في الساعة الخامسة إلا الربع عصراً، كانت أم إبراهيم تجهز أدوات التنفس، مع جلوسها بالقرب من مدخل البيت في أحد ضواحي طرابلس. كان ابنها أحمد الذي يبلغ من العمر عامين يتوسل من أجل البقاء، لعدم رغبته في مغادرة المنزل.
”إذا لم يعد التيار الكهربائي بحلول الساعة الخامسة مساءً، فسنتوجه إلى السوبر ماركت أو محل البقالة أو محل الجزارة القريب لاستخدام الكهرباء لديهم التي يوفرها مولد الكهرباء الخاص بهم“.
تعيش أم إبراهيم وأسرتها، منذ يونيو/حزيران الماضي، في ضائقة نتيجة أن الكهرباء لم يعد من الممكن الاعتماد عليها نظراً لتقنينها على نحو شديد، فابنها أحمد يعاني من أزمة ربو حادة ويحتاج إلى أن يوضع على جهاز مكثف للأكسجين كل أربع ساعات. ولكن ليس هناك ما يضمن أن تعود الكهرباء إلى المنزل في الوقت المناسب. وأي تأخير في عملية التنفس قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة على صحته، بما يهدد قدرته على التنفس.
بكت أم إبراهيم في أسىً قائلة ”بالأمس انقطعت الكهرباء مدة 20 ساعة! قضيتُ وابني اليوم في الشوارع من محل إلى آخر لأننا لم نكن نستطيع العثور على الوقود اللازم لتشغيل المولد“.
يعاني لبنان منذ فترة من أزمة انقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة، مما أغرق البلاد في الظلام نتيجة تأخر الحكومة في الدفع للشركة التركية المسؤولة عن ربع قدرة توليد الكهرباء في البلاد. فضلاً عن أن احتياطي النقد الأجنبي للدولة يعاني من نقص حاد في الدولار، مما يؤثر بشدة في قدرة البلاد على تأمين الموارد الأساسية.
ومع تراجع إمدادات الوقود، ارتفعت الأسعار بشكل كبير. واصطف المواطنون الحانقون لساعات طويلة في طوابير ممتدة خارج محطات الوقود في جميع أنحاء البلاد. وقد امتد نقص الوقود أيضاً إلى الديزل اللازم لتشغيل المولدات الخاصة.
نتيجة لهذا، مرت أم إبراهيم قبل أسبوع مضى بأسوأ لحظات حياتها، حين كانت على وشك أن تفقد ابنها.
فمع عجزه عن التنفس، استيقظ أحمد في منتصف الليل وهو يكاد يختنق، وكان في حاجة ماسّة إلى دخول المستشفى. أسرعت به أم إبراهيم إلى المستشفى لوضعه على جهاز التنفس، ولكن الأزمة الاقتصادية قد جردت المستشفيات تماماً من الأدوات اللازمة لعلاج الحالات أمثاله.
وعن هذا قالت أم إبراهيم بصوت متهدّج، ”طُفت بالشوارع مدة أربع ساعات بحثاً عن مستشفى لعلاج ابني. كان وجهه قد اخضرّ، وكان على وشك أن يموت بين يدَيّ“. ثم أغمضت عينيها للحظات مع عاصفة من الذكريات طافت ببالها، وأضافت بعدها ”أخبرني الأطباء قائلين ’ابنك بحاجة إلى جهاز التنفس لكي يظل على قيد الحياة‘، ولكني كنت عاجزة تماماً في تلك اللحظة“.
إقرأوا أيضاً:
أخيراً وجدت أم إبراهيم مستشفى مجهزاً للتعامل مع حالة ابنها. وقد طلب الطبيب عدة فحوصات طبية ونقله إلى العناية المركزة لمدة ثلاثة أيام لعلاج أزمة الربو الحادة التي جعلت رئتيه تمتلآن بالبلغم.
وعلى الرغم من توصية الطبيب لأم إبراهيم لترك ابنها في المستشفى لبضعة أيام أخرى، لكنها رفضت.
تتذكر ما حدث قائلةً، “لم تحضر أي ممرضة للاطمئنان على ابني سوى مرات قليلة”. مضيفةً “كاد الوقود أن ينفد من المستشفى، ونادراً ما قاموا بتشغيل المكيفات الهوائية أو الكهرباء. فقد عم الإهمال أرجاء المكان لدرجة أنني كنت أخشى الإصابة بعدوى فيروسية هناك. وبالرغم من تحسن تنفس ابني، كان الشيء الوحيد الذي أفكر فيه آنذاك هو طريقة للخروج من هذا الجحيم”.
وفي تطورات مثيرة للقلق، أعلنت المستشفيات الخاصة عن تقليل إجراء العمليات، وقصرها على استقبال الحالات الطارئة، بما في ذلك مرضى الغسيل الكلوي ومرضى السرطان، وذلك للحفاظ على ما تبقى من مواردها، بما في ذلك الوقود؛ في نهج يصفه سليمان هارون، نقيب المستشفيات الخاصة في لبنان، بأنه “نهاية العالم”، فإذا لم يتم التوصل إلى حل في وقت قريب، فإن هذا من شأنه أن يكلف المرضى حياتهم. فضلاً عن أن الأزمة الاقتصادية دفعت 25% من العاملين في القطاع الطبي إلى مغادرة البلاد، الأمر الذي جعل القطاع الصحي يعاني من نقص شديد في العاملين، مما أدى إلى مزيد من التردي في نوعية الخدمات الطبية المقدَّمة.
قصة أم إبراهيم هي واحدة من حالات كثيرة في البلاد. فقد اندلعت الاحتجاجات في مدينة طرابلس، التي تعد ثاني أكبر مدينة في لبنان، وكادت أن تتحول إلى أعمال عنف. فقد خرجت مجموعات من المدنيين المسلحين إلى الشوارع احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية المتردية، وجاء الاحتجاج في البداية بسبب صورة متداولة (تبين فيما بعد أنها مزيفة) يظهر فيها أب يجهش بالبكاء على ابنه الذي فقد حياته نتيجة انقطاع الكهرباء.
بعد تلك الحادثة ببضعة أيام، في 13 يوليو/تموز، استيقظ الناس في لبنان على أخبار مفجعة عن وفاة أب مريض فقد حياته نتيجة انقطاع مفاجئ في الكهرباء استمر فترة طويلة، ليلتقط أنفاسه الأخيرة أثناء نومه.
بسبب تلك الأحداث المؤسفة، نشر بلال العامري، وهو صاحب مقهى يبلغ من العمر 22 عاماً، منشوراً على فيسبوك يدعو فيه الناس إلى الحضور لمقهى “طرابلس بارك” لاستخدام الكهرباء لتشغيل أجهزة التنفس الخاصة بهم.
وقال بلال، “رؤية شخص يفقد حياته بسبب أمر مثل الكهرباء أصابتني بصدمة شديدة”. مضيفاً، “منذ تلك اللحظة، اتخذنا القرار بإبقاء المقهى مفتوحاً على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، ونشر ذلك الخبر لكي يصل إلى العائلات التي تحتاج الدعم”.
بعد يومين من كتابة هذا المنشور، تلقى بلال أكثر من 15 مكالمة هاتفية من أشخاص يسألون عما إذا كانت الأخبار صحيحة أم لا. فضلاً عن أنه تلقى العديد من الطلبات المتعلقة بأجهزة التنفس وأجهزة الاستنشاق المخصصة لمرضى الربو، ولذا بات يبحث عن مورد في محاولة لتوفيرها مجاناً.
أخذت المقاهي على عاتقها زمام المبادرة، وبدأت تستقبل المرضى الذين يحتاجون إلى الكهرباء لتشغيل أجهزة التنفس. فقد أصبحت هذه الكهرباء شريان الحياة بالنسبة لهم، بينما تكافح المستشفيات نفسها من أجل الحصول على الكهرباء.
“في خضم هذه المصاعب التي نمر بها، بدأ الناس يفقدون الأمل. ولذا نريد أن نغرس بذرة الأمل ونوصل رسالة إلى الآخرين أننا جميعاً سيساعد بعضنا البعض، ونشجع المبادرات المماثلة”.
وقد استجابت مقاهٍ عديدة لدعوته في طرابلس، وبدأت في توفير الكهرباء للمرضى المحتاجين إليها.
إقرأوا أيضاً: