fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

ها أنا أمام منزلي في عيترون… وعيني على الجليل

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

توجّهت جنوباً لأتفقّد ما تبقى من منزلنا. كانت قد وصلتني صور وفيديوهات عن حالته التقطها مغامرون وصلوا إلى بلدتي في أول يومين بعد سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية قبل أن تُقفل الحواجر الإسرائيلية السبل إليها، كنت أعرف ما حلّ به حائطاً بحائط وغرفةً بغرفة، ولكن لا شيء يوثّق ويعاين كالعين.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كآخرين، وضعتُ عيني منذ وقت طويل على منزل في الجليل، ومنذ أكثر من 16 شهراً، منذ إطلاق عملية “طوفان الأقصى” وجبهة “المشاغلة” اللبنانية، وأنا أتحيّن فرصةً للذهاب إليه، ومؤخراً صرت أنتظر بفارغ الصبر تحرير الأرض المُقام عليها كي أدخله.

تحقّقت نبوءة المتحمّسين ودارت الحرب على أرض الجليل، وكان البيت الذي وضعت عيني عليه في قلب المعركة، ولكن تحقّقت النبوءة بشكل كاريكاتوري، ومتوقَّع لغير المتحمّسين مثلي، فمنزلنا وجليلي هما في جنوب لبنان، هذه الأرض التي تشكّل جزءاً من منطقة “الجليل الأعلى” التوراتية- الرومانية، وليسا في إسرائيل. تفصيل غير مهمّ للمتحمّسين. فالجنوب وأهل الجنوب وتاريخ الجنوب وأرض الجنوب وتسمياتهم التاريخية، لا أهمية لها عند مَن لا يرون في هذا كله إلا ساحة وبنادق تتحرّك لحماية عاصمة بعيدة عنا جغرافياً وثقافياً.

توجّهت جنوباً لأتفقّد ما تبقى من منزلنا. كانت قد وصلتني صور وفيديوهات عن حالته، التقطها مغامرون وصلوا إلى بلدتي في أول يومين بعد سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية، قبل أن تُقفل الحواجر الإسرائيلية السبل إليها. 

كنت أعرف ما حلّ به حائطاً بحائط وغرفةً بغرفة، ولكن لا شيء يوثّق ويعاين كالعين. منزلنا هرم، عمره مرتبط بعمر عائلتي الصغيرة، وقارب الـ51 سنة هذا العام، ولكن رغم هرمه بقي واقفاً بين منازل حيّنا المدمّرة والأجدد منه بكثير.

شَهِدَت جدرانه على تهجير أهلي منه مرات كثيرة بين عامَيْ 1974 و1978، هرباً من قذائف المدفعية الإسرائيلية، التي كانت تنهال على بلدتي، لأن متحمّساً ما، أحبّ أن يُطلق صاروخاً عابراً للحدود، لم يتسبب يوماً بالضرر لإسرائيل، وكان يُكسب مطلقه نفوذاً في الداخل اللبناني ليتحكّم بنا.

وشَهِدَت على تخلّي الدولة اللبنانية عنه وعن أرضنا وعنا، وعلى احتلالنا، وعلى صواريخ “صديقة” كانت تسقط حوله… وبعد تحرير الجنوب في العام 2000، شهدت على حرب تموز 2006، وعلى الحرب الأخيرة التي تركتها في بلدة أُفرغِت من سكّانها طيلة 16 شهراً، لأن جهة متحمّسة صدّقت أنها قادرة على مساندة غزة، أو ربما لم تصدّق، واستجرّت علينا شبح الدمار والموت.

وصلتُ وكان بابه عصيّاً على الفتح لأن الحرب انتزعت روحه. تسلّقت الشرفة ودخلت من بابها لأجد ذكرياتي مبعثرة ومكوّمة فوق بعضها بعضاً. لم أبحث في الأكوام عن شيء لأني شعرت أن فيها كل شيء. الآن، لا أتذكر سوى صورة أختي التي لا أعرف كيف آل مصيرها إلى اعتلاء كومة من الثياب، مبتسمةً للداخل إلى غرفة النوم.

لم أعرف ماذا يجب أن أتفقّد. فقط سرت فوق الزجاج المتناثر في كل مكان. أنقذت زجاجتيْ ويسكي بحثت عنهما في الخزانة لأنهما في بالي، لسبب أجهله، منذ أشهر، منذ أن رأيت صورة لثلاثة جنود إسرائيليين يحتفلون بتقاسم زجاجة “بلاك لايبل”، وجدوها في أحد منازل إحدى قرانا الجنوبية الممنوعة علينا. في الحقيقة، وجدت ثلاث زجاجات وتركت واحدة منها، وكأنني أقول لنفسي إني عائد.

لم يخطر على بالي ألبوم الصور. لم يخطر على بالي إلا وأنا في منتصف طريق العودة إلى بيروت. تساءلت بيني وبين نفسي عن السبب، أنا الذي كنت كالجميع أفكّر في صعوبة خسارته أثناء الحرب. لم أجد إجابة. قد يكون في ذهني شيئاً لا ينفصل عن بيتنا.

في شوارع بلدتي التي جلْت فيها لأتفقّد ما بقي منها، التقيت بأصدقاء. يقفون أمام ركام منازلهم ومصالحهم، وجوههم صفراء، يقبّلون مَن يلتقون به، ويتبادلون معه عبارة “الحمدِلّا عسلامتك”، ولا يتحدثون كثيراً. أعينهم تقول بوضوح “ماذا حلّ بنا؟” و”كيف سنقف مجدداً على أقدامنا؟”. في أوقات كثيرة، لا نحتاج إلى الكلمات للتعبير عما يجول في أذهاننا. لم أسأل كثيراً. لم أُسأل كثيراً. شكل من تواطؤ على الصمت.

بلدتي عيترون صار الدخول إليها ممكناً في الثاني من شباط/ فبراير، أي بعد 483 يوماً من تهجير أهلها منها. هربوا من الموت فلحق بهم في عدّة مناسبات، موقعاً العشرات من مدنييهم في أيطو في زغرتا، وعين الدلب في صيدا، وأماكن أخرى. نحو ثلث منازلها مسوّى بالأرض، و90% من المباني المتبقية متضررة بشكل شديد أو متوسط.

أبناء قريتي لا يعرفون متى يستطيعون العودة للسكن فيها، فالركام وحده يحتاج إلى أشهر طويلة ليُزال، ولا أحد يخبرهم كيف سيُعيدون إعمار ما تهدّم، ولا يعرفون كيف سيعيشون لأنهم خسروا معظم مصادر دخلهم، وأحرقت فترة النزوح الطويلة ما كان لديهم من مدّخرات.

لا أحد يعرف كيف سيكون شكل الحياة في بلدتنا بعد الحرب. أو ربما أنا وحدي لا أعرف. لكنه بالتأكيد لن يكون كما كان. سنعيش في منازلنا والموت يحيط بنا من كل مكان. صور جيراننا الذين أخذهم الموت لن تفارقنا بسهولة. مجتمع صغير صار أشبه بعزاء كبير. أفكّر في أنني حين سأتناول القهوة تحت الصنوبرة الناجية، أمام منزلنا، لن يُلقي عليّ التحية الشاب الذي كان يوماً ما طفلاً أشقر تتكثّف في كلامه لهجتنا العيترونية، لأنه قُتل في أيطو.

انتصرنا مجدداً. ولا أمل الآن سوى أن يكون ما جرى آخر انتصاراتنا.

إقرأوا أيضاً:

12.02.2025
زمن القراءة: 4 minutes

توجّهت جنوباً لأتفقّد ما تبقى من منزلنا. كانت قد وصلتني صور وفيديوهات عن حالته التقطها مغامرون وصلوا إلى بلدتي في أول يومين بعد سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية قبل أن تُقفل الحواجر الإسرائيلية السبل إليها، كنت أعرف ما حلّ به حائطاً بحائط وغرفةً بغرفة، ولكن لا شيء يوثّق ويعاين كالعين.

كآخرين، وضعتُ عيني منذ وقت طويل على منزل في الجليل، ومنذ أكثر من 16 شهراً، منذ إطلاق عملية “طوفان الأقصى” وجبهة “المشاغلة” اللبنانية، وأنا أتحيّن فرصةً للذهاب إليه، ومؤخراً صرت أنتظر بفارغ الصبر تحرير الأرض المُقام عليها كي أدخله.

تحقّقت نبوءة المتحمّسين ودارت الحرب على أرض الجليل، وكان البيت الذي وضعت عيني عليه في قلب المعركة، ولكن تحقّقت النبوءة بشكل كاريكاتوري، ومتوقَّع لغير المتحمّسين مثلي، فمنزلنا وجليلي هما في جنوب لبنان، هذه الأرض التي تشكّل جزءاً من منطقة “الجليل الأعلى” التوراتية- الرومانية، وليسا في إسرائيل. تفصيل غير مهمّ للمتحمّسين. فالجنوب وأهل الجنوب وتاريخ الجنوب وأرض الجنوب وتسمياتهم التاريخية، لا أهمية لها عند مَن لا يرون في هذا كله إلا ساحة وبنادق تتحرّك لحماية عاصمة بعيدة عنا جغرافياً وثقافياً.

توجّهت جنوباً لأتفقّد ما تبقى من منزلنا. كانت قد وصلتني صور وفيديوهات عن حالته، التقطها مغامرون وصلوا إلى بلدتي في أول يومين بعد سريان اتفاق وقف الأعمال العدائية، قبل أن تُقفل الحواجر الإسرائيلية السبل إليها. 

كنت أعرف ما حلّ به حائطاً بحائط وغرفةً بغرفة، ولكن لا شيء يوثّق ويعاين كالعين. منزلنا هرم، عمره مرتبط بعمر عائلتي الصغيرة، وقارب الـ51 سنة هذا العام، ولكن رغم هرمه بقي واقفاً بين منازل حيّنا المدمّرة والأجدد منه بكثير.

شَهِدَت جدرانه على تهجير أهلي منه مرات كثيرة بين عامَيْ 1974 و1978، هرباً من قذائف المدفعية الإسرائيلية، التي كانت تنهال على بلدتي، لأن متحمّساً ما، أحبّ أن يُطلق صاروخاً عابراً للحدود، لم يتسبب يوماً بالضرر لإسرائيل، وكان يُكسب مطلقه نفوذاً في الداخل اللبناني ليتحكّم بنا.

وشَهِدَت على تخلّي الدولة اللبنانية عنه وعن أرضنا وعنا، وعلى احتلالنا، وعلى صواريخ “صديقة” كانت تسقط حوله… وبعد تحرير الجنوب في العام 2000، شهدت على حرب تموز 2006، وعلى الحرب الأخيرة التي تركتها في بلدة أُفرغِت من سكّانها طيلة 16 شهراً، لأن جهة متحمّسة صدّقت أنها قادرة على مساندة غزة، أو ربما لم تصدّق، واستجرّت علينا شبح الدمار والموت.

وصلتُ وكان بابه عصيّاً على الفتح لأن الحرب انتزعت روحه. تسلّقت الشرفة ودخلت من بابها لأجد ذكرياتي مبعثرة ومكوّمة فوق بعضها بعضاً. لم أبحث في الأكوام عن شيء لأني شعرت أن فيها كل شيء. الآن، لا أتذكر سوى صورة أختي التي لا أعرف كيف آل مصيرها إلى اعتلاء كومة من الثياب، مبتسمةً للداخل إلى غرفة النوم.

لم أعرف ماذا يجب أن أتفقّد. فقط سرت فوق الزجاج المتناثر في كل مكان. أنقذت زجاجتيْ ويسكي بحثت عنهما في الخزانة لأنهما في بالي، لسبب أجهله، منذ أشهر، منذ أن رأيت صورة لثلاثة جنود إسرائيليين يحتفلون بتقاسم زجاجة “بلاك لايبل”، وجدوها في أحد منازل إحدى قرانا الجنوبية الممنوعة علينا. في الحقيقة، وجدت ثلاث زجاجات وتركت واحدة منها، وكأنني أقول لنفسي إني عائد.

لم يخطر على بالي ألبوم الصور. لم يخطر على بالي إلا وأنا في منتصف طريق العودة إلى بيروت. تساءلت بيني وبين نفسي عن السبب، أنا الذي كنت كالجميع أفكّر في صعوبة خسارته أثناء الحرب. لم أجد إجابة. قد يكون في ذهني شيئاً لا ينفصل عن بيتنا.

في شوارع بلدتي التي جلْت فيها لأتفقّد ما بقي منها، التقيت بأصدقاء. يقفون أمام ركام منازلهم ومصالحهم، وجوههم صفراء، يقبّلون مَن يلتقون به، ويتبادلون معه عبارة “الحمدِلّا عسلامتك”، ولا يتحدثون كثيراً. أعينهم تقول بوضوح “ماذا حلّ بنا؟” و”كيف سنقف مجدداً على أقدامنا؟”. في أوقات كثيرة، لا نحتاج إلى الكلمات للتعبير عما يجول في أذهاننا. لم أسأل كثيراً. لم أُسأل كثيراً. شكل من تواطؤ على الصمت.

بلدتي عيترون صار الدخول إليها ممكناً في الثاني من شباط/ فبراير، أي بعد 483 يوماً من تهجير أهلها منها. هربوا من الموت فلحق بهم في عدّة مناسبات، موقعاً العشرات من مدنييهم في أيطو في زغرتا، وعين الدلب في صيدا، وأماكن أخرى. نحو ثلث منازلها مسوّى بالأرض، و90% من المباني المتبقية متضررة بشكل شديد أو متوسط.

أبناء قريتي لا يعرفون متى يستطيعون العودة للسكن فيها، فالركام وحده يحتاج إلى أشهر طويلة ليُزال، ولا أحد يخبرهم كيف سيُعيدون إعمار ما تهدّم، ولا يعرفون كيف سيعيشون لأنهم خسروا معظم مصادر دخلهم، وأحرقت فترة النزوح الطويلة ما كان لديهم من مدّخرات.

لا أحد يعرف كيف سيكون شكل الحياة في بلدتنا بعد الحرب. أو ربما أنا وحدي لا أعرف. لكنه بالتأكيد لن يكون كما كان. سنعيش في منازلنا والموت يحيط بنا من كل مكان. صور جيراننا الذين أخذهم الموت لن تفارقنا بسهولة. مجتمع صغير صار أشبه بعزاء كبير. أفكّر في أنني حين سأتناول القهوة تحت الصنوبرة الناجية، أمام منزلنا، لن يُلقي عليّ التحية الشاب الذي كان يوماً ما طفلاً أشقر تتكثّف في كلامه لهجتنا العيترونية، لأنه قُتل في أيطو.

انتصرنا مجدداً. ولا أمل الآن سوى أن يكون ما جرى آخر انتصاراتنا.

إقرأوا أيضاً: