لم يعد محمد حيدر (13 عاماً) من مدرسته. لن ينام في سريره، لم يعد إلى والديه ولا إلى شقيقته وشقيقه الأصغر في المنزل.
في صباح 8 تشرين الأول/ أكتوبر، قرابة السابعة والنصف، في مدينة اللاذقية الساحلية، كان الجو معتدلاً بغيومٍ متفرقة، وعلى الأرض بقايا مطرٍ خفيف مبكّر تلمع على الإسفلت. شوارع الحي كانت رطبة، وبرك صغيرة على الجوانب. في هذا الصباح، وعلى غير عادته، قرّر محمد، الطالب في الصف الثامن، أن يسبق إخوته إلى المدرسة التي لا تبعد سوى خمسين متراً عن منزله في المشروع العاشر باللاذقية.
في الشارع نفسه، أمام مدرسة محمد (مدرسة جمال داوود)، كانت تقف سيارتان، إحداهما تُصدر ضجيجاً وتُطلق زمامير متتابعة، لصرف الانتباه في ما يبدو . أما السيارة الثانية، وهي من نوع “هيونداي توسان” فضية اللون، فكان بداخلها أربعة أشخاص ملثّمين. ترجّل أحدهم وحاول إركاب محمد بالقوة، فحاول الطفل الهرب، تدخّل آخر وساعده على إجبار الطفل على الدخول إلى السيارة، ثم غادروا المكان بسرعة.
خطفوا محمد…
صادف وجود أحد الأساتذة لحظةَ الاختطاف، فحاول مطاردة السيارة، لكنها كانت تسير بسرعةٍ وتهوّر، بحسب إحدى الجارات التي شهدت الواقعة من نافذة منزلها. إلا أن الأستاذ لم يتمكّن من اللحاق بسيارة الخاطفين.
وقعت عملية الخطف في ساعات الصباح الأولى، وشهد الجيران والأساتذة وأصدقاء محمد الواقعة، فيما لم تلتقط كاميرات المراقبة سوى صورة بعيدة للسيارة من دون أي ملامح واضحة لمرتكبيها. وفي اتصال مع أحد أقرباء محمد، قال بأسف: “لم نتمكّن من تحديد هوية الخاطفين”.
وأوضح القريب في اتصال مع “درج”، أنّ العائلة لم تتلقَّ من قبل أي تهديدات. والد الطفل المخطوف طبيب، ووالدته معلمة في مدرسة ملاصقة لمدرسة محمد، وهما في حالة نفسية صعبة.
يضيف القريب: “هم جماعة بحالهن، ما عندهن مشاكل أبداً مع أي حدا، الجماعة بحالن كتير”.
في محاولة للقبض على مختطفي محمد، وقف أحد أقربائه عند مدخل اللاذقية الرئيسي، فرأى سيارات كثيرة من نوع “توسان” فضية متشابهة، وعلى رغم طلبه من الحاجز الأمني تفتيشها، لم يُعثر على شيء.
قدمت العائلة شكوى بما حصل إلى الأمن العام، وهم بانتظار أي معلومات قد تصلهم عن مصير ابنهم.
لم نتمكّن من الحديث مع والدَي محمد، اللذين قال قريب له إنهما يمران بظرفٍ نفسي قاسٍ، ويعيشان ارتباكاً وقلقاً، وينتظران أي إشارة قد تقود إلى مكان طفلهما.
تصاعد الخطف وتحوّله إلى ظاهرة مقلقة
منذ مطلع عام 2025، تشهد مناطق الساحل السوري ارتفاعاً ملحوظاً في حوادث الخطف والقتل الغامض، وسط تزايد الشعور بانفلاتٍ أمني شامل.
وبحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان (تقرير تموز/ يوليو 2025)، فقد تم توثيق أكثر من 120 حالة خطف خلال الأشهر السبعة الأولى من العام، غالبيتها في ريفي اللاذقية وطرطوس، وبعضها ارتبط بخلفيات انتقامية أو طائفية، في ظل عجز واضح للأجهزة الأمنية عن ضبط الوضع أو محاسبة المتورّطين.
وعلى رغم توالي حالات الخطف في منطقة الساحل، تابع “درج” تلك القضايا في تحقيقاتٍ سابقة، تُعدّ حالة محمد الأولى الموثّقة لطفلٍ يُستهدف بهذه الصورة في منطقة ذات غالبية علويّة. وأكدت وزارة الداخلية السورية أنها تتابع عملية الخطف وتعمل على كشف ملابساتها.
وشهدت مناطق الساحل توتراتٍ متعدّدة بلغت ذروتها في 7 آذار/ مارس، حين وقعت مجازر راح ضحيتها آلاف من أبناء الطائفة العلوية، بينهم أكثر من 60 طفلًا وطفلة وثّقهم “درج” مع “تايني هاند – يد صغيرة” في تحقيقٍ سابق.
إقرأوا أيضاً:
الناشط والحقوقي يامن حسين أكد لـ”درج” أن استمرار الخطف واتساع رقعته ووصوله الى خطف الاطفال او قتل المعلمات كما جرى في حمص “دليل على ان السلطة كرست منذ اليوم الأول سياسية الإفلات من العقاب وتعزيزه، وأنها فاشلة وغير معنية بحماية السوريين إن لم تكن متواطئة في تحطيمهم وقتلهم”…
خلفية التوتّر الطائفي والانتهاكات الممنهجة
حادثة خطف الطفل محمد تأتي في سياقٍ متوترٍ يصفه مراقبون بأنه الأخطر في الساحل السوري منذ سقوط نظام الأسد. ففي تقريرٍ صادر عن لجنة التحقيق الدولية المستقلة المعنية بسوريا (آب/ أغسطس 2025)، اعتُبرت أحداث آذار/ ىمارس في الساحل “أعمال عنف واسعة النطاق ومنهجية ضد المدنيين”، راح ضحيتها ما لا يقل عن 1400 شخص، بينهم مئات النساء والأطفال، وفق ما وثّقته أيضاً “هيومن رايتس ووتش”.
وذكر التقرير أن عمليات القتل والاختطاف والتعذيب التي حصلت في قرى ريفَي اللاذقية وطرطوس، “قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”، وأنّ بعض الانتهاكات نُفّذت على أيدي ميليشيات محلية وأجهزة أمنية تابعة للسلطة، وأخرى من جماعاتٍ مسلحةٍ مناوئة.
أما منظمة العفو الدولية، فدعت في بيان صدر في تموز/ يوليو 2025 الحكومة السورية إلى “إجراء تحقيقات عاجلة وشفافة في حالات اختطاف النساء والأطفال من أبناء الطائفة العلوية في الساحل، ومحاسبة المسؤولين عنها بغض النظر عن انتماءاتهم”.
حادثة خطف الطفل، التي تُعدّ الأخطر في سلسلة الانتهاكات التي تشهدها مناطق الساحل، خلّفت قلقاً واحتقاناً واسعاً، خصوصاً أنها أتت بعد ساعات من مقتل معلمة هي ليال غريب في حمص، وتكرار عمليات القتل على يد مجهولين.
وعقب الحادثة، دعا ناشطون وأهالٍ في الساحل السوري وحمص إلى تنفيذ إضرابٍ عام يشمل إغلاق المحال التجارية وامتناع الأهالي عن إرسال أبنائهم إلى المدارس، احتجاجاً على ما وصفوه بـ”تزايد حوادث القتل والخطف والتضييق والمعاناة الإنسانية التي تطاول أبناء الطائفة العلوية في عدد من أحياء المدينة”، مطالبين الجهات المعنية بالتدخل العاجل لوضع حدٍّ لحالة الانفلات الأمني. كما دعا ناشطون في المجال التعليمي إلى إضرابٍ تعليمي تحذيري من مغبّة استمرار الفلتان الأمني.
وبحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان (أيلول/ سبتمبر 2025)، تم توثيق أكثر من 800 ضحية مدنية في أحداث الساحل بين شهري آذار وأيلول من العام الجاري، بينهم ما لا يقل عن 35 طفلاً و22 امرأة.
كما أشارت المنظمة إلى تسجيل أكثر من 50 حالة اختفاءٍ قسري في اللاذقية وحدها، وارتفاع معدل الجرائم “غير المنسوبة” التي تُقيد ضد مجهول، ما يعكس اتساع نطاق الفلتان الأمني وضعف الضبط الفعلي في بعض المناطق.
وأوردت “هيومن رايتس ووتش” في تقريرها الأخير، أنّ بعض العائلات اضطرت إلى إجلاء أطفالها من المدارس خشية الخطف، وأنّ بعض عمليات الخطف ارتُكبت في وضح النهار أمام مؤسساتٍ تعليمية، في نمطٍ متكررٍ يعكس انعدام الردع.
في الساحل، يعيش الطلاب وأولياء الأمور حالةً من الخوف والقلق عقب ما حدث أمام المدرسة، إذ تتزايد هذه الحوادث المقلقة في محافظة اللاذقية، وسط مخاوف شعبية من تفاقم ظاهرة الاختطاف في ظل غياب الإجراءات الأمنية الرادعة.
تكشف حادثة اختطاف محمد حيدر، وما سبقها من عمليات قتلٍ وخطف، عن تآكل منظومة الأمن الاجتماعي، ما ينذر باحتقانٍ أوسع إذا لم يتم ضبطه.
واليوم، تتقاطع المطالب المحلية بالغضب الشعبي مع التحذيرات الدولية من انزلاق الساحل إلى دائرة عنفٍ جديدة قد تأخذ طابعاً انتقامياً أو طائفياً، ما لم تُتخذ إجراءات حقيقية للمحاسبة وضبط السلاح والفوضى.
وبينما يلوذ الأهالي بالصمت أو الهجرة، يعيش سكان اللاذقية وطرطوس رعباً يومياً من مشهدٍ قد يتكرر أمام مدارسهم وبيوتهم.











