المُرجح أن أميني تعرضت لضربٍ أفضى إلى الغيبوبة ثم الموت، أما المراهقة نيكا شاكارامي فاتضح أخيراً أن مأساتها، بشاعةً ودلالةً، أسوأ بما لا يقاس.
نشرت هيئة الإذاعة البريطانية قبل أيام تقريراً، بناء على وثائق مسربة من ذراع الجمهورية الإسلامية الباطشة: الحرس الثوري يكشف لحظات الطفلة (كما تصنف في سنها هذا حسب معظم الأنظمة القانونية في العالم) الأخيرة .
ارموا جثّتها تحت الجسر!
كانت شاكارامي أحرقت حجابها في تظاهرة في طهران قبل أن تبدأ الأجهزة الأمنية بمطاردتها. أُلقي القبض عليها وبدأ مُعتقلوها (ثلاثة أفراد من مجموعة تتبع الحرس الثوري تُدعى “حزب الله” -لا علاقة بينها وبين حزب الله اللبناني- وقائدهم وسائق) جولة ًبحثاً عن مكان لإبقائها قيد الاحتجاز، كانوا في عربة لحفظ الأطعمة المثلّجة (براد متنقّل).
السائق وقائد المجموعة في مقدمة السيارة، وثلاثة رجال و المُراهقة المُعتَقلة، مقيدةً ملقاة على سطحٍ معدني في البراد المظلم تماماً، في الخلف. الوثائق المسرّبة تتحدث عن مقاومتها المستمرة لمعتقليها وسبّها المتواصل لهم (حسب زعمهم)، فما كان من أحدهم إلا أن خلع جوربه ووضعه في فمها لإسكاتها (وبالضرورة أيضاً إذلالها)، لكن هذا لم يكن كافياً “لتهدئتها”، فجثم أحدهم فوقها.
هنا تتباين الروايات بين عناصر الأمن الثلاثة. في ظلام البراد، يقول أحدهم إنه رأى زميله، صادق منجزي، الجاثم فوق الفتاة، يدس يده في سروالها، لكن منجزي أنكر التهمة قائلاً إنه لم يفعل ذلك، لكنه “شعر بالإثارة” فمدّ يده إلى مؤخرة الفتاة، التي ركلته على رغم كونها مقيدة، مما ” اضطره”، حسب تعبيره، للدفاع عن نفسه.
حينها، في ما يبدو، انهال الضرب على المراهقة المقيدة، وحين أوقف قائد المجموعة السيارة ليتحقق مما يحصل في الخلف بعد سماعه الضوضاء، كانت شاكارامي قد ماتت. وبعد اتصالٍ مع نقيبٍ في الحرس الثوري، أُلقي جثمان الفتاة تحت أحد جسور العاصمة الإيرانية.
طبقاً لهيئة الإذاعة البريطانية، فإن الوثائق المسربة، والتي تَبَين أنها جزءٌ من تحقيقٍ أوسع أجراه الحرس الثوري الإيراني في وفاة شاكارامي ، موثوق بها. انتهى الأمرُ بتوبيخ الضابط المسؤول (مرتضى جليل، الذي كان في مقدّمة السيارة)، لكن لم يعاقَب أيّ من الرجال الثلاثة الآخرين ولا حتى الأكثر مسؤولية عن موت الفتاة فيهم: صادق منجزي الذي اعتدى عليها، ثم “اضطر “للدفاع عن نفسه”، ما أدى الى قتلها.
الثلاثة، حسب التقرير المسرّب، من مجموعة غير نظامية، تتبع الحرس الثوري لكنها ليست جزءاً منه ولا تنطبق عليهم قوانينه (تُرى، ألا يعاقب أي قانون آخر على ما قاموا به؟).
بافتراض أن القصة هذه مختلقة، مُوثّق أن السلطات ضغطت على أسرة شاكارامي بُعيد وفاتها لتقبل الرواية الرسمية، وهو ما قاومه أهل الفقيدة، وموثق أيضاً أن تقرير الطبيب الشرعي تحدث عن موتها نتيجة ضربات على الرأس، وأن هذا ما أقرّت به والدتها حين تسلّمت جثة ابنتها.
إقرأوا أيضاً:
تفاصيل مروّعة
القصة متكررة، إذاً، مثلاً لا حصراً، تضاربت الأقوال والروايات أيضاً عن وفاة مهسا أميني، التي فجر موتها انتفاضة خريف 2022، علماً أن الجمهورية الإسلامية عاودت أخيراً جهودها لإجبار النساء على ارتداء الحجاب بالأساليب السابقة نفسها، ومضحك مبكٍ أن الجمهورية الإسلامية تسمي هذه الحملة “نور”، وكأن “النور” المزعوم هذا لم يقتل أحداً، ناهيك بأن يذل وينتهك جسد مراهقة في ظلام براد دامس، في تناقض صارخ مع ما يدّعي مروّجو الحجاب الإجباري سعيهم إليه.
لكن في مأساة شاكارامي بالذات، اعتماداً على التقرير الذي لخصناه، يمكننا قراءة الكثير. تفصيل لم نذكره لعب دوراً في المأساة: المجموعة التي ألقت القبض على الفتاة باعتبار دورها في التظاهرات كان قيادياً (لأنها، وهي ابنة الـ16 عاماً، اعتلت صندوق قمامة وأشعلت النار في حجابها وهي ممسكة به)، عجزت عن إيجاد مكان لاعتقالها.
مواقع الاحتجاز المختلفة كانت تغصّ بالمعتقلات والمُعتقلين، وفي أحد مراكز الاعتقال التي جُرّت إليها شاكارامي ، خشي قائد المكان من احتمال أن تسبّ الفتاة التي لم تتوقف عن الهتاف والاحتجاج في تظاهرة داخل معسكره.
تفصيل آخر: نقيب الحرس الثوري الذي أمر بإلقاء الجثة على قارعة الطريق، فسر قراره بأن وصول عدد القتلى (على يد قوات الأمن المختلفة) إلى عشرين في مراكز الاعتقال، “لن يحل أي مشكلة”.
كما في كل منظومة قمعية، وكما يخبرنا فرط العنف هنا: على عكس الظاهر، خوف القامع أكبر من خوف المقموع. لكن القصة تنبئنا أيضاً، كما المشهد كله، بمحدودية شرعية دولة الولي الفقيه كنظام سياسي، وإلا ما وصل الأمر إلى أماكن احتجاز امتلأت إلى حد خوف القائمين عليها من فقدان السيطرة على يد مراهقة عالية الصوت.
هنا أيضاً: وحشية القمع دليل على غياب الشرعية وعلى الهشاشة السياسية. أصوات كثيرة من داخل النظام تُحسب على الاعتدال، الآن وسابقاً، احتجت على سياسة فرض الحجاب وما ستجلبه من رد فعل سيضرّ بالجمهورية الإسلامية حتماً (كما ثبت حتى الآن).
لكن، من يظن نفسه يملك الحقيقة المطلقة (دينيةً كانت أم غير دينية) لن يعرف التراجع، ناهيك بالمرونة، ومن ثم سيعمل جاهداً على خنق الممارسة السياسية إن لم يقضِ عليها من أساسه، فما حاجة صاحب الحقيقة، ممثل الإمام الغائب في هذه الحالة، إلى رضا المحكومين؟ وبديهي أيضاً، أن يحتقر صاحب الحقيقة هذا من يعاديه، وأن يرى نفسه فوق المساءلة. والتابع سيتمثل نموذج المتبوع، وإن أدى النهج المتبع إلى نقيض الهدف المعلن.
واحد على الأقل ممن ألقوا القبض على شاكارامي لم يرَ غضاضة في مد يده داخل سروالها. يرى الحجاب فضيلة وفرضاً امتثالاً لمعايير أخلاقية إلهية. لكنه، وفي أشد صور السلوك الذكوري خِسةً، يعتبر التعدي على من أحرقت الحجاب حلالاً، ولا يرى داعي لالتزامه هو بالحلال دون الحرام مع حارقة الحجاب (الكافرة في نظره ربما؟). بل إنه يبرر ضربه لها الذي قتلها باضطراره الى “الدفاع عن نفسه”.
وكأنما الحرام مع أهل الحرام (حسب تصوره) حلال. هذا المنطق السقيم لا يدين دولة الولي الفقيه فحسب، بل مشروع الإسلام السياسي كله، وهو قطعاً لا يخدم الإسلام، كيفما فهمناه، لا من قريب ولا من بعيد.
من يحارب الله؟
أن تدعو الى مجتمع “أخلاقي” تضبطه سلطة حاكمة، كما نفهم من التشديد على مصطلح “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في الدستور الإيراني الحالي، وفي تطبيقاتٍ يفترض أنها متباينة للإسلام السياسي (مثلاً: داعش وطالبان)، يقود حتماً إلى حكمٍ شمولي، وفي ظل ثقافة ذكورية يصبح محل المعركة جسد المرأة وصولاً الى واقع لا يمكن تبريره بالإسلام ، اللهم إلا طبعاً بتكفير المخالف ومن ثم استباحة دمه، وفي هذا الحالة، “عرضه”. من تهم الجمهورية الإسلامية المتكررة لمعارضيها: “محاربة الله”، الدلالة وتبعاتها الكارثية لا تحتاج تفسيراً.
المضحك المبكي أن سلوكاً كهذا، كما يرينا التاريخ، محكوم، لا بالفشل فحسب، بل بتحقيق نتائج عكسية. لننحي جانباً ما نعرفه عن عداء متنامٍ بين إيرانيين كثر، بخاصة من الشباب، لكل ما له صلة بالإسلام بعد عقود من دولة تحكم باسمه في الصورة التي نرى، عبر الحدود الغربية لإيران في تركيا الحديثة سادت لعقود أفكار مصطفى كمال أتاتورك التي ذهبت في الاتجاه العكسي.
لم يمنع “أبو الأتراك” الممارسات الدينية، لكنه ضيق عليها بشدة كما هو معروف، و من خلفوه ساروا على نهجه، فهل نجحت هذه الصيغة المُغالية من العلمانية المفروضة؟ ما نجحت فيه كان إنتاج مجتمع يعاني استقطاباً حاداً يحكمه اليوم أتباع الإسلام السياسي. ثم ألا تتشابه آليات القمع وما تنتج؟ وما يفضي إليه حُكماً وقتل السياسية والحريات؟ في تركيا أفضت الكمالية إلى إردوغان، وفي إيران ربما تخرج لنا ولاية الفقيه نسخة إيرانية أكثر تطرفاً وأشد عنفاً من أتاتورك، تستمد شرعيتها من دم أمثال نيكا شاكارامي وإجرام قاتليها. في هذا “الديالكتيك” القاتل، يبدو أن منطقتنا محشورة لعقودٍ مقبلة.