لم نعد نستيقظ، نحن النائمين في منازلنا في بيروت أو نحن النازحين إليها، على صوت الغارات التي تستهدف الضاحية الجنوبية لمدينتنا. في الصباح الباكر، نتفقد هواتفنا وندقق بما وصلنا إليها من أخبار القصف ومواضعه، ثم نمضي بثقل رهيب إلى أعمالنا أو مقاهينا أو الشوارع الآمنة التي رحنا نجوبها منذ انتقلت الحرب إلى خاصرتنا.
نخلد إلى النوم قبل الموعد الذي دأبنا على النوم فيه قبل أن تداهمنا الحرب، ذاك أن نهارنا أصبح مشحوناً بخليط من الأخبار وصوت طائرة الاستطلاع، وأنواع من الانفجارات وجدار الصوت الذي تحدثه الطائرات الأميركية الحديثة فوق رؤوسنا. وما أن يصل المساء حتى نبدأ بمقاومة إغماضات أعيننا إلى أن نستسلم إلى شيء أقرب إلى الإغماء منه إلى النوم.
وبينما نحن نقاوم النوم الثقيل الداهم، يبدأ أفيخاي أدرعي بإرسال تغريداته القاتلة والتي تحذرنا من أن شهب النيران ستأكل ليلنا. وفي موازاة ذلك، تبدأ غروبات الـ”واتس آب” بالاشتغال. في الأيام الأولى كنا نتفاعل ونستجيب ونرسل ما بحوزتنا من أخبار وتعديلات، لكن وبعد مرور أكثر من شهر على هذه الدوامة المرهقة تراجع زخم استجابتنا، بعضنا تحول إلى متلقٍّ سلبي للرسائل والأخبار، وبعضنا آثر الابتعاد عن شاشة هاتفه.
لسبب ما، لم نعد نسمع أصوات الغارات، على رغم أن الضاحية لا تبعد أكثر من كيلومترين أو ثلاثة عن منازلنا. المشاهد التي تصلنا في اليوم الثاني للمباني المدمرة تشير إلى أن كميات هائلة من المتفجرات ألقيت عليها، إلى أن جاءتنا بالأمس الإجابة اليقينة عن هذه المفارقة، ذاك أن الفيديو الذي التقط لحظة استهداف مبنى في منطقة الطيونة الفاصلة بين الضاحية وبيروت، ظهر فيه الصاروخ ينغرس في أساسات المبنى، فتهاوى الأخير بلحظة واحدة على نحو هندسي. والأرجح أن الأرض التي انغرس الصاروخ فيها ابتلعت الصوت، فلم يصلنا.
الإرهاق الذي يسبق نومنا مصدره أيضاً قرانا التي نزحنا منها منذ عقود طويلة، ذاك أن النكبة هناك أيضاً، والقرار بمسح قرى “الحافة الأمامية” بدأ تنفيذه، لا بل أن شوطاً كبيراً قُطع لتحقيق هذا الهدف.
أصوات الصواريخ لم تعد تصلنا كلها، لكننا صرنا نتوهم ارتجاجاتها. نحدق في وجوه بعضنا بعضاً محاولين رصد آثار الصواريخ في ارتجافات ملامحنا. وحين نصل إلى المكتب، نسأل بعضنا بعضاً عن تلك الانتفاخات الصغيرة التي طرأت على وجوهنا. بعضنا سهر حتى الصباح على وقع تغريدات أدرعي، وبعضنا نام ما يفوق الوقت الذي اعتادت عليه عيناه فانتفختا. لا قدرة لنا على السخرية من المأساة التي نكابدها، على نحو ما كنا نفعل في الحروب السابقة. ولاحقاً، صرنا نتفادى أن نسأل زميلاً عن ليلته الفائتة!
ثم إن هذه الحرب لا تستهدف المدينة وضاحيتها فقط، ذاك أن التلفزيونات شرعت تنقل إلينا مشاهد من تدمير قرانا في الجنوب، وهي مشاهد لم يسبق أن عايناها طوال الحروب والاجتياحات التي رافقت نشأتنا، نحن أهل قرى “الحافة الأمامية” على ما صار يطلق على ما كان يسمى سابقاً قرى الشريط الحدودي. التلفزيونات نقلت هذا الدمار إلى منازلنا في العاصمة وفي المدن والبلدات التي لجأنا إليها.
الإرهاق الذي يسبق نومنا مصدره أيضاً قرانا التي نزحنا منها منذ عقود طويلة، ذاك أن النكبة هناك أيضاً، والقرار بمسح قرى “الحافة الأمامية” بدأ تنفيذه، لا بل أن شوطاً كبيراً قُطع لتحقيق هذا الهدف.
يرسل لنا أقرباء خرائط لقرانا التقطت من الفضاء حصلوا عليها عبر “غوغل ماب”، تظهر المنازل المدمرة وغير المدمرة. منزلنا ما زال قائماً، لكنّ منزلاً خلفه سُوِّي أرضاً، ما يعني أن المنزل لم ينجُ تماماً، وأن صدوعاً تسببت بها الغارة على منزل جيراننا. ثم إننا في أول الحرب، وخريطة الدمار ستتسع ولن يكون منزلنا في منأى عن قرار تسوية القرية بالأرض.
العيش صار مرهقاً في المناطق غير المستهدفة في بيروت. خلافاً لما نعهده بالعادة، فإن الـfake news أقل فظاعة من الـreal news، ذاك أن الأخبار الكاذبة تذوي وتتلاشى كأي نكتة سمجة، أما الأخبار الموثقة فهي مؤذية وثقيلة ومحملة بجثث ودمار حقيقيين، ونفضل تأجيل سماعها إلى الصباح، ونخزنها إلى عشية اليوم الثاني. زين، ابن عمي، شمل تحذير أدرعي المربع الذي تقع فيه مكاتب شركته في الضاحية الجنوبية. لم ينتظر حتى تبدأ الغارات ليعرف مصير المبنى. نام، وفي الصباح تلقى خبر تدمير مكاتب شركته. لم يخبر أولاده بذلك، قال إنه يفضّل أن يسمعوا الخبر من غيره.
إقرأوا أيضاً: