“مصيرنا لا تمكن مقارنته بمصير اليهود، هؤلاء تم لمّ شملهم من كل الأصقاع ليستقروا في وطن له كيان، أما نحن فمنذ قرن نُطرد من وطننا نحو الشتات إلى أن ضاعت هويتنا”.
بمرارة يتحدث متي كوركيس (67 سنة)، المسيحي النازح من سهل نينوى التي شهدت انتشار المسيحية منذ القرن الرابع الميلادي، معلقاً على التحذير الذي أطلقه رئيس الطائفة الكلدانية البطريرك الكاردينال لويس ساكو، أكبر الطوائف المسيحية في العراق، من أن مصير رعيته والمسيحيين عموماً قد يكون “كمصير اليهود عام 1948” حين انتهى وجودهم في العراق.
مثل كوركيس الذي يقيم في إربيل، يعبر الكثير من المسيحيين عن قناعتهم بأن وجودهم في العراق “لم يعد مهدداً فحسب بل أصبح مسألة وقت”. يقول الأربعيني فادي س. الذي يعمل في محل لبيع المواد الغذائية والمشروبات في دهوك، والذي نزح بدوره من سهل نينوى مطلع آب/ أغسطس 2014 خلال هجوم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” على المنطقة، “لا يمكن تجميل الواقع، ولا إعادة الزمن إلى الوراء بالحديث عن التعايش المتأصل وعن الحقوق الدستورية، أنا ومثلي آلاف الناس، لن نعود إلى بلداتنا وسنهاجر مع أول فرصة تتاح أمامنا”.
على رغم اتخاذ خطوات عدة لتشجيع عودة النازحين والمهجرين المسيحيين إلى مناطقهم بعد تدمير قوة “داعش” وإنهاء دولته، وبدء عمليات إعادة الإعمار وتوقيع الرئيس الأميركي على قانون “الإغاثة والمساءلة عن الابادة الجماعية في العراق وسوريا بحق الأقليات”، والذي بموجبه تُقدَّم المساعدات الإنسانية ومساعدات الاستقرار والانتعاش للأقليات في البلدين، إلا أن خيار الهجرة ما زال “يتصدر جملة الهواجس التي تلف مخيلة المسيحيين” بحسب فادي.
يرجع مسيحيون ذلك إلى عوامل عدة، منها “غياب الثقة بالدولة لناحية الأمن والاقتصاد والقانون”، واستمرار الصراع بين حكومتي إربيل وبغداد حول المناطق المتنازع عليها وضمنها سهل نينوى حيث تنتشر البلدات المسيحية، إلى جانب عوامل جذب خارجية.
أرقام صادمة
وكانت منظمات مسيحية تقدر عدد المسيحيين في سهل نينوى وحده بأكثر من 100 ألف شخص، قبل أن يُهجّر تنظيم “داعش” 90 في المئة منهم عقب سيطرته على معظم محافظة نينوى منتصف عام 2014، ليجدوا أنفسهم في محافظتي إربيل ودهوك القريبتين، فيما البقية ظلت في مناطقها الخاضعة لسيطرة قوات البيشمركة الكردية والتي لم يصلها “داعش”، كناحية القوش وبعض القرى التابعة لها.
تشير بيانات تقديرية لمنظمات وأحزاب مسيحية، إلى أن نسبة العائدين بعد استعادة المنطقة في 2017، لا تتجاوز الـ50 في المئة كمعدل عام. قضاء الحمدانية (نحو 32 كلم جنوب شرقي الموصل) وحده كان يقطنه نحو 67 ألف مسيحي، يتوزع 50 ألفاً منهم في قره قوش (بغديدا) وهي مركز القضاء وأكبر مستوطنة مسيحية في منطقة سهل نينوى، لم يعد إليها سوى 65 في المئة، وأقل من هذه النسبة بكثير في بلدة كرمليس المجاورة (28 كلم عن الموصل)، إذ كانت تضم خمسة الاف مسيحي، و17 ألفاً في ناحية برطلة (15 كلم شرق الموصل)، التي لم يصل عدد العائدين إليها إلى 40 في المئة.
أما في قضاء تلكيف (18 كلم شمال الموصل) ويضم بلدات باطنايا وتللسقف وباقوفا، فإن عدد سكانه من المسيحيين كان يزيد على 35 ألفا، لم تعد إليه سوى 30 إلى 40 عائلة، ولم تسجل بلدة باطنايا التي كانت الساتر الفاصل بين البيشمركة وتنظيم “داعش”، أي حالات عودة من مجموع 1000 أسرة، وفي بلدة الشرفية التي كانت تضم أكثر من 200 أسرة لم يبق فيها سوى20 عائلة فقط.
وعادت بضع عشرات من العائلات إلى مدينة الموصل من أصل 1400 أسرة، كان خيّرها التنظيم المتطرف بين الدخول في الإسلام أو دفعة الجزية أو المغادرة.
“ثقة المسيحي شبه معدومة بقدرة الدولة على التحرك، إلى جانب تفشي الفساد وغياب العدالة الانتقالية والعجز عن محاسبة مرتكبي الجرائم التي تعرضوا لها”
ويتوقع الخوري اسقف ثابت حبيب كاهن كنيسة كرمليس، ألا يتجاوز مجموع العائدين الـ45 في المئة، فيما يقدر نسبة إعمار البيوت المتضررة بنحو 50 في المئة. هذا عدا عن البيوت المهدمة كلياً التي تحتاج إلى البناء من جديد ولم تخصص لها بعد مساعدات فعلية.
ويعلق على التحذيرات بشأن نهاية الوجود المسيحي في العراق، قائلا “هذا ليس أول أو آخر تحذير تطلقه المراجع الكنسية كون واقع الهجرة مزمن”.
ويعتقد الكاهن أن شروط إعطاء جرعة أمل للبقاء والثبات تبدأ من خلال “عمل حقيقي لإعادة إعمار البنية التحتية فالمسألة ما زالت على الرف، وتنفيذ الحكومة لوعودها بتعويض الموظفين وتوفير فرص العمل، خصوصاً أن شريحة من شبابنا تتمسك بالبقاء في مدن كردستان نتيجة لذلك، إلى جانب وجود استقرار أمني وخدماتي أفضل”.
على وقع الهجرة المزمنة، وفي كل مرة يُقرع “ناقوس الخطر” تظهر بيانات تعداد المسيحيين تراجعاً واضحاً، وان كانت غالباً أرقاماً تقديرية لغياب تعداد عام وطني للسكان، وعدم توفر بيانات دقيقة لدى الكنائس بفعل استمرار الهجرة وأسباب فنية. والرقم التقديري الأكثر تداولاً يوضح تقلص العدد الإجمالي للمسحيين في العراق إلى أقل من 300 ألف، بعدما كان يتجاوز المليون ونصف المليون قبل الغزو الأميركي للعراق في نيسان/ أبريل 2003. لكن ذلك لا يعني أن هجرة هذه الأقلية خلال فترة الحكومات المتلاحقة قبل 2003 لم تكن حاصلة وإن كانت على خطى بطيئة.
البطالة والبنية التحتية
يتفق معظم المسؤولين المعنيين بملف عودة النازحين والمهجرين إلى مناطقهم في محافظة نينوى، على أن تباطؤ عمليات الإعمار واستفحال البطالة، يتقدمان الأسباب التي تقف حائلاً دون عودة الأهالي ودون تمسك العائدين منهم بالبقاء.
يقول كوركيس، إنه ومعظم أقرانه لا يصدقون الوعود “قيل لنا سيكون هناك إعمار، نعم حصل ذلك لكنه لا يرقى أبداً إلى حجم الدمار والكارثة، فالخدمات سيئة، والبطالة متفشية، وهو ما يدفع حتى العائدين إلى مراجعة قرارهم، وهذا يحصل فعلاً”.
ويتساءل، وهو يشير إلى من حوله “الجميع يسأل عن الضمانات بعدم تكرار حدوث صدمات أخرى. لم نفق بعد من هول ما حصل. ثم كيف سيتمكن من قرر البقاء الاستقرار وسط الظروف السائدة، فقد تراجع تعدادنا وانشطرت العائلات، وما زالت مسألة مصيرية تتمثل بوجودنا لم تحل. هذا الوجود يتطلب ركائز أولها الإعمار وتحريك الاقتصاد بموازاة ضمانة الأمن”.
حياة جديدة
في دهوك، حيث نزح عشرات آلاف المسيحيين، تقول ماريا جميل (28 سنة) إن “فرص العمل معدومة بالنسبة إلى الشباب والفتيات في بلدات وقرى سهل نينوى فكيف يمكن إقناعهم بالعودة”.
وتضيف الفتاة المتخرجة من كلية الآداب، وهي تقوم بحساب مشتريات أحد الزبائن في مركز تجاري في دهوك: “لا يمكن تجاوز ما حصل بمجرد دعوة الناس إلى العودة. الأمر لا يتعلق بالأمن ولا حتى بالخدمات واعمار البيوت فقط، آلاف الفتيات وجدن فرص عمل في دهوك واربيل وتعودن على حياتهن الجديدة وليس من السهل إقناعهن بالتخلي عنها”.
وتشرح جميل ما تعتبره عائقاً كبيراً: “اليوم تعودنا على ارتياد المولات والحدائق والمقاهي إلى ساعات متأخرة من الليل، ذلك لم يكن متاحاً لنا في بلداتنا. هناك من التحق بالدراسة في الجامعات وأرسل أولاده إلى مدارس خاصة… الكثير من الفتيات يعملن في منظمات محلية ودولية، لقد تغيرت حياتهن ولا تمكنهن العودة”.
وتشغل مشكلة البطالة مخيلة الشباب. آراس ووسام وفادي، شبان من برطلة لا يتجاوز كل منهم العشرين سنة، كانوا في زيارة ترفيهية إلى اربيل، أكدوا لكاتب التحقيق أن العامل الاقتصادي أساسي في الاستقرار.
الشبان الثلاثة عبروا عن سعادتهم بعودة الحياة والأنشطة الاجتماعية إلى برطلة، لكنهم شكوا من “البطالة القاتلة التي تنعكس سلباً على المزاج والنشاط العام”.
يقول آراس الذي عمل في إربيل عقب سقوط سهل نينوى بيد “داعش” قبل أن يعود لاحقاً إلى برطلة: “لو حصلت على فرصة عمل في إربيل سأكون سعيداً، لم أعد أطيق الوضع هناك”.
وتجادل الشبان في ما بينهم، بشأن إذا ما كانت حالات هجرة العائلات التي يعرفونها مستمرة نحو بلدان الغرب، وكان الخلاف حول المعدل المرجح للمغادرين، بين من يرجح مغادرة 5 إلى 7 عائلات كل أسبوعين، وآخر يرجح مغادرة عائلة واحدة بشكل شبه يومي.
ويعتبر زعيم الحركة “الآشورية” والنائب في البرلمان العراقي يونادم كنا نسبة العائدين بـ”المحبطة”، ويعزوها إلى العامل الاقتصادي بالدرجة الأولى، وكذلك توفير الأمن عبر تولي عناصر محلية من المسيحيين لخلق “الثقة والاطمئنان”.
ويرى أن أحد أسباب ضعف نسبة العودة في تلكيف يرجع إلى “تولي قوات تحسب على المكون المسيحي، لكنها ليست منه (في إشارة إلى قوات مدعومة من الحشد الشعبي)، بعكس قرقوش وكرمليس التي يحرسهما الأهالي (عناصر مدعومة من حزب كنا)”.
الموصل بلا مسيحيين
في مركز مدينة الموصل، كان يقدر عدد المسيحيين بأكثر من 40 ألف نسمة قبل عام 2003، اليوم قد لا يصل عددهم إلى 40 شخصاً، كما يشير كنا: “العودة تقدر بواحد من 1000، وحتى هذا الواحد غير مستقر، إذ ربما يحاول إنجاز خدمته الوظيفية ليحال على التقاعد، قبل أن يغادر نهائياً”.
ويعزو ذلك إلى “غياب عامل الاطمئنان، في ظل وجود صراعات وهشاشة سلطة القانون والعدالة أيضاً”.
ويشكو كنا من أن الدوائر والمؤسسات الحكومية “تخذل المكون المسيحي عبر سياسة التمييز”. وضرب مثالاً “في عدم توظيف 10 مسيحيين للتعويض عن 800 درجة وظيفية في قطاع التربية الذين إما هاجر أصحابها أو أحيلوا إلى التقاعد”.
يعبر الكثير من المسيحيين عن قناعتهم بأن وجودهم في العراق “لم يعد مهدداً فحسب بل أصبح مسألة وقت”
ويحدد وليم وردا مسؤول علاقات “منظمة حمورابي لحقوق الإنسان”، جملة أسباب تعطل عمليات عودة المسيحيين إلى بلدات سهل نينوى والموصل بعد أكثر من سنتين على تحريرها: “العائدون تعرضوا لصدمتين، الأولى حجم الدمار الحاصل، والثانية ضعف جهود إعادة الإعمار عكس التهويل الإعلامي والتعهدات الحكومية”.
ويقول وردا ان “الأغلبية لم تتلق التعويضات التي توازي حجم الكارثة، وهناك بطالة شكلت إحباطاً في ظل غياب المشاريع المختلفة”. ويقول: “لا مقومات للبقاء والاستمرار”.
بعض المؤشرات تظهر حالات “عودة عكسية” إلى المناطق الواقعة تحت إدارة حكومة إقليم كردستان، وهو ما أكده وردا “طالما لم تتوافر مقومات البقاء بما فيها فرض القانون والعدالة والتعويض”.
ويردف “باستثناء الذين هاجروا إلى الخارج، فإنه ما زالت هناك 500 عائلة من برطلة موجودة في اربيل ودهوك، وبعض العائدين إلى بلداتهم، رجعوا مجددا إلى مدن إقليم كردستان حيث ارتبطوا بأعمال ومهن لتأمين معيشتهم”.
وعلى رغم الاستقرار الذي تشهده المناطق الكردية، لكنها غير مستثناة من هجرة المسيحيين، وإن كانت بوتيرة أقل منها عن المناطق العراقية الأخرى. يقول وردا “المسيحيون في كردستان لا يعيشون في نعيم يخلو من مشكلات”. ويشير إلى “تعرض بلداتهم لتجاوزات، في الوقت الذي يخشون من تنامي المد الأصولي”.
وتعزز المخاوف المسيحية بشأن العودة إلى مناطقهم، عودة تنظيم “داعش” لشن هجمات في محافظات عدة بينها نينوى في ظل البطالة والدمار وضعف عمليات الاعمار. وفي نيسان/ أبريل الماضي، حذر عضو مفوضية حقوق الإنسان أكرم محمد من “حصول عمليات هجرة عكسية من نينوى إلى مدن كردستان لأسباب “أمنية” وأخرى تتعلق بـ”النقص الشديد في الخدمات الضرورية”. وتوالت التحذيرات لاحقاً وسط تأكيدات مسؤولين في إقليم كردستان من تصاعد حالات العودة العكسية.
خلافات الفصائل المسلحة
كما تثير التوترات والخلافات بين الفصائل المسلحة المختلفة المنتشرة في نينوى بما فيها التابعة للحشد والجيش، مخاوف المسيحيين وبقية المكونات الصغيرة كالايزيديين من تفجر الأوضاع ووقوع اشتباكات مع سعي كل طرف إلى فرض سلطته.
وشهد سهل نينوى مطلع شهر آب/ أغسطس، توتراً عقب رفض اللواء 30 الخاص بالحشد الشعبي، الذي يضمّ في غالبيته مقاتلين من الأقليّة الشبكيّة، تنفيذ أوامر رئيس الوزراء بالتخلي عن إدارة الحواجز الأمنية على الطرف الشرقي من الموصل لمصلحة قوات من الجيش العراقي. وقام مؤيدون للواء بقطع الطريق الرئيسي بين اربيل والموصل احتجاجا على القرار، قبل ان يتم التوصل إلى اتفاق ضمن بقاء اللواء في المنطقة ولعبه دورا في ادارة الحواجز الامنية إلى جانب الجيش.
وقال النائب قصي الشبكي القريب من اللواء “سنبقى في المنطقة لحماية شعبنا”. فيما قال النائب الكردي شيروان دوبرداني في تصريحات صحافية أن “الحشد هو القوة الرئيسية في نينوى الآن وأصبح الجيش قوة ثانوية”.
ويعني استمرار وجود لواء 30، بحسب نشطاء محليين، منح الشبك “فرصة” لتغير توازن القوى في سهل نينوى لصالحهم بعد سنوات من النفوذ الكرديّ. لكن على الأرض سيكون ذلك على حساب المسيحيين والايزيديين الآخذين بالتناقص. ويرى الباحث سعد سلوم ان الصراع الدائر هناك “لا يعكس صراعاً حول أسلوب الإدارة الأمنيّة للمنطقة المتنازع عليها فحسب، بل يظهر للعلن صراعاً أعمق حول مستقبلها، وهل ستكون جزءاً من خريطة إقليم كردستان أو تظلّ تحت إدارة الحكومة الاتحاديّة في بغداد”.
الآتي أسوأ
واقع المكون المسيحي والمعطيات على الأرض، دفعت زعيم الطائفة الكلدانية ساكو في نيسان الماضي، إلى الدعوة إلى تشكيل مرجعية مسيحية موحدة وتشكيل “خلية أزمة” بغية “تدارك الأخطار المحدقة بالوجود المسيحي في العراق”.
وفي تصريحات غير مسبوقة دعا ساكو، إلى أن يكون التحرك “بمستوى المأساة وإلا فإن الآتي أسوأ”. وعلى رغم إشارته إلى تلقي الدعم من دول غربية، لكنه أقر بأن “الهجرة نخرت الجسم المسيحي”، مناشداً المسيحيين بتغيير وجهة نظرهم بدلاً من خوض “صراعات من أجل مصالح ضيقة”.
ولم يخفِ ساكو أن مدينة الموصل “قد فُرغت من مسيحييها، وأن بلدات مسيحية في سهل نينوى تتعرض لضغوطات من أجل تغيير ديموغرافيتها”.
كما شن هجوماً على القوى السياسية المسيحية وقال إن “معظمها مخترق يتبنى أجندة لا تأخذ في الاعتبار الوجود المسيحي”، في مؤشر على الانقسامات القائمة بين القوى السياسية وفي علاقتها بالمراجع الكنسية.
وأثار تحذير ساكو تحفظات إزاء الخشية من أن تساهم مثل هذه المواقف في إضعاف معنويات العائدين إلى مناطقهم وخلق حالة من الإحباط، وإن كانت الدوافع والغايات تصب في جذب الدعم والمواقف المحلية والدولية.
الناشط في مجال حقوق الإنسان وليد متوكا يرى أن نداء ساكو “هز إرادة من تبقى وخلق إحباطاً، أكثر ما يعطي جرعة تشجيعية غير مباشرة للهجرة، ويخلق انطباعاً سيئاً للراغبين في البقاء وإن كان لا يقصد ذلك، كما لن يحرك الدولة كونها لن تهتم إذا بقي مسيحي أم لا”.
ويردف “أنا أسكن في بغداد، إذا غادرت هل سيغير ذلك المعادلة بالنسبة إلى الطرف الآخر، وما هي فعالية النائب المسيحي وثقله في البرلمان إذا كان الآخر يستحوذ على الأغلبية، لقد دخلنا العملية بشكل خاطئ، ويفترض أن يكون التركيز على السياسة الخارجية لكسب ضغط دولي”.
نداءات وتحذيرات
وسبقت خطوة ساكو، توجيه ممثلي الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية والكنيسة السريانية الكاثوليكية والكنيسة السريانية الأرثوذكسية في سهل نينوى، مع أعضاء في لجنة إعادة إعمار نينوى “NRC” المشكلة من قبل الكنائس الثلاث، نداء مشتركاً موجهاً إلى “الحكومات الوطنية والوكالات الدولية”، بعنوان “نرجوكم بأن لا تكونوا متفرجين فقط وصامتين عن مأساتنا”. وطالبوا بدعم مسيحيي العراق “بينما لا يزال هناك متسع من الوقت لعودة المسيحيين إلى مناطقهم التاريخية”.
وكشفت الكنائس عن إعمار نحو 5500 منزل، فيما هناك 1390 منزلاً آخر يحتاج إلى الترميم. وأكدت تراجع وتيرة الإعمار أواخر عام 2018 “جراء الافتقار إلى الدعم المالي”.
وقدر النداء نسبة العائدين بنحو 45 في المئة من العائلات المهجرة “أكثر من 9 آلاف عائلة، بينما هناك 2000 عائلة متلهفة للعودة، لكنها لا تملك وسيلة للقيام بذلك”، وحذر من أن “عودة هذه العائلات إلى منازل باتت مسألة ملحة قبل أن تغلق نافذة الوقت، ويحتلها آخرون، والحكومة العراقية لا تميل إلى حماية هذه المنازل”.
الموقعون نبهوا المجتمع الدولي بأن المساعدات التي يقدمها ليس هدفها إعادة المهجرين فقط “بل استعادة شعورهم بالكرامة الإنسانية”، ولمعالجة “الوضع الحرج لهذه الصدمة بغية خلق الاستقرار الاقتصادي، منعاً لوقوع هذه المجتمعات في الفقر الذي سوف يدفعهم إلى اتخاذ قرار بالهجرة”.
وحذر بيان أصدرته كنيسة المشرق الآشورية في منتصف أيار/ مايو الماضي، من أن الوجود المسيحي بات مهدداً. وجاء في البيان أن منطقة الشرق الأوسط منذ أكثر من عقد تشهد إرهاباً يستهدف بشكل خاص الأقليات والمكونات الدينية والقومية. فقد تعرض المسيحيون والايزيديون إلى جرائم إبادة جماعية في العراق وسوريا حتى بات وجودهم مهدداً في وطنهم الأم الذي كان لهم دور كبير في بنائه على مدى الاف السنين من وجودهم القومي والديني فيه.
وذكر البيان أن التهديد الوجودي للتنوع الديني والقومي والثقافي “بات ملموساً على الأرض وينعكس يومياً في نزيف الهجرة التي تدرك الكنيسة حقائقه وبلغة الأرقام”.
في السياق ذاته، قال رئيس أساقفة إربيل المطران بشار وردة، في نهاية أيار الماضي، في خطاب بلندن إن “المسيحيين العراقيين على وشك الانقراض بعد 1400 عام من الاضطهاد”. وأضاف “منذ الغزو الأميركي عام 2003 تضاءل عدد المسيحيين بنسبة 83 في المئة من حوالى 1.5 مليون إلى 250 ألفاً فقط”، مشيراً إلى أن هجوم “داعش” صيف 2014 “أدى إلى نزوح أكثر من 125 ألف مسيحي من أرض أجدادهم التاريخية وتدمير الكنائس والأديرة”، وتسبب في فقدان عشرات الآلاف من المسيحيين “ثمرة عملهم طيلة حياتهم، وثمرة جهد أجيال في أماكن عيشهم عبر آلاف السنين”.
وردة، ذكر أيضاً أن الكنيسة العراقية التي تعد واحدة من أقدم الكنائس في العالم “تقترب من الانقراض”. وقال: “صادر أعداؤنا حاضرنا وكانوا يسعون إلى القضاء على تاريخنا وتدمير مستقبلنا”. وأردف: “إننا ربما نواجه نهايتنا في أرض أجدادنا، وحينها سيواجه العالم بأسره لحظة الحقيقة”.
على وقع الهجرة المزمنة، وفي كل مرة يُقرع “ناقوس الخطر” تظهر بيانات تعداد المسيحيين تراجعاً واضحاً، وان كانت غالباً أرقاماً تقديرية لغياب تعداد عام وطني للسكان، وعدم توفر بيانات دقيقة لدى الكنائس بفعل استمرار الهجرة وأسباب فنية.
غياب الدولة
وسط تلك الانتقادات والتحذيرات يرى مطران السريان الكاثوليك يوحنا بطرس موشي، أن المجتمعات المسيحية “تعود ببطء إلى الحياة”، مع عودة آلاف المسيحيين إلى مناطقهم بعد سنوات من التهجير، ولكن “التغيير الإيجابي الحاصل يتم من دون مساعدة الدولة، ويرى أن مستوى الثقة بالدولة بات ضعيفاً جداً “لأنها قدمت وعوداً كثيرة من دون تنفيذ إلا الجزء اليسير منها”. واعتبر أن ذلك “يدفع المزيد من المسيحيين للهجرة”.
ووفق موشي قامت جمعيات خيرية مسيحية بالدور الرئيسي في “إصلاح أكثر من 6300 منزلاً متضرراً” في نينوى لغاية نيسان 2019، لكن “لم يتم إعادة بناء 14 ألف منزلاً آخراً”.
يتفق الناشط وليد متوكا مع ذلك الرأي، واصفاً الإجراءات المتعلقة بعمليات الإعمار ودفع التعويضات بالبطيئة جداً “وأصبحت في حكم المؤجل”. ونوه إلى أن “التعويضات لا تتجاوز ربع قيمة الأضرار الحقيقية”.
ويقول متوكا إن الكنائس التي شكلت لجاناً وهيئات لإدارة المنح والمساعدات الدولية المقدمة من المنظمات والدول الغربية هي التي “كان لها الأثر الأفضل، وقد وصلت بعض نسب التعويضات إلى 70 في المئة من قيمة الأضرار”. ويشير إلى أن الإعمار الحاصل “لم يكن ليُنجر تحت سلطة الدولة بأضعاف هذه المدة”.
غياب الثقة بالدولة يؤكده مسؤول علاقات “منظمة حمورابي” أيضاً: “ثقة المسيحي شبه معدومة بقدرة الدولة على التحرك، إلى جانب تفشي الفساد وغياب العدالة الانتقالية والعجز عن محاسبة مرتكبي الجرائم التي تعرضوا لها”.
وفي ظل عجز الدولة عن فرض القانون “ووجود مسلحين يتبعون مرجعيات سياسية فإن فرص الاستثمار في سهل نينوى ستظل بعيدة المنال، بخاصة مع وقوعها ضمن المناطق المتنازع عليها بين حكومتي إربيل وبغداد”، يقول وليم وردا، مضيفاً: “إذا لم يقع اليوم الصراع فإنه سيقع غداً لا محال… وأي تنافر سياسي سينعكس سلباً على الأرض”.
بالنتيجة يرى النائب السابق في البرلمان العراقي جوزيف صليوا، أن فقدان الثقة بالدولة “أمنياً واقتصادياً” يُفسر قلة نسبة العائدين إلى سهل نينوى وكثرة الذين يفكرون بالهجرة.
صراع إربيل بغداد
ويلمح صليوا إلى أن ذلك ربما يفتح الباب أمام حصول تغيير ديموغرافي في مناطقهم، مبيناً أنهم “تصدوا لمحاولات بناء وحدات سكنية للشبك في برطلة ولمحاولة توزيع أراض على مواطنين ليسوا من أبناء المنطقة”.
ولا يخفي الأب ثابت حبيب، قلقه من الضبابية التي تلف مسألة إدارة منطقة سهل نينوى ومصيرها، ويقول “ذلك خلق انقساماً في الآراء حول التبعية لأي من الجانبين (إربيل وبغداد) وأيهما سيكون أفضل، وهنا قد يُتهم المسيحي بالعمل لمصلحة جهة على حساب جهة أخرى، وهذا مرفوض لأن القضية تتعلق بحقوقنا في مناطقنا قبل الأمور الحزبية أو السياسية”.
وينبه إلى أن الصراع على المنطقة والخشية من تكرار وقوع كوارث مماثلة مستقبلاً “في ظل اللادولة” يضعف إرادة أبنائها في التمسك بالبقاء، مشيراً إلى أن نسبة الذين هاجروا إلى خارج البلاد من أبناء هذه المنطقة “تصل إلى 30 في المئة منذ سقوطها تحت قبضة داعش”.
ويشاطره الرأي الناشط وليد متوكا بالقول إن “ممارسات حكومتي اربيل وبغداد نتيجة صراعهما على المنطقة، تهدد استقرار المنطقة وتضع ملف إعادة الحياة إليها على الرف، كل طرف يريد أن يقول إن هذا سيكون حالكم إذا ما بقيتم تابعين لسلطة الطرف الآخر”.
يتفق معظم من التقاهم كاتب التحقيق على وجود “عوامل جذب خارجية” وإن كانت أقل تأثيراً من عوامل الطرد الداخلية، تساهم في الدفع إلى الهجرة، أهمها انقسام الأسر “النصف الذي هاجر يسعى في الغالب إلى أن يلتحق به النصف الآخر الباقي”، مدعوماً باستقبال الدول الغربية “تحت مسميات إنسانية” مع فرق بين مستوى المعيشة وطبيعتها. إلى جانب تقديم بعض الكنائس في تلك الدول خلال فترات محددة استثناءات في منح كفالات تضمن استقبالهم رسمياً كمهاجرين.
معالجات صعبة التحقيق
بين عوامل الطرد الداخلية والجذب الخارجية، يجمع من التقاهم كاتب التحقيق، على أن وقف هجرة الأقلية المسيحية، مرهون بتحقيق جملة من المتطلبات، تبدأ بتحسين الوضع العام في البلاد، وتبني توجه سياسي ومجتمعي يطبق نظام “مدني حقيقي” ويلغي نظرة التمايز بناء على الهوية الدينية أو القومية ويلغي “تقييد الحريات بناء على معتقدات طائفة محددة”، والإسراع في إعمار البلدات المدمرة وتطوير اقتصادها، واتخاذ إجراءات للحفاظ على “هويتها المسيحية”.
لكن هناك من يطالب أيضاً بـ”توفير حماية أممية” أو “تشكيل إقليم خاص بالأقليات”، معتبراً أن من شأنه أن يحسم التداعيات السلبية التي يولدها الصراع الدائر بين حكومتي إربيل وبغداد حول تلك المناطق.
غالبية تلك المطالب يعتبرها، بائع المواد التموينية في دهوك سالم ادورد (62 سنة) بعيدة المنال في ظل “ضعف الدولة وصراع القوى المسلحة وغياب الإرادة الوطنية”. يقول أدورد وهو يطالع سجلاً كبيراً على طاولة حديدية قديمة التهم الصدأ قواعدها: “أنا منذ 30 سنة، أقيم في هذا الحي حيث كان ينتشر المسيحيون بكثافة، انظرْ إلى السجل سترى كم عائلة مسيحية هاجرت من هذه الحي وبقيت أسماؤها فقط”.
ويضيف وهو يمسح يديه من بقايا طحين علق بهما “حتى ولداي هاجرا وتركاني هنا، كانا يعيشان في الجوار… أكثر ما آلمني هو مشهد عرضهما أثات منزلهما وحتى أدوات المطبخ. يومها اجتمع الجيران بين مواسٍ وراغب في الشراء ومهنئ بالرحيل عن هذا الوطن”.
مستنداً بإحدى يديه على الطاولة ينهض ادورد ويتقدم بضع خطوات متثاقلة إلى خارج محله ويقف على حافة الرصيف، مشيراً بيده إلى كنيسة في نهاية الشارع “بعد سنوات لن تجد زواراً فيها، حدث هذا من قبل في بغداد والموصل”.
أنجز هذا التحقيق بدعم من شبكة نيريج للصحافة الاستقصائية.