fbpx

هذيان لبنانيّ بدمشق 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

لكلٍّ أسبابه في حب الشام، فهي عِلَّة حب، فيما اختلاف هذه الأسباب لا يفسد وداً جمعياً عند محبيها. لكن حب الشام، أو سوريا، قد يكون مُكلفاً، وأقسى هذه الأكلاف قد يؤدي إلى القتل، أو الحسرة كما في حالتي.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

“خايف عليها/ تلفان بيها/ والشام دقة بالقلب/ لو تنباع كُنت أشتريها”. الكلمات هي من المقدمة الموسيقية للمسلسل السوري”ذكريات الزمن القادم”الذي عُرض في تسعينات القرن الماضي. بالنسبة إلي، يكفي أن تكون “الشام” في متن الأغنية لتصير سماعاً يومياً. 

الآن، لماذا “الشام”؟ لماذا تقدح اليوم على ذاكرة ظلّ حضورها فيها عميقاً؟  

غداً، سيكون جمع من الأصدقاء في ربوعها التي تتّسع للكثيرين، وتضيق بي. فالشام ستبقى على الأرجح كالحبيبة الممتنعة عني، وإن ليس بإرادتها. إنها مشقة السياسة. 

لكلٍّ أسبابه في حب الشام، فهي عِلَّة حب، فيما اختلاف هذه الأسباب لا يفسد وداً جمعياً عند محبيها. لكن حب الشام، أو سوريا، قد يكون مُكلفاً، وأقسى هذه الأكلاف قد يؤدي إلى القتل، أو الحسرة كما في حالتي. 

كإسم، نادراً ما وقعت “سوريا” على لساني إلا لضرورات يقتضيها كل ما هو خارج الحب. الأخير فقط يليق بـ”الشام”، وكما لو أن “التسميتين” على ترادفهما، هما استغراق في وعيين متضادين، قسري فرضته السياسة، وطوعي يليق بالشام لأنه خارج عليها. 

غالباً ما تبدّت “سوريا” في وعيي كتلوث سمعي. مرد الأمر إلى وعي متلازم  مع اقترانها بالعائلة التي حكمتها منذ العام 1970، وتبدت معها عبارة”سوريا الأسد” كجدار رفيع بينها وبين انعتاقي عنها. 

“الشام” بددت هذا الانعتاق. وغالب الظنّ أن خسوف  المواءمة المفتعلة مع سوريا في حالة “الشام”، أتاح الشروع المبكر في ود الأخيرة. 

“الشام” و”سوريا” هما إذاً نزاعٌ مديد بين الحب والسياسة. لم تزل “الشام” ذاكرةٌ مُشتهاة تقيم في وعيٍ مشدودٍ لاكتواء أول العمر باسمها. كان للسان أمي قَصَبُ الحبّ الأول لبلاد راحت تترى كعشقٍ  يوغل في القلب، وكانَ “مُحرَّمُ” شهر عشقها الأكثر انفتاحاً عليه. كانت زيارات أمي وأترابها إلى مقام السيدة “زينب” في الشام (هكذا كنَّ يرددن إسم المكان)، ثم مآبهن وهنَّ حاملاتٍ بركتها وشفاعتها، وحاملات أيضاً لـ”برازقَها”، فاتحةَ غِواياتٍ لم أُشْفَ منها. 

“بعثية” أبي أيضاً كانت مفتاحاً لها، ليس لحبها على الأرجح، لكن لاغتراب وعي طفولي نحوها. 

وأنْ تكبرَ، يعني أن يسحبَكَ العمرُ من شغفٍ صافٍ بطيباتها، وبما تيسر من “غلة” دينية لطقوس زيارة “سيدتها”، أو من “تطفل” سياسي سرعان ما شفيت منه، إلى مدىً يتكثف فيه الحب. كانت الأمكنة التي تُثري  التاريخ والثقافة حافزاً ليتراجع الوعي الطفولي أمام وعي أكثر رصانة. و”الشام” لا ريب غير ضنينة بهذا الوعي. 

يكفي مثلاً أن يكون نزار قباني شامياً ليغترب إليها وجدان مراهق مأخوذ بأشعاره عن النساء، وعنها. وكان لكثافة “مقهى الروضة” في سيرة “الشام” ما يمنحه في مخيلتي جاذبية ثقافية، ورغبة في الزيارة. كانت أطياف شعراء وكتاب وفنانين صنعوا حيزاً كبيراً من هذا الودّ، تستدرجني من القراءة المجردة، إلى مقاربة أكثر حميمية للمكان ولرواده. هذه حالي مع ممدوح عدوان وأدونيس ومحمد الماغوط ومظفر النواب، كروافد ثقافية لذاكرتي، وهي الحال مع أحد أبرز رموز الدراما السورية الفنان جمال سليمان، بطل مسلسل “ذكريات الزمن القادم”. وكانت روايات حنا مينا تنهمرعليَّ ليلاً على ضوء “المصابيح الزرق” لتحفر اللاذقية وبحرها في الذاكرة. 

ولأن الأمكنة أكثر العلل الولادة للحب، تكفلت الدراما السورية بتجذير “الشام”، بأمكنتها وحاراتها وأبوابها  القديمة، باختراق هذا  الوعي، لتفضي إلى رغبة  مضافة في ملامسة تراث “الشام” العمراني. فيما أضفت الوقائع البصرية والسمعية لهذه الدراما  تكثيفاً لمؤشر الأعين عليها. 

نادراً ما خلا مسلسل سوري مثلاً من صوت السيدة “فيروز” الأحب إلى سمعي، والذي تبدى “طبقاً” يومياً في حياة السوريين، في المنزل، كما في المقهى والسيارة. وبافتراض أن صوت “فيروز” هو مقياس للمزاج العام، في المكان العام، فهو ما منح “الشام” أيضاً هذا الهوى الدائم في شخصي، ومنح السوريين تفوقاً  في مقاربة صوتها. “فيروز” بهذا المعنى هي في مزاج السوريين خارج الهوية الفنية، فيما هي في مزاج لبنانيين كثر أقرب إلى “عنصرية” فنية. 

كان “ديك الجن الحمصي” زاداً غابراً لإحدى أمسيات قريتنا في دارة العلامة الراحل محمد حسن الأمين. قرأت يومها قصيدة “ورد” على مسامع “السيد”، فتبسم وأطرف: “في داخل كلٍّ منا ديك للجن”، وشرع يقرأ علينا قصيدته في “ورد”، والتي كتبها في المطعم الذي حمل إسم “ديك الجن” على ضفاف نهر العاصي في مدينة حمص. يومها، صار المطعم مكاناً مضافاً في دفتر الزيارات المحتملة.  

كانت  “الشام”، ولا تزال، تُغري بعشقها، وتغري أيضاً بامتلاكها. هكذا تبدت أحوالها مع  “آل الأسد”، فتجمعت مفاتيح سوريا في يدهم، وصار واحداً من شروط وصلها، ولعله الأهم، أن حبهم هو المدخل لندخل “الشام” آمنين. 

بعدَ خمسة عقود، لا تزال الشام على مرمى القلب، على رغم ما   انتهكته السياسة فيها. ولا تزالُ حنيناً يُضاعِفُه تراكم الغوايات منذُ البرازق إلى آخر الأمكنة  التي تتواتر من بعيد  على البصر.  

في رثاء سمير قصير، كتب صديقه محمد حسين شمس الدين: “قُتل سمير قصير لأنه أحبَّ دمشق، وقيل لأنه ضُبط متلبساً بمغازلتها. وزاد من جرمه أن صيَّر من نفسه سنونوةً في ربيعها المغدور”. 

لم أقتل، ولا أريد أن أقتل كي يتسنى لي في الزمن المقبل أن أشفي غليلي بزيارتها وبمغازلتها قلباً لقلب. 

29.02.2024
زمن القراءة: 4 minutes

لكلٍّ أسبابه في حب الشام، فهي عِلَّة حب، فيما اختلاف هذه الأسباب لا يفسد وداً جمعياً عند محبيها. لكن حب الشام، أو سوريا، قد يكون مُكلفاً، وأقسى هذه الأكلاف قد يؤدي إلى القتل، أو الحسرة كما في حالتي.


“خايف عليها/ تلفان بيها/ والشام دقة بالقلب/ لو تنباع كُنت أشتريها”. الكلمات هي من المقدمة الموسيقية للمسلسل السوري”ذكريات الزمن القادم”الذي عُرض في تسعينات القرن الماضي. بالنسبة إلي، يكفي أن تكون “الشام” في متن الأغنية لتصير سماعاً يومياً. 

الآن، لماذا “الشام”؟ لماذا تقدح اليوم على ذاكرة ظلّ حضورها فيها عميقاً؟  

غداً، سيكون جمع من الأصدقاء في ربوعها التي تتّسع للكثيرين، وتضيق بي. فالشام ستبقى على الأرجح كالحبيبة الممتنعة عني، وإن ليس بإرادتها. إنها مشقة السياسة. 

لكلٍّ أسبابه في حب الشام، فهي عِلَّة حب، فيما اختلاف هذه الأسباب لا يفسد وداً جمعياً عند محبيها. لكن حب الشام، أو سوريا، قد يكون مُكلفاً، وأقسى هذه الأكلاف قد يؤدي إلى القتل، أو الحسرة كما في حالتي. 

كإسم، نادراً ما وقعت “سوريا” على لساني إلا لضرورات يقتضيها كل ما هو خارج الحب. الأخير فقط يليق بـ”الشام”، وكما لو أن “التسميتين” على ترادفهما، هما استغراق في وعيين متضادين، قسري فرضته السياسة، وطوعي يليق بالشام لأنه خارج عليها. 

غالباً ما تبدّت “سوريا” في وعيي كتلوث سمعي. مرد الأمر إلى وعي متلازم  مع اقترانها بالعائلة التي حكمتها منذ العام 1970، وتبدت معها عبارة”سوريا الأسد” كجدار رفيع بينها وبين انعتاقي عنها. 

“الشام” بددت هذا الانعتاق. وغالب الظنّ أن خسوف  المواءمة المفتعلة مع سوريا في حالة “الشام”، أتاح الشروع المبكر في ود الأخيرة. 

“الشام” و”سوريا” هما إذاً نزاعٌ مديد بين الحب والسياسة. لم تزل “الشام” ذاكرةٌ مُشتهاة تقيم في وعيٍ مشدودٍ لاكتواء أول العمر باسمها. كان للسان أمي قَصَبُ الحبّ الأول لبلاد راحت تترى كعشقٍ  يوغل في القلب، وكانَ “مُحرَّمُ” شهر عشقها الأكثر انفتاحاً عليه. كانت زيارات أمي وأترابها إلى مقام السيدة “زينب” في الشام (هكذا كنَّ يرددن إسم المكان)، ثم مآبهن وهنَّ حاملاتٍ بركتها وشفاعتها، وحاملات أيضاً لـ”برازقَها”، فاتحةَ غِواياتٍ لم أُشْفَ منها. 

“بعثية” أبي أيضاً كانت مفتاحاً لها، ليس لحبها على الأرجح، لكن لاغتراب وعي طفولي نحوها. 

وأنْ تكبرَ، يعني أن يسحبَكَ العمرُ من شغفٍ صافٍ بطيباتها، وبما تيسر من “غلة” دينية لطقوس زيارة “سيدتها”، أو من “تطفل” سياسي سرعان ما شفيت منه، إلى مدىً يتكثف فيه الحب. كانت الأمكنة التي تُثري  التاريخ والثقافة حافزاً ليتراجع الوعي الطفولي أمام وعي أكثر رصانة. و”الشام” لا ريب غير ضنينة بهذا الوعي. 

يكفي مثلاً أن يكون نزار قباني شامياً ليغترب إليها وجدان مراهق مأخوذ بأشعاره عن النساء، وعنها. وكان لكثافة “مقهى الروضة” في سيرة “الشام” ما يمنحه في مخيلتي جاذبية ثقافية، ورغبة في الزيارة. كانت أطياف شعراء وكتاب وفنانين صنعوا حيزاً كبيراً من هذا الودّ، تستدرجني من القراءة المجردة، إلى مقاربة أكثر حميمية للمكان ولرواده. هذه حالي مع ممدوح عدوان وأدونيس ومحمد الماغوط ومظفر النواب، كروافد ثقافية لذاكرتي، وهي الحال مع أحد أبرز رموز الدراما السورية الفنان جمال سليمان، بطل مسلسل “ذكريات الزمن القادم”. وكانت روايات حنا مينا تنهمرعليَّ ليلاً على ضوء “المصابيح الزرق” لتحفر اللاذقية وبحرها في الذاكرة. 

ولأن الأمكنة أكثر العلل الولادة للحب، تكفلت الدراما السورية بتجذير “الشام”، بأمكنتها وحاراتها وأبوابها  القديمة، باختراق هذا  الوعي، لتفضي إلى رغبة  مضافة في ملامسة تراث “الشام” العمراني. فيما أضفت الوقائع البصرية والسمعية لهذه الدراما  تكثيفاً لمؤشر الأعين عليها. 

نادراً ما خلا مسلسل سوري مثلاً من صوت السيدة “فيروز” الأحب إلى سمعي، والذي تبدى “طبقاً” يومياً في حياة السوريين، في المنزل، كما في المقهى والسيارة. وبافتراض أن صوت “فيروز” هو مقياس للمزاج العام، في المكان العام، فهو ما منح “الشام” أيضاً هذا الهوى الدائم في شخصي، ومنح السوريين تفوقاً  في مقاربة صوتها. “فيروز” بهذا المعنى هي في مزاج السوريين خارج الهوية الفنية، فيما هي في مزاج لبنانيين كثر أقرب إلى “عنصرية” فنية. 

كان “ديك الجن الحمصي” زاداً غابراً لإحدى أمسيات قريتنا في دارة العلامة الراحل محمد حسن الأمين. قرأت يومها قصيدة “ورد” على مسامع “السيد”، فتبسم وأطرف: “في داخل كلٍّ منا ديك للجن”، وشرع يقرأ علينا قصيدته في “ورد”، والتي كتبها في المطعم الذي حمل إسم “ديك الجن” على ضفاف نهر العاصي في مدينة حمص. يومها، صار المطعم مكاناً مضافاً في دفتر الزيارات المحتملة.  

كانت  “الشام”، ولا تزال، تُغري بعشقها، وتغري أيضاً بامتلاكها. هكذا تبدت أحوالها مع  “آل الأسد”، فتجمعت مفاتيح سوريا في يدهم، وصار واحداً من شروط وصلها، ولعله الأهم، أن حبهم هو المدخل لندخل “الشام” آمنين. 

بعدَ خمسة عقود، لا تزال الشام على مرمى القلب، على رغم ما   انتهكته السياسة فيها. ولا تزالُ حنيناً يُضاعِفُه تراكم الغوايات منذُ البرازق إلى آخر الأمكنة  التي تتواتر من بعيد  على البصر.  

في رثاء سمير قصير، كتب صديقه محمد حسين شمس الدين: “قُتل سمير قصير لأنه أحبَّ دمشق، وقيل لأنه ضُبط متلبساً بمغازلتها. وزاد من جرمه أن صيَّر من نفسه سنونوةً في ربيعها المغدور”. 

لم أقتل، ولا أريد أن أقتل كي يتسنى لي في الزمن المقبل أن أشفي غليلي بزيارتها وبمغازلتها قلباً لقلب. 

29.02.2024
زمن القراءة: 4 minutes
|
آخر القصص
 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟
أفراح ناصر - باحثة في المركز العربي في واشنطن | 12.10.2024
هل هُزم محور “المقاومة”فعلاً؟!
شكري الريان - كاتب فلسطيني سوري | 12.10.2024
لماذا أخفق حزب الله؟
ندى عبدالصمد - كاتبة وصحافية لبنانية | 12.10.2024
خطبة الوداع
بادية فحص - صحافية وكاتبة لبنانية | 11.10.2024

اشترك بنشرتنا البريدية