حين منح أحد أقاربنا والدتي صورةً صغيرةً لحافظ الأسد لمناسبة الانتخابات الرئاسية، كنت في السادسة أو السابعة. كانت صورة صغيرة وسميكة، لامعةً، احتارت والدتي أين تضعها، فلا يجوز إخفاؤها ويجب أن تظهر للعيان في حال زارنا قريبنا مرة أخرى فهو كثير الكلام ولو “زلق” وقال إنها لم تعلّق الصورة، لربما يتسبب في مشكلة مع الأمن السوري. على هذا النحو كانت والدتي تفكر بصوت عالٍ، ناقلةً خوفها من نظام الأسد إلينا نحن الأطفال.
علّقت أمي الصورة في النهاية على مرآة الخزانة الخشبية في غرفة العائلة، فبدأ الأسد يقفُ وسط الغرفة ويظهرُ انعكاسه على المرآة. شاركتنا الصورة أيام الشتاء الطويلة والصيف الحارة، نتناول طعام الإفطار تحتها، نعود من المدرسة وهي في مكانها، نتشاجر أمامها، مرّت طفولتي كلها أمام تلك الصورة. لسبب ما لم أجرؤ على النظر إلى عينيه، ربما بسبب ما رأيته من خوف في عيني أمي حين احتارت أين تضعه. رافقتنا هذه الصورة سنوات طويلة ولم نتخلص منها إلّا بعد وفاة قريبنا!
في المدرسة الابتدائية كانت الصدرية المدرسية بلونها البني القبيح تحمل صورة صغيرة على صدرها لحافظ الأسد أو لعلم البعث، بحسب رؤية مصممها. وكنا نفتخر نحن الأطفال بوجودها، من باب تقليد الكبار، وحين أرادت الأمهات التخلص من الصداري المدرسية بعد أن تغدو باليةً، لجأت إلى حرقها بالكامل خوفاً من رميها في القمامة وصورة الأسد عليها أو اكتفت بقصّ صورة الأسد القديمة لتحتفظ بها في مكان ما.
كان الأمر دوماً كما لو أننا وجدنا لأجل القائد، لا العكس، هو ليس مجرد قائدٍ للبلاد، هو القوة التي تسندنا، لماذا كنا ضعفاء من دونه؟ لا أحد يعلم! هو أملنا الوحيد بالخلاص من “الاحتلال الصهيوني”، لماذا ليس غيره؟ هكذا أخبرونا على الدوام.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية بات انتشار صور الأسد لا يحتمل، كأنّ البلاد تتقيأ صوره، مئات الصور المعلقة في كلّ مكان، لكنها تمتلك زاوية الالتقاط ذاتها من دون أي تغيير في ملامح الرئيس المقبل، آخذةً مساحات واسعة من الشوارع والساحات، تصطف قرب بعضها في تأكيد دائم لهوية الرئيس الخالد. حيث تكاد صور بقية المرشحين تتلاشى، لا وجود لها إلّا ما ندر تأكيداً للديمقراطية السورية، فأحدهما معارضٌ “وطني” بالفعل.
لا يمكن أن تكتمل مسرحية الانتخابات بلا الصور، تشارك الناس فقرهم وانتظارهم أمام الطوابير وهم ينبشون القمامة، وإلا كيف سيصدق الشعب أن قائدهم معهم؟ أعتقدُ أن علاقة السوريين بفكرة القائد هي واحدة من أكثر العلاقات تعقيداً في العالم، ليس لأنه دمر منازلهم وقتلهم وما زال مكانه، بل بسبب تلك العلاقة النفسية معه والتي يستشعرها الجميع، ذلك الرابط الخفي بينه وبين كلّ سوري، علاقة بنيت منذ عقود، أساسها الخوف في الأصل لكن مع مزيج من تقديم فكرة المخلّص على شكل نظام بحد ذاته. ولو سألت المؤيدين سيخلصكم مِماذا؟ سيرتبك كثيرون، فالخلاص هنا ليس خلاصاً من الخطيئة، بل خلاصاً وهمياً من عدو عابرٍ للحدود وإرهاب غذّاه النظام. لذلك لطالما وجدتُ أن الحالة السورية جديرة بالدراسة وفهم التأثير النفسي للنظام الذي جعل الناس يدعمونه ويموتون من أجله.
أمام صور كثيرة ووجوه لا تنتهي للأسد تشعر بأنك محاصر، وأنا محاصرة به ولذلك اختلقتُ طريقة للتمرد، من خلف نظارتي الشمسية، وحين أتأكد من عدم وجود من يراقبني أتملق صوره، أرسل له نظرات الازدراء، وأحياناً أمدّ له لساني ثم أعود إلى المنزل وأكتب!
لا تمكنك رؤية وجه أكبر قاتل في بلادك من دون أن تصاب بالجنون في أحسن الأحوال، لا يمكن أن تكون معارضاً تعيش داخل سوريا وتمر قرب كل صورة للأسد، من دون تذكّر عشرات الوجوه وآلاف النازحين والمعتقلين والقتلى، أتتخيل أن تعيش في غرفة مملوءة بصور قاتل عائلتك ومعذب أصدقائك وأقاربك!
صور لا تنتهي وتحت كلّ منها توقيع لمقدمها، وهو في الغالب تاجر أو حرفي أو من أصحاب الشركات أو المعامل. من المهم أن يظهر الجميع طاعته صراحة، هذا جوهر انتشار تلك الصور كلها. استحضرت بعضها وجه حافظ الأسد ووضعته إلى جانب ابنه كما انتشرت صور لباسل الأسد، فليس من المهم دعم الانتخابات الديموقراطية بل تأكيد خلود عائلة الأسد الأموات منها والأحياء.
لافتات كبيرة عُلّقت بكلّ وقاحة على أنقاض مدن، أمام منازل مدمرة ومحترقة، بشعارات عريضة عن الحريّة وحقّ عودة المهجرين والأمل والعمل والغد، درس مثاليٌّ في الديمقراطية وسط أحياء مهجورة تماماً! الأسد ينتخب على أنقاض مدينة دوما، حيث جاعت عائلات كاملة وتناولت ورق الشجر، حيث تم تهريب عائلات عبر الأنفاق هرباً من شبح الموت المرّ، موت.. موت.. موت وبشار ينتخب نفسه.
في قريتنا الصغيرة يصوت أخي أمام الجميع، أعضاءٌ من حزب البعث وأذرع للنظام، جميعهم ينتظرون أن يصوت لبشار، عند الغرفة السرية التي هي عبارة عن خزانة حديدة ضيقة جانباً لا يدخلها أحد، وحين سألته لماذا لم تصوت داخلها بحرية؟ ردَّ متهكماً: “مجنونة أنتِ؟ هذا يعني أنني لن أصوت لبشار، والعشرون مراقباً خارجاً سيكتبون تقارير ضدي”. وينهي ساخراً: “وكلهم يمتلكون خطاً جميلاً!”. أخي ككثيرين صوّت مرغماً فلديه عائلة وطفل صغير ولا يمكنه المساومة عليهم، لا يمكن تجاوز هذه النقطة، ولولا علمي بما يحدث حقاً لكنت شككت للحظة بعشر سنوات من الموت والقتل والقمع والتعذيب. كدت أفقد توازني للحظة هذا الصباح بعدما شاهدت كم التزييف والناس المنقادين برضا خلف بشار، فقدتُ الأمل وشعرتُ بالإحباط، هل أنا الوحيدة التي تكره هذا النظام؟ نمتُ طويلاً، استيقظت ظهراً غاضبة وكتبت لأنني لا أريد ان أنسى وحشية النظام، سأكتب دوماً لأتذكر ما فعله.
حتى اليوم لم أشارك في الانتخابات الرئاسية ولم أمنح صوتي لبشار أو لسواه وهذا ما أفتخر به حقاً، فعلى رغم كل شيء أستطيع معارضته بطريقة ما، عدا مرة قام جارنا الحزبي بالتصويت في غيابنا، فلا شك لدى أحد أننا سنصوت لبشار وغيابنا لا يلغي هذه الحقيقة.
يسخر النظام السوريّ علانية من شعبه، بصور لا تنتهي عن الأمل والعمل، وبانتخابات “ديموقراطية”، وبخيم يرقصون ويدبكون فيها احتفالاً بالانتصار الوهمي، بالاحتلالات الأجنبية على الأرض السورية، حتى هذه البلاد لا تحتمل كمية النفاق وتتقيأ صور المرشحين هنا وهناك.
يرجوني أخي أن أصوّت لأن كل من صوّت سيسجل رقم هويته وبحساب بسيط في بيانات النظام سيظهر من لم يصوت، لا أصدق أن هذا قد يحدث، ألهذا الحد أنا محاصرة ومراقبة؟ أقول لأخي: “كأنك تكبر الموضوع؟”. فيرد عليّ: “صدقيني هم قادرون على ذلك ولا شيء أسهل من وضع خط أحمر تحت اسمك، ولستِ في صدد مواجهات علنية بخاصة أنك ستسافرين قريباً”. يطلب مني أن أعده بالذهاب للتصويت، خوفاً عليّ، أقول له سأفكر، أتذكر أمي وهي تحمل صورة حافظ الأسد محتارة أين تضعها، أتذكرها وهي تقص صورته عن صدرية المدرسة الخاصة بي، ثم أخرج إلى الشرفة أراقب المدينة الفقيرة والصامتة، أراقب الوجوه المتعبة وصور الأسد تعتلي كل الواجهات وأنا مقابلها كصورة حيّة أفكّر، بقي بضع ساعات لنهاية الانتخابات، هل يجب أن أصوّت لو أردت الخروج من هذا المستنقع؟ هل أذهب وأصوت لبشار الأسد حقاً؟
إقرأوا أيضاً: