

الشعبوية تقدم حلولاً مبسّطة لمشكلات معقدة، لكنها في النهاية تؤدي إلى تفاقم هذه الأزمات. السياسات المبنية على خطاب الكراهية ومعاداة الأقليات تعكس فشل الديمقراطية في مواجهة تحدياتها الداخلية.

السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل الديمقراطية كنظام سياسي هي الحل الأمثل لكل المجتمعات؟ أم أننا بحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم الديمقراطية وتصميم نماذج جديدة تتناسب مع التغيرات الاقتصادية والسياسية العالمية؟

المفكر ديفيد رانسيمان، في كتابه “كيف تنتهي الديمقراطية”، يرى أن التحديات الكبرى التي تواجه الديمقراطية، مثل التغير المناخي أو الحروب النووية، ليست في متناول الأفراد العاديين، ما يدفعهم إلى الشعور بالعجز والسلبية. هذا الإحساس بالخطر الوجودي يجعل الديمقراطية، التي تتطلب التفكير الجماعي والتعاون، مهدّدة في جوهرها.

في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالعالم، بات من الضروري إعادة التفكير في النموذج الديمقراطي. الديمقراطية الغربية، التي كان فوكوياما يحتفل بها كنهاية التاريخ، لم تعد قادرة على تلبية احتياجات المجتمعات المختلفة. بدلاً من الإصرار على نموذج موحد، يجب السعي إلى بناء نظم ديمقراطية مرنة، تأخذ بالاعتبار السياقات الثقافية والاقتصادية لكل مجتمع.

المستقبل ليس واضحاً بالنسبة الى الديمقراطية الليبرالية. لكن ما هو واضح هو أن تجاهل هذه الأزمات سيقود إلى مزيد من الانقسامات والتحديات. الديمقراطية، كي تبقى، تحتاج إلى تطوير جذري يتجاوز النيوليبرالية ويعيد التركيز على الإنسان، باعتباره أساس الحكم وقلب السياسة.

التغير المناخي والديمقراطية: تحديات العصر الحديث

التغير المناخي أصبح واحداً من أبرز التحديات التي تهدد الديمقراطية في العصر الحالي. الحكومات الديمقراطية الليبرالية في الغرب، على رغم امتلاكها أدوات الحكم، تبدو عاجزة عن اتخاذ إجراءات حاسمة لمواجهة الأزمة. كاساس زامورا، رئيس منظمة “الفكرة الدولية”، يشير إلى أن هذا الفشل يعود إلى تعامل الديمقراطيات مع قضية المناخ كأمر جانبي بدلاً من وضعه في صميم السياسات العامة.

الإحباط يتزايد بين الشباب في الغرب، الذين يشعرون بخيبة أمل متنامية تجاه الأنظمة الديمقراطية التي لم تقدم حلولاً ملموسة للأزمة البيئية. هذا السخط الشعبي يفتح المجال لصعود الحركات المطالبة بتغييرات جذرية على مستوى النظامين السياسي والاقتصادي، ما يعكس الحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية تعامل الديمقراطيات مع التحديات البيئية.

ديفيد رانسيمان يلفت النظر إلى إشكالية إضافية: دور وسائل التواصل الاجتماعي في خلق صورة زائفة للديمقراطية. بدلاً من كونها ساحة للنقاش الحر، تحولت إلى منصات تديرها شركات عملاقة تسعى الى الربح من خلال توجيه المحتوى. هذا الواقع يجعل الأفراد يشعرون بمشاركة سطحية في الديمقراطية، بينما يتم استغلالهم كمستهلكين لمعلومات محددة.

يرى الفيلسوف سلافوي جيجيك أن التجارب الاقتصادية الناجحة لدول مثل الصين وسنغافورة، أثبتت أن الرأسمالية يمكن أن تزدهر بمعزل عن الديمقراطية. الرأسمالية العالمية اليوم تعمل بشكل فعال، لكن بطريقة “وحشية”، إذ لم تعد الديمقراطية شرطاً لنجاحها.

يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني الأسبق، يقدم شهادة شخصية عن هذا التناقض. يشير إلى أن الديمقراطية الليبرالية أصبحت في كثير من الأحيان خاضعة للرأسمالية العالمية. تجربته في الحكومة اليونانية أظهرت له أن السلطات المنتخبة لا تمتلك السيطرة الفعلية على السياسات الاقتصادية، التي تديرها المؤسسات المالية والشركات متعدّدة الجنسيات.

فاروفاكيس يدعو إلى إعادة توحيد السياسة مع الاقتصاد تحت مظلة الديمقراطية. هذه الخطوة، في رأيه، يمكن أن تحول الإسراف الرأسمالي إلى طاقة تساهم في تحسين حياة البشر، تمويل التقنيات الخضراء، وإنقاذ البيئة. كما يؤكد ضرورة إعادة توزيع الثروة بشكل عادل لتمكين الدول الفقيرة من الاستفادة من موارد الطاقة الخضراء وتحقيق تنمية مستدامة.

في كتابه “الليبرالية وسخطها”، يرى فرانسيس فوكوياما أن الخلل ليس في النظرية الليبرالية بحد ذاتها، بل في تطبيقها. وفقاً له، بإمكان الليبرالية أن تزدهر إذا عولجت مشكلات الفساد الاقتصادي والاجتماعي. لكنه، في الوقت ذاته، يطرح تصوراً يعمم النموذج الأميركي للعالم بأسره، متجاهلاً السياقات المحلية المختلفة، ما يجعله غير قابل للتطبيق عالمياً.

المفارقة تكمن في أن القيم الليبرالية، مثل حرية التعبير وسيادة المؤسسات وحقوق الإنسان، أصبحت مهددة بسبب ديناميكيات الرأسمالية التي تعمل ضمن الإطار الليبرالي. هذه الحريات، التي بقيت صامدة حتى الآن، موجودة على الرغم من الرأسمالية وليس بسببها، ما يعكس الحاجة إلى مراجعة شاملة للنموذج نفسه.

في النهاية، التحدي الأكبر للديمقراطية اليوم ليس فقط في مواجهة الأزمات الاقتصادية والبيئية، ولكن أيضاً في قدرتها على التكيف مع عصر الرقمنة وهيمنة الشركات العملاقة، بما يضمن إعادة الإحساس الحقيقي بالمشاركة والعدالة للمواطنين.

الديمقراطية بين القشرة الشكلية والصراع الحقيقي في دول العالم الثالث

واحد من الأفكار الرئيسية التي طرحها مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما “الإمبراطورية”، هو أن السلطة السياسية والاقتصادية أصبحت مشتتة في شبكة عالمية معقدة. لم تعد الدول القومية وحدها تتحكم بمصائر شعوبها كما في الماضي، بل باتت السلطة موزعة بين حكومات وشركات ومؤسسات مالية كبرى تتداخل مصالحها وتعمل معاً لتحقيق أهدافها. 

هذا التشتت يجعل من الديمقراطية تحدياً كبيراً، إذ لم يعد المواطن العادي يشعر بأن صوته أو مشاركته الانتخابية تحدث فرقاً حقيقياً. السلطة باتت في مكان آخر، تدار لصالح الشركات والمؤسسات التي تسعى الى تحقيق أرباحها الخاصة.

ديمقراطية بلا مضمون: الواقع المرير في دول العالم الثالث

في دول العالم الثالث، الديمقراطية ليست أكثر من قشرة خارجية أو حلم بعيد المنال. في كتابه The State in Africa: The Politics of the Belly، يصف جان-فرانسوا بايار الأنظمة في هذه الدول بأنها تستغل ضعف مؤسساتها بطريقة منهجية، إذ تُمنح النخب السلطة لتدير الأمور بعيداً من المساءلة والشفافية. الديمقراطية في هذه السياقات تتحول إلى أداة شكلية لتبرير الفساد وتعزيز قبضتهم على السلطة، إذ تكون الانتخابات والبرلمانات موجودة كرموز فقط، من دون أن يكون لها أثر حقيقي على حياة الناس.

النخب السياسية والاقتصادية تستخدم هذه القشرة الديمقراطية لضمان بقاء الأمور تحت سيطرتها. الانتخابات، على رغم وجودها، تتحول إلى مجرد إجراءات رمزية، إذ تكون النتائج محسومة مسبقاً لصالح القوى المسيطرة نفسها. كما يشير بايار، الفساد هنا ليس مجرد عرض جانبي، بل هو الآلية التي تبني بها النخب شبكات مصالحها، ما يجعل الديمقراطية الحقيقية أمراً مستبعداً.

مايكل مان في كتابه “مصادر القوة الاجتماعية”، يوضح أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع تُملأ كل بضع سنوات، لكنها عملية معقدة تتطلب إرادة شعبية وضغطاً مستمراً من القوى الاجتماعية. الديمقراطية، بحسب مان، ليست هبة تقدّمها الحكومات، بل هي نتيجة صراع طويل بين الشعب والنخب.

ما يميز الدول التي تنجح فيها الديمقراطية هو وجود طبقة وسطى قوية. الطبقة الوسطى تُعتبر عاملاً أساسياً في دفع عجلة الديمقراطية لأنها تمتلك الوعي السياسي والمصالح الاقتصادية التي تدفعها الى المطالبة بالمشاركة السياسية. في الدول التي تكون فيها الطبقة الوسطى ضعيفة أو غير فعالة، تظل النخب في مأمن من الضغوط الشعبية، ما يجعل الديمقراطية شكلية وغير قادرة على تحقيق التغيير المطلوب.

على رغم تشاؤم بايار وإقراره بصعوبة تغيير الأنظمة القائمة، فإن الأمل يظل معقوداً على وعي الشعوب بحقيقة اللعبة السياسية التي تُمارس عليهم. الديمقراطية لن تتحقق إلا من خلال صراع مستمر وإصرار من الشعب على تغيير الوضع الراهن.

يبقى السؤال: هل بإمكان الطبقات الشعبية والوسطى أن تعيد تشكيل نفسها وتكتسب القوة اللازمة لتحدي النخب وإحداث تغيير حقيقي؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تكمن في قدرة الناس على توحيد جهودهم والمطالبة بحقوقهم بشكل مستدام. الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد حلم بعيد، لكنها معركة طويلة تحتاج إلى وعي وصبر.

الديمقراطية: بين الحلم والواقع واستكشاف المستقبل

في النهاية، السؤال الذي طرحه المتظاهر المصري على الدبلوماسي البريطاني لم يكن مجرد تساؤل عن شكل الحكم أو النظام السياسي. كان سؤالًا أعمق عن طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعن كيفية بناء نظام يحترم حقوق الجميع، ويحقق العدالة والحرية بمعناها الحقيقي. الديمقراطية التي نحتاجها ليست بالضرورة نموذجاً مستورداً من الغرب، بل يجب أن تكون نتاجاً للاحتياجات المحلية وتطلعات الشعوب.

المستقبل يفتح أمامنا فرصاً جديدة لإعادة التفكير في الديمقراطية كنظام. يجب أن تكون هذه النظم أكثر مرونة وعدالة، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية المعاصرة. وفقًا لمايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما “الإمبراطورية”، الحل لا يكمن في الدولة التقليدية التي اعتدنا عليها، بل في مفهوم “المتعدد”.

“المتعدد” هو قوة جديدة تتكون من أفراد عاديين يختلفون في الجنس، والثقافة، والطبقة، والأيديولوجيات، لكن يجمعهم هدف واحد: رفض الوضع الراهن والرغبة في تغييره. هذا التنوع يمنحهم المرونة اللازمة للتعامل مع التحديات المختلفة. بدلاً من الاعتماد على المؤسسات الحكومية وحدها، يعتمد هؤلاء الأفراد على التعاون والتنظيم الذاتي. يخلقون أنظمة بديلة، ويبنون شبكات محلية وعالمية تعمل على تحدي النظام العالمي الكبير.

وفقاً لهاردت ونيغري، المقاومة لا يجب أن تكون قومية أو تقليدية. بل على العكس، يجب أن تكون معولمة، بالطريقة التي يعمل بها النظام الذي تواجهه. الشبكات المحلية من هذه المجموعات المختلفة تتواصل مع نظيراتها في دول أخرى، وتشكل تحالفات عالمية تمنحها قوة أكبر لمواجهة “الإمبراطورية”. بهذا الشكل، تتحول المقاومة إلى قوة متعددة الأبعاد، تجمع بين المحلي والعالمي، وبين التنوع والتضامن.

جوناثان وايت يقول إن الديمقراطية، مثل البشر، إذا فقدت قدرتها على الحلم بمستقبل جماعي أفضل، فإنها تموت. نحن بحاجة إلى إعادة تعريف الديمقراطية ليس فقط كعملية سياسية، بل كفضاء مفتوح للخيال السياسي، ولإعادة التفكير في طرق جديدة للحكم والعدالة.

سردية فرانسيس فوكوياما عن أن الديمقراطية الغربية هي الشكل الوحيد الممكن، ليست سوى محاولة لإغراء الشعوب بالخضوع للوضع القائم. إنها تسلبنا حق الحلم بمستقبل أفضل، وتصادر قدرتنا على استكشاف آفاق جديدة.

قد تبدو أفكار “المتعدد” أو المقاومة العالمية ضرباً من الخيال، لكن العالم اليوم بحاجة إلى مثل هذه الأفكار الجريئة. في ظل شعور عام بالعجز أمام إرادة النخب والقوى العالمية، سواء في دول العالم الأول أو الثالث، يصبح البحث عن بدائل سياسية واجتماعية أمراً ضرورياً.

لا أحد يملك إجابة قاطعة عن “ما العمل؟”، وربما لا تكون هناك إجابة واحدة. لكن ما نعلمه يقيناً هو أن الديمقراطية، في شكلها الحالي، تحتاج إلى إعادة تعريف جذري. علينا أن نحلم، أن نتخيل مستقبلاً أفضل، وأن نخلق فضاءً جديداً يتيح لنا استعادة السلطة، ليس فقط في صناديق الاقتراع، بل في الحياة اليومية وفي كل زاوية من زوايا المجتمع.

لأن الديمقراطية، مثلنا نحن البشر، إن لم تستطع أن تحلم، فستموت.

31.01.2025
زمن القراءة: 11 minutes

كان الإلهام الأساسي للدبلوماسي البريطاني كارين روس وراء تأليف كتاب “ثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الحادي والعشرين”، هو الرد الذي تلقاه من أحد المتظاهرين في ميدان التحرير، بعد سؤاله “ماذا تريدون من هذه التظاهرات؟”، كان الرد جريئاً وصادماً؛ لم يتوقع روس أن يُفصح شخص من “العالم الثالث” بهذه الثقة: “خذ ديمقراطيتك يا باشا، نحن لسنا شحاذين”.

في عام 2011، في وسط الميدان، وبين أجواء الغليان الثوري الذي اجتاح مصر خلال أحداث الربيع العربي، كان المشهد مليئًا بالأصوات والشعارات. مشهد فوضوي يحمل في طياته أملاً عظيماً وخوفاً عميقاً في آن.

الدبلوماسي البريطاني كارين روس، كان يراقب هذه الأحداث بعين الأجنبي المتأمل. ووسط هذا الصخب كله، طرح سؤالاً على أحد المتظاهرين، سؤالاً بسيطاً لكنه جوهري: “ماذا تريدون من هذه التظاهرات؟”. وجاءه الرد صريحاً: “نريد الديمقراطية… لكن ليست ديمقراطية الغرب. تلك الديمقراطية التي أصبحت تخدم مصالح النخب وسقطت في أيدي دجالي اليمين. ما نريده هو ديمقراطية حقيقية، يحكم فيها الشعب لخدمة الشعب”.

هذا الرد ظل محفوراً في ذهن روس لسنوات، وكان الإلهام الأساسي لكتابه “ثورة بلا قيادات: كيف سيبادر الناس العاديون إلى تولي السلطة وتغيير السياسة في القرن الحادي والعشرين”. يرى روس أن الرد الذي تلقاه من المتظاهر كان جريئاً وصادماً؛ لم يتوقع أن يُفصح شخص من العالم الثالث بهذه الثقة: “خذ ديمقراطيتك يا باشا، نحن لسنا شحاذين”.

ما زاد من قوة هذا الطرح بالنسبة الى روس هو خيبته الشخصية في الديمقراطية الغربية، التي كان شاهداً على مظاهر زيفها خلال عمله كدبلوماسي. أشار في كتابه إلى تجربة الحرب على العراق عام 2003، عندما تمكنت الحكومات الغربية من تمرير الحرب بفضل الأكاذيب السياسية. هذه الصدمة لم تقتصر على روس وحده، بل طاولت العالم العربي بشكل أوسع، خصوصاً مع الأحداث التي أعقبت هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر وتصاعد أزمة الأقصى.

الديمقراطية الغربية، التي لطالما اعتُبرت نموذجاً للحكم العادل، أظهرت عيوبها ليس فقط من خلال الجرائم المرتكبة باسمها، ولكن أيضاً من خلال تجاهل إرادة الشعوب الغربية نفسها. تظاهرات واحتجاجات حاشدة في أوروبا وأميركا، تطالب حكوماتها بالالتزام بالقانون الدولي والكف عن مساندة الاحتلال الإسرائيلي، تم تجاهلها بشكل صارخ، ما زعزع ثقة الكثيرين في الديمقراطية كنظام سياسي.

في عام 2019، وفي مؤتمر علماء النفس السياسي في لشبونة، طرح الباحث شون روزنبرغ ورقة بحثية أثارت جدلاً واسعاً. قدم روزنبرغ فكرة مفادها أن الديمقراطية الغربية تأكل نفسها، وأنها ستنهار مع الوقت، ليس بسبب زعماء مثل ترامب، الذين يعتبرهم مجرد أعراض للمشكلة، ولكن بسبب طبيعة البشر أنفسهم. فقدرة الناس على التفكير النقدي وإدارة الاختلافات محدودة، وهذه القيود العقلية والعاطفية تجعل الديمقراطية في خطر دائم.

طرح روزنبرغ كان صادماً الى درجة أنه أثار غضب العلماء الحاضرين، إذ رفض البعض الاستماع، بينما غادر آخرون القاعة. نظريته اعتُبرت انتقاداً عميقًا لفكرة الديمقراطية، وعلى رغم ذلك، فهي تتوافق مع واقع صعود اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا، وانتخاب زعماء يستغلون خوف الناس وغضبهم، مثل فيكتور أوربان في المجر وناريندرا مودي في الهند.

لكن، هل الديمقراطية كنظام سياسي كذبة كبرى؟ إذا كنا ندرك الآن عيوبها الجوهرية، فما هو البديل؟ سؤال مفتوح أمام الإنسانية، بلا إجابة قاطعة حتى الآن.

إعادة التفكير في الديمقراطية: أزمة النموذج الليبرالي في عالم متغيّر

قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي، أعلن فرانسيس فوكوياما نظريته الشهيرة عن “نهاية التاريخ”، مؤكداً انتصار الديمقراطية الليبرالية كنموذج أوحد للحكم. كانت الفكرة مغرية، إذ بدا وكأن البشرية وصلت إلى غايتها النهائية، وأن الديمقراطية الغربية هي الوجهة الحتميّة لكل الأمم.

لكن، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على هذا الإعلان، تبدو صورة التاريخ بعيدة كل البعد عن التوقف عند “نهاية” واحدة. صعود قوى غير ديمقراطية مثل الصين بنجاحاتها الاقتصادية والسياسية، وروسيا تحت قيادة فلاديمير بوتين، يثبت أن الديمقراطية الليبرالية ليست الخيار الحتمي الوحيد. بل على العكس، تشير تقارير مثل تلك الصادرة عن مؤسسة “فريدم هاوس”، إلى أن عدد الدول التي انحرفت عن الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة يفوق بكثير تلك التي تبنّتها.

في الوقت نفسه، تواجه الديمقراطيات الغربية أزمات اقتصادية وسياسية عميقة. حالة السخط الشعبي المتزايد تعكس أزمة ثقة بالنظام الديمقراطي، بخاصة بين الأجيال الشابة. وفقاً لياسشا مونك في كتابه “الشعب ضد الديمقراطية”، فإن الكثير من الشباب في الغرب باتوا يرون الديمقراطية كأمر ثانوي، بل ويفضّل بعضهم الأنظمة الاستبدادية الصريحة التي تبدو أكثر كفاءة في مواجهة الأزمات.

أحد أكبر التحديات التي تواجه الديمقراطية اليوم هو الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. الديمقراطية الليبرالية، التي لطالما قدمت نفسها كنموذج لتحقيق العدالة والمساواة، باتت غير قادرة على تلبية هذه الوعود. الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتّسع بشكل مقلق، والفئات الأكثر ضعفاً تعاني بصورة أكبر. الحركات الاحتجاجية، مثل “احتلوا وول ستريت” و”حياة السود مهمة”، جاءت كرد فعل مباشر على هذا الإخفاق. المفارقة هنا أن الديمقراطية، التي من المفترض أن تحمي الحقوق وتحقق العدالة، تبدو عاجزة عن معالجة القضايا الأساسية التي تهم المواطنين.

محمد نعيم، في مقاله “أكثر من شبح يطارد أوروبا”، يشير إلى أن اليمين الأوروبي، الذي يعاني من أزمة فكرية، يلجأ إلى استغلال الخطاب المناهض للمهاجرين واللاجئين كوسيلة لكسب الدعم الشعبي. في الوقت نفسه، يبدو اليسار الأوروبي فاقداً للحلول الاقتصادية الجديدة، مكتفياً بالتحذير من صعود اليمين من دون تقديم بدائل حقيقية.

هذه الأزمات تكشف عن جذور المشكلة: الديمقراطية الليبرالية أصبحت جزءاً من النظام النيوليبرالي الذي يعامل المواطن كمستهلك، ويُعلي من شأن الأسواق على حساب العدالة الاجتماعية. هذا التصور يهدد الأسس الأخلاقية للديمقراطية ويجعلها عرضة للتآكل الداخلي.

في خضم هذه الأزمات، نشهد صعوداً متزايداً للحركات الشعبوية عالمياً. زعماء مثل فيكتور أوربان في المجر ودونالد ترامب في الولايات المتحدة وجايير بولسونارو في البرازيل يجسّدون هذا التوجه. الشعبوية، على رغم وصولها إلى السلطة عبر الانتخابات الديمقراطية، تعمل على تقويض القيم الديمقراطية الليبرالية بمجرد تولّيها الحكم. هذه الحركات تعزز الانقسامات الاجتماعية وتستغلّ المخاوف الشعبية بدلاً من العمل على حل الأزمات.

الشعبوية تقدم حلولاً مبسّطة لمشكلات معقدة، لكنها في النهاية تؤدي إلى تفاقم هذه الأزمات. السياسات المبنية على خطاب الكراهية ومعاداة الأقليات تعكس فشل الديمقراطية في مواجهة تحدياتها الداخلية.

السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل الديمقراطية كنظام سياسي هي الحل الأمثل لكل المجتمعات؟ أم أننا بحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم الديمقراطية وتصميم نماذج جديدة تتناسب مع التغيرات الاقتصادية والسياسية العالمية؟

المفكر ديفيد رانسيمان، في كتابه “كيف تنتهي الديمقراطية”، يرى أن التحديات الكبرى التي تواجه الديمقراطية، مثل التغير المناخي أو الحروب النووية، ليست في متناول الأفراد العاديين، ما يدفعهم إلى الشعور بالعجز والسلبية. هذا الإحساس بالخطر الوجودي يجعل الديمقراطية، التي تتطلب التفكير الجماعي والتعاون، مهدّدة في جوهرها.

في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالعالم، بات من الضروري إعادة التفكير في النموذج الديمقراطي. الديمقراطية الغربية، التي كان فوكوياما يحتفل بها كنهاية التاريخ، لم تعد قادرة على تلبية احتياجات المجتمعات المختلفة. بدلاً من الإصرار على نموذج موحد، يجب السعي إلى بناء نظم ديمقراطية مرنة، تأخذ بالاعتبار السياقات الثقافية والاقتصادية لكل مجتمع.

المستقبل ليس واضحاً بالنسبة الى الديمقراطية الليبرالية. لكن ما هو واضح هو أن تجاهل هذه الأزمات سيقود إلى مزيد من الانقسامات والتحديات. الديمقراطية، كي تبقى، تحتاج إلى تطوير جذري يتجاوز النيوليبرالية ويعيد التركيز على الإنسان، باعتباره أساس الحكم وقلب السياسة.

التغير المناخي والديمقراطية: تحديات العصر الحديث

التغير المناخي أصبح واحداً من أبرز التحديات التي تهدد الديمقراطية في العصر الحالي. الحكومات الديمقراطية الليبرالية في الغرب، على رغم امتلاكها أدوات الحكم، تبدو عاجزة عن اتخاذ إجراءات حاسمة لمواجهة الأزمة. كاساس زامورا، رئيس منظمة “الفكرة الدولية”، يشير إلى أن هذا الفشل يعود إلى تعامل الديمقراطيات مع قضية المناخ كأمر جانبي بدلاً من وضعه في صميم السياسات العامة.

الإحباط يتزايد بين الشباب في الغرب، الذين يشعرون بخيبة أمل متنامية تجاه الأنظمة الديمقراطية التي لم تقدم حلولاً ملموسة للأزمة البيئية. هذا السخط الشعبي يفتح المجال لصعود الحركات المطالبة بتغييرات جذرية على مستوى النظامين السياسي والاقتصادي، ما يعكس الحاجة إلى إعادة التفكير في كيفية تعامل الديمقراطيات مع التحديات البيئية.

ديفيد رانسيمان يلفت النظر إلى إشكالية إضافية: دور وسائل التواصل الاجتماعي في خلق صورة زائفة للديمقراطية. بدلاً من كونها ساحة للنقاش الحر، تحولت إلى منصات تديرها شركات عملاقة تسعى الى الربح من خلال توجيه المحتوى. هذا الواقع يجعل الأفراد يشعرون بمشاركة سطحية في الديمقراطية، بينما يتم استغلالهم كمستهلكين لمعلومات محددة.

يرى الفيلسوف سلافوي جيجيك أن التجارب الاقتصادية الناجحة لدول مثل الصين وسنغافورة، أثبتت أن الرأسمالية يمكن أن تزدهر بمعزل عن الديمقراطية. الرأسمالية العالمية اليوم تعمل بشكل فعال، لكن بطريقة “وحشية”، إذ لم تعد الديمقراطية شرطاً لنجاحها.

يانيس فاروفاكيس، وزير المالية اليوناني الأسبق، يقدم شهادة شخصية عن هذا التناقض. يشير إلى أن الديمقراطية الليبرالية أصبحت في كثير من الأحيان خاضعة للرأسمالية العالمية. تجربته في الحكومة اليونانية أظهرت له أن السلطات المنتخبة لا تمتلك السيطرة الفعلية على السياسات الاقتصادية، التي تديرها المؤسسات المالية والشركات متعدّدة الجنسيات.

فاروفاكيس يدعو إلى إعادة توحيد السياسة مع الاقتصاد تحت مظلة الديمقراطية. هذه الخطوة، في رأيه، يمكن أن تحول الإسراف الرأسمالي إلى طاقة تساهم في تحسين حياة البشر، تمويل التقنيات الخضراء، وإنقاذ البيئة. كما يؤكد ضرورة إعادة توزيع الثروة بشكل عادل لتمكين الدول الفقيرة من الاستفادة من موارد الطاقة الخضراء وتحقيق تنمية مستدامة.

في كتابه “الليبرالية وسخطها”، يرى فرانسيس فوكوياما أن الخلل ليس في النظرية الليبرالية بحد ذاتها، بل في تطبيقها. وفقاً له، بإمكان الليبرالية أن تزدهر إذا عولجت مشكلات الفساد الاقتصادي والاجتماعي. لكنه، في الوقت ذاته، يطرح تصوراً يعمم النموذج الأميركي للعالم بأسره، متجاهلاً السياقات المحلية المختلفة، ما يجعله غير قابل للتطبيق عالمياً.

المفارقة تكمن في أن القيم الليبرالية، مثل حرية التعبير وسيادة المؤسسات وحقوق الإنسان، أصبحت مهددة بسبب ديناميكيات الرأسمالية التي تعمل ضمن الإطار الليبرالي. هذه الحريات، التي بقيت صامدة حتى الآن، موجودة على الرغم من الرأسمالية وليس بسببها، ما يعكس الحاجة إلى مراجعة شاملة للنموذج نفسه.

في النهاية، التحدي الأكبر للديمقراطية اليوم ليس فقط في مواجهة الأزمات الاقتصادية والبيئية، ولكن أيضاً في قدرتها على التكيف مع عصر الرقمنة وهيمنة الشركات العملاقة، بما يضمن إعادة الإحساس الحقيقي بالمشاركة والعدالة للمواطنين.

الديمقراطية بين القشرة الشكلية والصراع الحقيقي في دول العالم الثالث

واحد من الأفكار الرئيسية التي طرحها مايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما “الإمبراطورية”، هو أن السلطة السياسية والاقتصادية أصبحت مشتتة في شبكة عالمية معقدة. لم تعد الدول القومية وحدها تتحكم بمصائر شعوبها كما في الماضي، بل باتت السلطة موزعة بين حكومات وشركات ومؤسسات مالية كبرى تتداخل مصالحها وتعمل معاً لتحقيق أهدافها. 

هذا التشتت يجعل من الديمقراطية تحدياً كبيراً، إذ لم يعد المواطن العادي يشعر بأن صوته أو مشاركته الانتخابية تحدث فرقاً حقيقياً. السلطة باتت في مكان آخر، تدار لصالح الشركات والمؤسسات التي تسعى الى تحقيق أرباحها الخاصة.

ديمقراطية بلا مضمون: الواقع المرير في دول العالم الثالث

في دول العالم الثالث، الديمقراطية ليست أكثر من قشرة خارجية أو حلم بعيد المنال. في كتابه The State in Africa: The Politics of the Belly، يصف جان-فرانسوا بايار الأنظمة في هذه الدول بأنها تستغل ضعف مؤسساتها بطريقة منهجية، إذ تُمنح النخب السلطة لتدير الأمور بعيداً من المساءلة والشفافية. الديمقراطية في هذه السياقات تتحول إلى أداة شكلية لتبرير الفساد وتعزيز قبضتهم على السلطة، إذ تكون الانتخابات والبرلمانات موجودة كرموز فقط، من دون أن يكون لها أثر حقيقي على حياة الناس.

النخب السياسية والاقتصادية تستخدم هذه القشرة الديمقراطية لضمان بقاء الأمور تحت سيطرتها. الانتخابات، على رغم وجودها، تتحول إلى مجرد إجراءات رمزية، إذ تكون النتائج محسومة مسبقاً لصالح القوى المسيطرة نفسها. كما يشير بايار، الفساد هنا ليس مجرد عرض جانبي، بل هو الآلية التي تبني بها النخب شبكات مصالحها، ما يجعل الديمقراطية الحقيقية أمراً مستبعداً.

مايكل مان في كتابه “مصادر القوة الاجتماعية”، يوضح أن الديمقراطية ليست مجرد صناديق اقتراع تُملأ كل بضع سنوات، لكنها عملية معقدة تتطلب إرادة شعبية وضغطاً مستمراً من القوى الاجتماعية. الديمقراطية، بحسب مان، ليست هبة تقدّمها الحكومات، بل هي نتيجة صراع طويل بين الشعب والنخب.

ما يميز الدول التي تنجح فيها الديمقراطية هو وجود طبقة وسطى قوية. الطبقة الوسطى تُعتبر عاملاً أساسياً في دفع عجلة الديمقراطية لأنها تمتلك الوعي السياسي والمصالح الاقتصادية التي تدفعها الى المطالبة بالمشاركة السياسية. في الدول التي تكون فيها الطبقة الوسطى ضعيفة أو غير فعالة، تظل النخب في مأمن من الضغوط الشعبية، ما يجعل الديمقراطية شكلية وغير قادرة على تحقيق التغيير المطلوب.

على رغم تشاؤم بايار وإقراره بصعوبة تغيير الأنظمة القائمة، فإن الأمل يظل معقوداً على وعي الشعوب بحقيقة اللعبة السياسية التي تُمارس عليهم. الديمقراطية لن تتحقق إلا من خلال صراع مستمر وإصرار من الشعب على تغيير الوضع الراهن.

يبقى السؤال: هل بإمكان الطبقات الشعبية والوسطى أن تعيد تشكيل نفسها وتكتسب القوة اللازمة لتحدي النخب وإحداث تغيير حقيقي؟ الإجابة ليست سهلة، لكنها تكمن في قدرة الناس على توحيد جهودهم والمطالبة بحقوقهم بشكل مستدام. الديمقراطية الحقيقية ليست مجرد حلم بعيد، لكنها معركة طويلة تحتاج إلى وعي وصبر.

الديمقراطية: بين الحلم والواقع واستكشاف المستقبل

في النهاية، السؤال الذي طرحه المتظاهر المصري على الدبلوماسي البريطاني لم يكن مجرد تساؤل عن شكل الحكم أو النظام السياسي. كان سؤالًا أعمق عن طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعن كيفية بناء نظام يحترم حقوق الجميع، ويحقق العدالة والحرية بمعناها الحقيقي. الديمقراطية التي نحتاجها ليست بالضرورة نموذجاً مستورداً من الغرب، بل يجب أن تكون نتاجاً للاحتياجات المحلية وتطلعات الشعوب.

المستقبل يفتح أمامنا فرصاً جديدة لإعادة التفكير في الديمقراطية كنظام. يجب أن تكون هذه النظم أكثر مرونة وعدالة، وأكثر قدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية المعاصرة. وفقًا لمايكل هاردت وأنطونيو نيغري في كتابهما “الإمبراطورية”، الحل لا يكمن في الدولة التقليدية التي اعتدنا عليها، بل في مفهوم “المتعدد”.

“المتعدد” هو قوة جديدة تتكون من أفراد عاديين يختلفون في الجنس، والثقافة، والطبقة، والأيديولوجيات، لكن يجمعهم هدف واحد: رفض الوضع الراهن والرغبة في تغييره. هذا التنوع يمنحهم المرونة اللازمة للتعامل مع التحديات المختلفة. بدلاً من الاعتماد على المؤسسات الحكومية وحدها، يعتمد هؤلاء الأفراد على التعاون والتنظيم الذاتي. يخلقون أنظمة بديلة، ويبنون شبكات محلية وعالمية تعمل على تحدي النظام العالمي الكبير.

وفقاً لهاردت ونيغري، المقاومة لا يجب أن تكون قومية أو تقليدية. بل على العكس، يجب أن تكون معولمة، بالطريقة التي يعمل بها النظام الذي تواجهه. الشبكات المحلية من هذه المجموعات المختلفة تتواصل مع نظيراتها في دول أخرى، وتشكل تحالفات عالمية تمنحها قوة أكبر لمواجهة “الإمبراطورية”. بهذا الشكل، تتحول المقاومة إلى قوة متعددة الأبعاد، تجمع بين المحلي والعالمي، وبين التنوع والتضامن.

جوناثان وايت يقول إن الديمقراطية، مثل البشر، إذا فقدت قدرتها على الحلم بمستقبل جماعي أفضل، فإنها تموت. نحن بحاجة إلى إعادة تعريف الديمقراطية ليس فقط كعملية سياسية، بل كفضاء مفتوح للخيال السياسي، ولإعادة التفكير في طرق جديدة للحكم والعدالة.

سردية فرانسيس فوكوياما عن أن الديمقراطية الغربية هي الشكل الوحيد الممكن، ليست سوى محاولة لإغراء الشعوب بالخضوع للوضع القائم. إنها تسلبنا حق الحلم بمستقبل أفضل، وتصادر قدرتنا على استكشاف آفاق جديدة.

قد تبدو أفكار “المتعدد” أو المقاومة العالمية ضرباً من الخيال، لكن العالم اليوم بحاجة إلى مثل هذه الأفكار الجريئة. في ظل شعور عام بالعجز أمام إرادة النخب والقوى العالمية، سواء في دول العالم الأول أو الثالث، يصبح البحث عن بدائل سياسية واجتماعية أمراً ضرورياً.

لا أحد يملك إجابة قاطعة عن “ما العمل؟”، وربما لا تكون هناك إجابة واحدة. لكن ما نعلمه يقيناً هو أن الديمقراطية، في شكلها الحالي، تحتاج إلى إعادة تعريف جذري. علينا أن نحلم، أن نتخيل مستقبلاً أفضل، وأن نخلق فضاءً جديداً يتيح لنا استعادة السلطة، ليس فقط في صناديق الاقتراع، بل في الحياة اليومية وفي كل زاوية من زوايا المجتمع.

لأن الديمقراطية، مثلنا نحن البشر، إن لم تستطع أن تحلم، فستموت.