fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

هذا الحزن “طبع في بيروت” يا جبور دويهي

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إننا في منفى فعلي عن العالم، عن التطوّر، عن الكهرباء، عن الغذاء المؤمّن للجميع، عن التقدّم الطبي الذي جعل الأدوية متوفرة والمستشفيات مجهّزة لمساعدة المرضى. إننا في منفى، العالم هناك ونحن هنا، والهوّة شاسعة.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

كل شيء محبط هنا. تستيقظ محبطاً، ثمّ تجرّ إحباطاتك معك إلى سرّك وإلى سريرك، ثم إلى نهايتك. اللافت أنك ستحصل على إحباطات متنوّعة، كأن تنقطع الكهرباء قبل أن ترسل مقالك بدقيقة، وتنظر إلى هاتفك وتجد بطاريته وقد فرغت روحها تماماً. أو كأن يكون الخبر الأسعد أن تستطيع حقن سيارتك شبه المعطّلة بتنكة بنزين، ثمّ تتذكّر أنك لن تستطيع تبذيرها في أي شيء. إنه حزن محبط، إذ عليك ترك بنزيناتك للطوارئ، فقد يمرّ أسبوع قبل أن تحصل على غيرها. أو كأن تدخل إلى المطبخ من أجل كوب ماء، ويصادفك مشهد تلفزيوني، أهالي ضحايا انفجار بيروت في 4 آب/ أغسطس يطالبون بالعدالة، ويتّهمهم أحدهم بالتجييش واستغلال الدم من أجل أهداف انتخابية لخدمة المجتمع المدني!

ثم يموت الروائي اللبناني جبور دويهي (1947- 2021)، الذي ترشحت رواياته مراراً إلى جائزة “البوكر العربية”. لقد نقص العالم وردة لتوّه…

كل يوم أشكر العالم على قناني الويسكي المخبّأة في “فيترين” الصالون عند أمي. حين أدخل إلى النوم وأتذكّر اختبار علم النفس الذي بموجبه تشكر نفسك أو الحياة على 5 أشياء حصلت معك خلال النهار، دائماً أتذكّر “فيترين” أمي، حيث تحشر الزجاجات المنعشة بين أطقم الكريستال والبورسلان الفاخر، التي تنتظر زيارة السفير الفرنسي ربّما، حتى يتم افتتاحها.

لا أعرف كيف يرفّه الواحد عن نفسه، لم يعد الأمر ينقضي بجلسة مع الأصدقاء أو كأس مع العائلة أو حتى نزهة في مكان ما. المسألة أعمق بكثير. هناك شيء مقتول في الداخل. تخيّل أنك تريد إيقاظ ميت بنزهة إلى البحر.

يطالبني أحدهم بأن أغادر الريف وأنزل إلى العاصمة حتى نلتقي. أعده بالمحاولة، ثمّ أخبره عن شعوري بأنني في المنفى، لكنني أستطرد بسرعة، المنفى لا يعني الريف، المنفى يعني الحياة كما نعيشها نحن. إننا في منفى فعلي عن العالم، عن التطوّر، عن الكهرباء، عن الغذاء المؤمّن للجميع، عن التقدّم الطبي الذي جعل الأدوية متوفرة والمستشفيات مجهّزة لمساعدة المرضى. إننا في منفى، العالم هناك ونحن هنا، والهوّة شاسعة.

صباح اليوم أعدّ لي أبي السبعينيّ مفاجأة، لقد استيقظ عند الخامسة فجراً، حمل عصاه وتوجّه إلى محطّة البنزين، وكان أوّل الواصلين إلى الطابور. أيقظني بعدها ليزف لي الخبر السعيد بأنه أمّن لي البنزين. شعرت بالشفقة عليه وعلى نفسي. مشى أبي في الحيّ وأخبر الجميع بالأمر، ونصحهم بزيارة المحطّة، ثم نام النهار كله من شدة التعب.

أنا محبطة! إنه نوع من الإحباط الذي لم أشعر به قبل الآن. يسألني صديق عن جملة، يريد أن يعرف إن كانت صحيحة. أقرأ الجملة مرّتين وأشعر بأنني لم أفهمها على رغم بساطتها. أغسل وجهي، أحاول إيقاظ عقلي، “هيا يا صاح صحصح!”. يحاول عقلي الاستجابة، لكنه لا يفلح كثيراً. أذكّر نفسي بأن لديّ بعض البنزين. تلفحني حماسة إلى الحياة، أعيد قراءة الجملة، ثم أكتبها كما يجب أو كما افترض مزاجي ساعتها، وأرسلها مع اعتذار على التأخير في الردّ.

كيلو البرغل بـ20 ألف ليرة لبنانية، قال البائع، إذاً ماذا يأكل الفقراء؟ أسأل نفسي، ثمّ أحاول ألا أفكّر بالأشياء السلبية لأنني تقريباً على حافة الهستيريا. 

أفكّر بأنني غالباً ما واجهت الحزن والعالم والتعب بالكتابة. أذكّر نفسي بأنني مهما فقدت من أشياء، الكتابة لن تغادرني وباستطاعتي التقاطها، لكنّ الكتابة كالحبّ تفلت مني حين أحتاجها بشدّة. لقد كتبت ذلك عشرات المرات، تماماً كما تعاد الحقائق العلمية المثبتة في الكتب المدرسية، كأن تدور الأرض حول الشمس، أو تتفتّح الزهور في الربيع، أو أن الكتابة كالحب تفلت مني ساعة أحتاجها بشدّة.

لا أعرف كيف يرفّه الواحد عن نفسه، لم يعد الأمر ينقضي بجلسة مع الأصدقاء أو كأس مع العائلة أو حتى نزهة في مكان ما. المسألة أعمق بكثير. هناك شيء مقتول في الداخل. تخيّل أنك تريد إيقاظ ميت بنزهة إلى البحر. 

ينتهي النهار بخبر محزن جداً، جبور دويهي رحل، يمرّ في بالي حي الأمريكان الذي جعله دويهي رواية، أتخيّل حزنه وهو حزن ينسحب الآن على جميع أحياء البلاد. إنه حزن طويل، يشمل عيون الورد (عين وردة عنوان إحدى رواياته) وإلى “ريا النهر” و”مطر حزيران” ومطر 23 تموز/ يوليو مع رحيل مؤرّخ بيروت والمدن. ماذا أخبرك يا شريد المنازل وأنت تنتقل من بيننا إلى مكان آخر؟ إنه “حزن طبع في بيروت”، وهذه قبلة نطبعها على جبينك، خذها معك، إنها محمّلة بالمحبّة.

إقرأوا أيضاً:

24.07.2021
زمن القراءة: 3 minutes

إننا في منفى فعلي عن العالم، عن التطوّر، عن الكهرباء، عن الغذاء المؤمّن للجميع، عن التقدّم الطبي الذي جعل الأدوية متوفرة والمستشفيات مجهّزة لمساعدة المرضى. إننا في منفى، العالم هناك ونحن هنا، والهوّة شاسعة.

كل شيء محبط هنا. تستيقظ محبطاً، ثمّ تجرّ إحباطاتك معك إلى سرّك وإلى سريرك، ثم إلى نهايتك. اللافت أنك ستحصل على إحباطات متنوّعة، كأن تنقطع الكهرباء قبل أن ترسل مقالك بدقيقة، وتنظر إلى هاتفك وتجد بطاريته وقد فرغت روحها تماماً. أو كأن يكون الخبر الأسعد أن تستطيع حقن سيارتك شبه المعطّلة بتنكة بنزين، ثمّ تتذكّر أنك لن تستطيع تبذيرها في أي شيء. إنه حزن محبط، إذ عليك ترك بنزيناتك للطوارئ، فقد يمرّ أسبوع قبل أن تحصل على غيرها. أو كأن تدخل إلى المطبخ من أجل كوب ماء، ويصادفك مشهد تلفزيوني، أهالي ضحايا انفجار بيروت في 4 آب/ أغسطس يطالبون بالعدالة، ويتّهمهم أحدهم بالتجييش واستغلال الدم من أجل أهداف انتخابية لخدمة المجتمع المدني!

ثم يموت الروائي اللبناني جبور دويهي (1947- 2021)، الذي ترشحت رواياته مراراً إلى جائزة “البوكر العربية”. لقد نقص العالم وردة لتوّه…

كل يوم أشكر العالم على قناني الويسكي المخبّأة في “فيترين” الصالون عند أمي. حين أدخل إلى النوم وأتذكّر اختبار علم النفس الذي بموجبه تشكر نفسك أو الحياة على 5 أشياء حصلت معك خلال النهار، دائماً أتذكّر “فيترين” أمي، حيث تحشر الزجاجات المنعشة بين أطقم الكريستال والبورسلان الفاخر، التي تنتظر زيارة السفير الفرنسي ربّما، حتى يتم افتتاحها.

لا أعرف كيف يرفّه الواحد عن نفسه، لم يعد الأمر ينقضي بجلسة مع الأصدقاء أو كأس مع العائلة أو حتى نزهة في مكان ما. المسألة أعمق بكثير. هناك شيء مقتول في الداخل. تخيّل أنك تريد إيقاظ ميت بنزهة إلى البحر.

يطالبني أحدهم بأن أغادر الريف وأنزل إلى العاصمة حتى نلتقي. أعده بالمحاولة، ثمّ أخبره عن شعوري بأنني في المنفى، لكنني أستطرد بسرعة، المنفى لا يعني الريف، المنفى يعني الحياة كما نعيشها نحن. إننا في منفى فعلي عن العالم، عن التطوّر، عن الكهرباء، عن الغذاء المؤمّن للجميع، عن التقدّم الطبي الذي جعل الأدوية متوفرة والمستشفيات مجهّزة لمساعدة المرضى. إننا في منفى، العالم هناك ونحن هنا، والهوّة شاسعة.

صباح اليوم أعدّ لي أبي السبعينيّ مفاجأة، لقد استيقظ عند الخامسة فجراً، حمل عصاه وتوجّه إلى محطّة البنزين، وكان أوّل الواصلين إلى الطابور. أيقظني بعدها ليزف لي الخبر السعيد بأنه أمّن لي البنزين. شعرت بالشفقة عليه وعلى نفسي. مشى أبي في الحيّ وأخبر الجميع بالأمر، ونصحهم بزيارة المحطّة، ثم نام النهار كله من شدة التعب.

أنا محبطة! إنه نوع من الإحباط الذي لم أشعر به قبل الآن. يسألني صديق عن جملة، يريد أن يعرف إن كانت صحيحة. أقرأ الجملة مرّتين وأشعر بأنني لم أفهمها على رغم بساطتها. أغسل وجهي، أحاول إيقاظ عقلي، “هيا يا صاح صحصح!”. يحاول عقلي الاستجابة، لكنه لا يفلح كثيراً. أذكّر نفسي بأن لديّ بعض البنزين. تلفحني حماسة إلى الحياة، أعيد قراءة الجملة، ثم أكتبها كما يجب أو كما افترض مزاجي ساعتها، وأرسلها مع اعتذار على التأخير في الردّ.

كيلو البرغل بـ20 ألف ليرة لبنانية، قال البائع، إذاً ماذا يأكل الفقراء؟ أسأل نفسي، ثمّ أحاول ألا أفكّر بالأشياء السلبية لأنني تقريباً على حافة الهستيريا. 

أفكّر بأنني غالباً ما واجهت الحزن والعالم والتعب بالكتابة. أذكّر نفسي بأنني مهما فقدت من أشياء، الكتابة لن تغادرني وباستطاعتي التقاطها، لكنّ الكتابة كالحبّ تفلت مني حين أحتاجها بشدّة. لقد كتبت ذلك عشرات المرات، تماماً كما تعاد الحقائق العلمية المثبتة في الكتب المدرسية، كأن تدور الأرض حول الشمس، أو تتفتّح الزهور في الربيع، أو أن الكتابة كالحب تفلت مني ساعة أحتاجها بشدّة.

لا أعرف كيف يرفّه الواحد عن نفسه، لم يعد الأمر ينقضي بجلسة مع الأصدقاء أو كأس مع العائلة أو حتى نزهة في مكان ما. المسألة أعمق بكثير. هناك شيء مقتول في الداخل. تخيّل أنك تريد إيقاظ ميت بنزهة إلى البحر. 

ينتهي النهار بخبر محزن جداً، جبور دويهي رحل، يمرّ في بالي حي الأمريكان الذي جعله دويهي رواية، أتخيّل حزنه وهو حزن ينسحب الآن على جميع أحياء البلاد. إنه حزن طويل، يشمل عيون الورد (عين وردة عنوان إحدى رواياته) وإلى “ريا النهر” و”مطر حزيران” ومطر 23 تموز/ يوليو مع رحيل مؤرّخ بيروت والمدن. ماذا أخبرك يا شريد المنازل وأنت تنتقل من بيننا إلى مكان آخر؟ إنه “حزن طبع في بيروت”، وهذه قبلة نطبعها على جبينك، خذها معك، إنها محمّلة بالمحبّة.

إقرأوا أيضاً: