“أحسست وأنا مكتومة الأنفاس ومغلقة العينين أن ذلك الشيء يقترب مني، لا يقترب من عنقي، وإنما يقترب من بطني، من مكان بين فخذي، وأدركت في تلك اللحظة أن فخذيّ قد فتحتا عن آخرهما، وأن كل فخذ قد شدت بعيداً عن الأخرى بأصابع حديدية لا تلين، وكأنما السكين أو الموسى الحاد يسقط على عنقى بالضبط، أحسست بالشيء المعدني يسقط بحدة وقوة، ويقطع من بين فخذي جزءاً من جسدي، صرخت من الألم رغم الكمامة فوق فمي”.
لم تكن معاناة الكاتبة نوال السعداوي معزولة عن معاناة المرأة المصرية في جرائم كبرى تنتهكها، مرة بحجة تعاليم الدين، ومرات بذريعة العادات والتقاليد، كانت المقاتلة الأشرس ضد جريمة “الختان” التي عانت منها على مستوى شخصي، والمفارقة أنه وبعد 60 عاماً يقترن يوم وفاتها، بموافقة مجلس الشيوخ المصري بشكل نهائي على قانون يغلظ عقوبة الختان، بمباركة الأزهر.

رحلت رائدة النسوية المصرية، نوال السعداوي، عن عمر يناهز 90 سنة، بعدما بدأت مسيرتها عام 1955، حينما أصبحت الطبيبة الشابة السمراء، أول من تكلم ضد جريمة “الختان”، فأثارت جنون الدولة، والأزهر والمجتمع. خسرت نوال وظيفتها الحكومية في دولة يوليو حديثة العهد حينها، وفتحت الباب أمام كل من بوسعه التنديد بجريمة الختان، باعتبارها “الذبح الأصغر” الذي حاصر بنات مصر على مدار عقود، ومن بعدها كتب عن الختان كُثر، منهم فتحي غانم في روايته «زينب والعرش»، وسليمان فياض فى روايته «أصوات».
المقابلة الأولى
“قرأتِ كتبي؟!..” بهذا السؤال باغتتني نوال السعداوي في أول زيارة لي إلى منزلها في آذار/ مارس 2011. كنت شابة في أوائل العشرينات لا أصدق أنني في حضرة السيدة التي حذرني الإعلام، وأساتذتي، والمجتمع من أفكارها، أومأتُ بالإيجاب، فأشارت إلي بالجلوس.
على رغم أنه كان اللقاء الأول، لكنني شعرت بالألفة نحوها، أعرفها وأعرف كل شيء عنها من كتاباتها، التي قرأتها في السر، خوفاً من تنمر الأقران، والاتهام بالجنون. تقول نوال السعداوي: “إن المجتمع لا يستطيع أن يعترف أن المرأة يمكن أن تتفوق وتنبغ دون أن تتحول إلى رجل، التفوق والنبوغ في نظر المجتمع صفة للرجل فحسب، فإذا ما أثبتت امرأة ما نبوغها بما لا يدع مجالاً للشك اعترف المجتمع بنبوغها وسحب منها شخصيتها كامرأة وضمها إلى جنس الرجال”.
تشرح نوال النظام الأبوي وأدواته، من دون استعارات واقتباسات أكاديمية، تنتقل بين العام والخاص بسلاسة. تحيك ببراعة جسوراً بين الفردانية والجماعة، لغة افتقارها الأدبيات اليسارية السياسية في حينها. هي تعرف عن الاستبداد، وتعرف كيف تفكك مفرداته لفتاة صغيرة، تبحث عن صوت يؤكد هواجسها حول النظام الأبوي، ومخاوفها من بطشه من خلال سرد قصص غاية في الذاتية، لكنها تتقاطع مع كل امرأة مصرية. لذلك ليس من الغريب أن تكون كتب نوال السعداوي هي البوابة الأولى للنسويات في مصر، والعالم العربي نحو وعي نسوي أرحب على مختلف توجهاته الأيديولوجية والثقافية.
“القهر الاقتصادي والقهر الجنسي متلازمان في حياة النساء، من مختلف الطبقات… منذ طفولتي رأيتُ القهر المزدوج الواقع على النساء الفقيرات الريفيات من أُسرتي، قهر الفقر وقهر الجنس”.
إبنة إيزيس في عداء تاريخي مع البوليس
“لا يعرف أن بيني وبين رجال البوليس عداء ثلاثة آلاف عام. منذ سيطر الاله آمون وانهارت حضارة إيزيس، وظهر إلى الوجود شيء اسمه العبودية”.
ذكرت نوال السعداوي في كتابها “رحلاتي في العالم”، وهو جزء من مذكراتها، كيف وقعت في عداء فطري بينها وبين رجال البوليس، بداية من بوليس المطار الذي يطلب منها وثيقة موافقة الزوج قبل السفر، ويرمقها كأنها هاربة من بيت الطاعة، ويجادلها ساخراً من وصفها “أنا امرأة مطلِقة” بكسر الميم، فيصر على فتح الميم، البوليس تجسيد لتمركز السلطة سواء السياسية أو الأبوية عند نوال السعداوي، لذلك كانت تتعامل بتعالٍ على سجّانها، سواء السياسي أو الجندري، وتذكر المناضلة “جين بقطر سيداروس” في مذكراتها كيف كانت نوال السعداوي تتمتع بحس ساخر وفكاهي عالٍ وقت سنجهما معاً في سجن القناطر.

إطلاق تسمية “ابنه إيزيس” على نوال السعداوي ليس كليشيه، فنوال السعداوي كانت دائماً تؤكد مسألة تجريف تاريخ النساء، وسحب البساط من تحت أقدامهن لحصرهن داخل منازل/ سجون، بعدما كانت المصريات يقدن معارك تحررية ويكتبن القوانين قبل آلاف السنوات على الأرض التي تحجر الآن على حقوق بدهية للنساء كالعمل والسفر والرداء والكلام الشجاع من دون محاكمة.
تعالج كتابات نوال السعداوي مواضيع مثل الأبوية، والجنسانية، والنوع الاجتماعي، فيما يتهمها المجتمع بأنها تتجاهل أوجاع السيدات “الحقيقية”، وأنها تركز على مواضيع صادمة، مثل الختان والجنس. ترد نوال: “القهر الاقتصادي والقهر الجنسي متلازمان في حياة النساء، من مختلف الطبقات… منذ طفولتي رأيتُ القهر المزدوج الواقع على النساء الفقيرات الريفيات من أُسرتي، قهر الفقر وقهر الجنس”.
تقول هند محمود، أكاديمية نسوية، لـ”درج”: “سبقت نوال السعداوي عصرها، لا يعرف كثر أنها من أوائل الذين تحدثوا عن جنسانية النساء وحقهن في امتلاك أجسادهن والاستمتاع بالجنس، حتى قبل النسويات الغربيات… نضالها ضد الختان من الخمسينات كان سابق عصره بسنين ضوئية”. وأضافت: “سنظل جميعاً مدينين لها لعقود طويلة، ليس فقط في مصر، بل المنطقة العربية، حيث تعد نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي أهم المنظرات النسويات اللواتي أنجبتهن المنطقة”.
الفلاح بوله أحمر
“عاصرت أربعة عهود مختلفة عشتُها وتمردتُ عليها”، كلمات نوال لم تكن ضرباً من المبالغة، فتحت حكم عبدالناصر، تم رفدها، ومصادرة كتابتها، ولاحقها الأزهر بسبب حديثها عن الختان وجنسانية المرأة.
تروي السعداوي في مذكراتها “أوراق من حياتي” أنه خلال المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962، سأل جمال عبد الناصر الجالس على المنصة “من هو الفلاح؟”، “تعكرت الوجوه وأنا أقول الفلاح هو الذي بوله أحمر، هذا ما سمعته من جدتي الفلاحة، أهناك فلاح واحد في مصر لا ينزف الدم مع البول؟! ينتشر مرض البلهارسيا في الريف بنسبة 99 في المئة”. كانت نوال السعداوي، نسوية يسارية، ترفض النظام الرأسمالي الأبوي. وحتى آخر لقاءاتها الإعلامية المحلية والدولية كانت دائماً تشدد على يساريتها، كجزء من هويتها النسوية. كلفها ردها في المؤتمر الحكومي علامة على اسمها تصفها بالمشاغبة.
“إن المجتمع لا يستطيع أن يعترف أن المرأة يمكن أن تتفوق وتنبغ دون أن تتحول إلى رجل، التفوق والنبوغ في نظر المجتمع صفة للرجل فحسب، فإذا ما أثبتت امرأة ما نبوغها بما لا يدع مجالاً للشك اعترف المجتمع بنبوغها وسحب منها شخصيتها كامرأة وضمها إلى جنس الرجال”.
المشاغبة اليسارية
لم تكن السعداوي لتهرب من مواجهة أخرى داخل التيارات التقدمية واليسارية فتقول: “لم أكن أريد الانتماء إلى أي شلة من هذه الشلَل السياسية أو الأدبية. يمين أو يسار أو إخوان أو معارضة أو حكومة. كلهم كانوا يتشابهون في النزعة للسيطرة والخداع، يتشدَّقون بالحرية والعدالة والصدق والإخلاص، حتى أَشهدَهم في الحياة الواقعية فإذا بالقول يناقض الفعل، بخاصة في ما يتعلق بعلاقة المرأة والرجل، أوعلاقة الزوج بزوجته. يتشدَّقون بالدفاع عن الطبقات الفقيرة أو النساء المقهورات. مجرد كلام لا يكلفهم شيئاً. يكتبون عن حق المرأة في الحرية والاستقلال. يتنافسون على إقامة علاقات مع المرأة المستقلة الحرة بشرط ألا تصبح زوجة لأحدهم”.
وفي عهد السادات تم اعتقالها عام 1981، ولم يطلق سراحها إلا بعد اغتياله، ومن بعدها بدأت رحلة طويلة من الصدام مع التيارات الإسلامية الأصولية، والأزهر، استمرت طوال عصر مبارك، سخرت الدولة والمتطرفون الإسلاميون الجهود لإسكاتها، إما بالتحرش القانوني أو تهديدات بالتكفير والتصفية. تم رفع عدد من القضايا ضدها مثل قضية الحسبة للتفريق بينها وبين زوجها، وتوجيه تهمة “ازدراء الأديان” إليها.
مقاتلة على كل الجبهات
لم تعجز نوال السعداوي عن المقاتلة كل تلك الجبهات، ظلت متابعة دؤوبة لنشاطها النسوي والتوعوي السياسي ورفضها قمع السلطة الأبوية متمثلة في الدولة، والدين، والمجتمع. وعلى رغم ذلك عكف الإعلام على التعامل معها كامرأة هيستيرية، تتم استضافتها في إطار عزلها اجتماعياً من جمهور محتمل، من خلال مهاجمة مظهرها وقناعاتها الدينية من دون مناقشة جادة للأفكار. وعلى خلاف نياتهم، كان هناك جيل صغير يقرأها خلسة، ويتفتح معها إدراكهم النسوي، تجلت بذوره خلال ثورة 25 يناير.
وداخل ميدان التحرير، لم تتخل نوال السعداوي، المرأة الثمانينية، عن روحها الشابة الثورية. وتجمع الشباب حولها لمناقشة الحاضر والمستقبل، تعقد الندوات، وتستقبل التلاميذ في بيتها لمناقشة سبل لإعادة إحياء مشروعها “الاتحاد النسائي المصري”، وصوغ البيانات. تشارك في مؤتمرات عالمية لمناقشة مستقبل المرأة المصرية، ما بعد يناير. تقول نوال: “سألني الصحافيون: ما هي نصيحتك للمرأة المصرية هذه الأيام؟ قلت: ليست عندي نصيحة إلا عبارة واحدة أقولها لها: ارفعي رأسك وارفعي صوتك ولا تستسلمي لأي قوة تعيدك إلى الوراء”.
إقرأوا أيضاً:
الذات والآخر
أهدت نوال السعداوي كتابها “اثنتا عشرة امرأة في السجن” الصادر عام 1982 “إلى كل من عَرف القهر في البيت أو في السجن”، فيما شددت كتاباتها ومقابلاتها على رفضها حكم الفرد، والسلطوية. لذلك أثار موقفها المؤيد من حزيران/ يونيو 2013، وما تبعه من تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي للحكم، الكثير من الاستهجان. رأى منتقدوها أنها تخلت عن عقود من النضال ضد السلطة الأبوية، وقرأوا في موقفها تناقضاً بين مبادئها المعلنة، وواقع موقفها من مآلات مسار ثورة يناير.
تقول السعداوي في حوار لـ”بي.بي.سي” عام 2018: “الذات لا تنفصل عن الآخر”، في معرض دفاعها عن إزاحة حكم الإخوان المسلمين. نوال السعداوي ذاقت خلال 3 عقود مرارة حرب شرسة مع الإسلاميين، دفعتها إلى منفى اختياري. وإذا قرأنا موقفها في إطار براغماتية نوال السعداوي خلال عقود من العمل العام، نجد في حوار لها في “الجزيرة” عام 2006، تصف إعجابها بنظام عبدالناصر مقابل استيائها من السادات: “جمال عبد الناصر كان ديكتاتورياً، كان حواليه ناس دكتاتوريين وكانت الدولة بوليسية ولكنه في نفس الوقت كان يذوّب الفوارق بين الطبقات، بمعنى أنه يقرب بين الأثرياء والفقراء إلى جانب إخلاصه في عدائه للاستعمار بحكم وبمراجعة أدبياتها”. لذا نوال السعداوي، هي ابنه تجربتها وعصرها، وليست ابنة ثورة يناير، ومتسقة مع أفكارها المولودة من رحم النصف الثاني من القرن العشرين، واشترك معها فيها كثر من أبناء جيلها. الاعتراف بأهميتها الفكرية، وعمق أثرها حتمي، بشكل لا يمحو تاريخها، لكن لا يمنعنا من نقده.
ومن المستحيل التخلي عن ميراث نوال السعداوي الفكري الذي ما زال في المواجهة النسوية الثالثة، هو أهم أدبيات النسوية المصرية المعاصرة. رحلت نوال، لكن سيظل سمار بشرتها وصراعاتها الذاتية، إلهاماً لملايين المصريات.
“مع تقدم العمر، أنظر إلى أمي فأراني، أنظر إلى نفسي، فأرى أمي، مع تقدم العمر أصبحت أشبهها، فى الشَعر الأبيض، والروح القلقة، ذابت الحدود بيني وبين أمي، أصبح لي فصيلة دمها النادرة، وقلبها العفوي الطفولي، استغناؤها عن العالم، ورنة ضحكتها المفعمة بالصلابة”.
الصراع بين الأمومة النمطية والذات الثائرة
“قطعة مني لا تزال هناك، في تلك الشقة الصغيرة، بشرتها من لون بشرتي، وأصابع يدها تشبه أصابعي، تحبو على يديها وقدميها وتتطلع بعينيها الواسعتين نحو غرفة نومي فلا تجدني، شددت جسمي كأنما سأنهض وأعود، أمومة مفاجئة على شكل حنين جارف يجهض فرحتي بالسفر، أصبح كالشجرة الأم وأنا لم أعش طفولتي بعد. أمومتي وطفولتي تعيشان داخل كياني في تناقض متوازن، وحنيني لابنتي كحنين للوطن متناقض، رغبة في الفرار”.

كتبت نوال السعداوي في تأريخ رحلاتها الأولى خارج مصر إلى باريس هذه القطعة لوصف إحساسها كأم تترك طفلة صغيرة من أجل اكتشاف العالم، تمردت نوال السعداوي كثيراً على الأدوار النمطية، حتى لو كان هذا الدور هو دور الأمومة، استطاعت أن تنفلت منه من دون أن تخل بالتوازن، بعد كل عودة لها من رحلة خارج مصر، كانت لا ترى العالم سوى من الصحن الذي تمتد إليه يد ابنتها الصغيرة، وهي تحرك فكيها الصغيرين لتمضغ الطعام بلذة.
المفارقة أن منى حلمي ابنة نوال السعداوي نشرت مقالها الأحدث في مجلة “روز اليوسف”، “في مديح “أمومة” نوال السعداوي” ولم تكن تعرف أن أمها ستموت في غضون ساعات بعد نشر المقال في عيد الأم.
تقول منى حلمي “مع تقدم العمر، أنظر إلى أمي فأراني، أنظر إلى نفسي، فأرى أمي، مع تقدم العمر أصبحت أشبهها، فى الشَعر الأبيض، والروح القلقة، ذابت الحدود بيني وبين أمي، أصبح لي فصيلة دمها النادرة، وقلبها العفوي الطفولي، استغناؤها عن العالم، ورنة ضحكتها المفعمة بالصلابة”.
إقرأوا أيضاً: