منذ اللحظة الأولى لوصوله، ومع رقصته الشهيرة على سلّم الطائرة، عكست زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الى دول الخليج رغبة واضحة في إعادة تعريف التحالفات الأميركية في المنطقة. لا يُخفى على أحد أن ترامب هو رجل أعمال وهمّه “البزنس” والصفقات التجارية المربحة على حساب القضايا الاستراتيجية والإنسانية. لم يقدّم نفسه كرئيس مهتم بالقضايا الإنسانية والحريات. الّا أنّ حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة لم تغب عن الاجتماعات. سعى ترامب إلى طرح مبادرة لإدارة قطاع غزة تحت إشراف أميركي مباشر بعد الحرب، وتحويله إلى منطقة اقتصادية حرة، إلا أن الدول الخليجية رفضت هذا الطرح، وشددت على ضرورة إعادة إعمار غزة ضمن خطة عربية شاملة دون المساس بحقوق السكان أو فرض إدارة خارجية مؤقتة.
تراجعت مركزية إسرائيل كحليف أوحد، وبرزت دول الخليج كشريك اقتصادي وأمني رئيسي، بخاصة مع تصاعد الدور الجيوسياسي والاقتصادي لهذه الدول. لم يزر ترامب إسرائيل ولم يلتقِ برئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو خلال زيارته الأولى الى المنطقة، على رغم تأكيد المسؤولين الأميركيين أن ذلك لم يكن تجاهلاً متعمداً، إذ التقى مبعوثه للشرق الأوسط برهينة إسرائيلية أُفرج عنها حديثاً.
حملت هذه الخطوات رسالة واضحة إلى نتانياهو بأن المصالح الأميركية لم تعد مرهونة فقط برغبات تل أبيب – بخاصة مع استمرار الحرب في غزة ورفض نتانياهو وقف إطلاق النار أو الانخراط في أي مسار سياسي – بل باتت ترتبط أكثر بمصالح اقتصادية واستراتيجية مع دول الخليج.
شهدت منطقة الشرق الأوسط في أيار/ مايو 2025، واحدة من أكثر الزيارات الرئاسية الأميركية المثيرة للجدل والتأثير، إذ اختار ترامب أن تكون أولى جولاته الخارجية في ولايته الثانية إلى دول الخليج الثلاث: السعودية وقطر والإمارات، متجاوزاً بذلك تقاليد الرؤساء الأميركيين. لم تكن هذه الخطوة مجرد زيارة بروتوكولية، بل حملت رسائل استراتيجية عميقة متعلقة بإعادة رسم توازن القوى في الشرق الأوسط وصعود الخليج كلاعب مركزي في السياسة الإقليمية والدولية وكحليف أساسي واستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية في المنطقة ينذر بتراجع محتمل لمركزيّة اسرائيل في المنطقة بالنسبة الى الولايات المتحدة الأميركية.
جاءت زيارة ترامب في فترة استثنائية تمر بها المنطقة، مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، واستمرار الحرب الإسرائيلية على غزة لأكثر من عام، إضافة إلى الحرب الأخيرة على لبنان التي آلت إلى هزيمة حزب الله واغتيال أمينه العام حسن نصرالله، ما أدى إلى تغيّر موازين القوى وبدء ما وُصف بـ “عهد جديد” في لبنان وتطبيق قرار الأمم المتحدة 1701 فيه، بما في ذلك حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية.
إعادة تشكيل النظام الإقليمي
اعتُبرت جولة ترامب على دول الخليج في الداخل الأميركي بمثابة إعادة تموضع كبيرة وتحوّل جريء في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، إذ تم تقديم العلاقات مع السعودية وقطر والإمارات على التحالف التقليدي مع إسرائيل، لكنها أثارت أيضاً تساؤلات حول الاستقرار الإقليمي، والقيم الأميركية، ومستقبل التحالفات التقليدية. وقد فُسرت الزيارة كرسالة واضحة لنتانياهو بأن إسرائيل لم تعد الحليف الوحيد والأهم للولايات المتحدة في المنطقة، بل بات هناك حلفاء أكثر “منفعة” من الناحية الاقتصادية والاستراتيجية.
لم تقتصر زيارة ترامب على الدول الخليجية الثلاث، بل التقى أيضاً بالرئيس السوري الجديد أحمد الشرع في الرياض، وأبدى إعجابه به ووعد برفع العقوبات عن سوريا، في تحوّل لافت لأولويات السياسة الأميركية في المنطقة. فاعتُبر انفتاح ترامب على سوريا ورفع العقوبات عنها تحولاً كبيراً في السياسة أربك بعض الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة. قرار ترامب بعدم زيارة إسرائيل ولقاؤه بالرئيس السوري الجديد في الرياض عزز ا هذا التحول، مشيراً إلى أن المصالح الأميركية باتت تتقدم على أولويات نتانياهو. ومع ذلك، حافظ ترامب على تأكيده العلني لمتانة العلاقات مع إسرائيل، لكنه في الكواليس عبّر عن استيائه من نتانياهو، معتبراً إياه عقبة أمام المصالح الأميركية وجهود إعادة تشكيل المنطقة.
على رغم الزخم الاقتصادي والدبلوماسي الذي رافق الزيارة، إلا أنها لم تخلُ من انتقادات واسعة داخل الولايات المتحدة. فقد اعتبر كثر من المتابعين أن ترامب ركز بشكل مفرط على الصفقات التجارية والمكاسب الاقتصادية السريعة، متجاهلاً القضايا الإنسانية والسياسية الملحّة، بخاصة في غزة واليمن. كما أثيرت انتقادات حادة بشأن تضارب المصالح نتيجة ارتباطاته التجارية الواسعة في الخليج. زادت حدّة الانتقادات عند قبول ترامب هدية عبارة عن طائرة خاصة فاخرة من قطر، وهو ما اعتبره معارضوه تجاوزاً للأعراف الدبلوماسية ومصدراً محتملاً لتأثير غير مشروع على قراراته.
وبحسب مقال تحليلي للمركز العربي في واشنطن: “أحد الجوانب اللافتة في زيارة الرئيس ترامب للشرق الأوسط، في رحلة مليئة بالمفاجآت، كانت في الواقع ما لم يحدث: التوقف في إسرائيل. معظم الرؤساء الأميركيين لم يكونوا ليفوتوا مثل هذه الفرصة. هذا التجاهل يأتي بعد أحداث أخرى استُبعدت فيها إسرائيل أخيراً، مثل المفاوضات مع الحوثيين لإنهاء الهجمات على السفن الأميركية في البحر الأحمر؛ والمحادثات مع إيران بشأن برنامجها النووي؛ والمفاوضات بين المبعوث الأميركي للشرق الأوسط ستيف ويتكوف وحركة حماس، والتي ربما ساهمت في الإفراج عن آخر رهينة أميركية؛ ورفع ترامب العقوبات عن سوريا ولقائه في الرياض مع الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع، الذي كان سابقاً من كبار قادة القاعدة. إسرائيل عارضت جميع هذه الخطوات، لكن ترامب مضى قدماً فيها على أي حال. بالإضافة إلى ذلك، فإن إقالة ترامب مستشاره للأمن القومي، مايك والتز، كانت جزئياً بسبب تنسيقه الوثيق مع حكومة نتانياهو بشأن ضربات إيران، وهو ما يعارضه ترامب في الوقت الحالي.
في الظروف السياسية العادية، أي رئيس أميركي يتبع مثل هذا النهج من تجاهل أو معارضة إسرائيل، كان سيعاني من عواقب سياسية شديدة. لكن يبدو أن ترامب حصّن نفسه ضد الانتقادات التي كانت ستضرّ بأي شخص آخر”.
صفقات اقتصادية غير مسبوقة
أبرز ما ميّز الزيارة هو حجم الصفقات الاستثمارية والتجارية المعلنة، والتي تجاوزت بحسب تقديرات البيت الأبيض تريليوني دولار، فيما قدّرت بما يقارب الـ 4 تريليونات دولار. شملت هذه الصفقات قطاعات الطيران (صفقات تاريخية مع بوينغ)، والدفاع (صفقات أسلحة ضخمة للسعودية والإمارات وقطر)، والتكنولوجيا (مشاريع الذكاء الاصطناعي)، إضافة إلى البنية التحتية والطاقة.
أعلنت السعودية عن حزمة استثمارية بقيمة 600 مليار دولار، تضمنت صفقة أسلحة بقيمة 142 مليار دولار في أكبر صفقة أسلحة في العالم. أما الإمارات، فقد أبرمت اتفاقيات بقيمة 200 مليار دولار على المدى القريب، وتعهدت باستثمار 1.4 تريليون دولار في الذكاء الاصطناعي خلال العقد المقبل. بينما وقّع ترامب اتفاقية مع قطر لتحقيق تبادل اقتصادي لا يقل عن 1.2 تريليون دولار. كما أعلن ترامب عن صفقات اقتصادية بين الولايات المتحدة وقطر تزيد قيمتها عن 243.5 مليار دولار، من بينها صفقة تاريخية لبيع طائرات بوينغ.
بالإضافة إلى ذلك، استثمرت قطر 10 مليارات دولار في تطوير قاعدة العديد الجوية، أكبر قاعدة جوية عسكرية أميركية في قطر والشرق الأوسط، والواقعة جنوب غربي الدوحة. وتعتبر قاعدة العديد:
مركز عمليات القيادة المركزية الأميركية في المنطقة
نقطة انطلاق رئيسية للعمليات الجوية في العراق وأفغانستان وسوريا
محوراً رئيسياً للتعاون العسكري بين قطر والولايات المتحدة
يعكس استثمار قطر في قاعدة العديد تأكيد الشراكة الاستراتيجية بين قطر والولايات المتحدة في مجالي الأمن والدفاع، ويبرز أهمية قطر المتزايدة كمركز إقليمي استراتيجي. ومع ذلك، يثير هذا الاستثمار تساؤلات حول استمرار الوجود والتدخل العسكري الأميركيين في المنطقة.
الالتزامات المالية من السعودية والإمارات وقطر لترامب (زيارة الخليج 2025)
| الدولة | إجمالي الالتزام المالي | القطاعات/الصفقات الرئيسية |
| السعودية | 600 مليار دولار | الطاقة، الدفاع (142 مليار دولار صفقات أسلحة)، التكنولوجيا (ذكاء اصطناعي، مراكز بيانات)، المعادن، البنية التحتية |
| الإمارات العربية المتحدة | 200 مليار دولار (صفقات قصيرة الأجل)1.4 تريليون دولار (تعهد لعشر سنوات) | الذكاء الاصطناعي، الطيران، الطاقة، القطاعات الصناعيةتشمل أكبر حرم جامعي للذكاء الاصطناعي (G42)، صفقة الاتحاد-بوينغ بقيمة 14.5 مليار دولاراستثمار طويل الأمد في الذكاء الاصطناعي بالولايات المتحدة، مراكز بيانات، أشباه الموصلات |
| قطر | تحقيق تبادل اقتصادي لا يقل عن 1.2 تريليون دولار 243.5 مليار دولار صفقات اقتصادية | الطيران (96 مليار دولار لطائرات بوينغ) أكبر طلبية لطائرات بوينغ في التاريخالدفاع (مليار دولار أنظمة مضادة للطائرات المسيرة، مليارا دولار طائرات مسيرة، 38 مليار دولار صفقات دفاعية محتملة) منها 10 مليارات دولار لقاعدة العديد |
زيارة ترامب إلى الخليج 2025 لم تكن مجرد جولة بروتوكولية، بل هي نقطة تحوّل إقليمية ودولية في العلاقات الأميركية الشرق الأوسطية في عهد ترامب. أعادت هذه الزيارة تعريف دور الخليج في المعادلة الدولية كحليف استراتيجي وأساسي للولايات المتحدة الأميركية. وعلى رغم أنّ ذلك لا يحدّ من متانة العلاقة الأميركية – الإسرائيلية، إلّا أنّه مؤشر إلى تراجع نسبي لدور إسرائيل التقليدي ويضع المصالح الاقتصادية في صدارة السياسة الأميركية. ويبقى السؤال: هل ستنجح هذه التحولات في تحقيق استقرار حقيقي للمنطقة أم أنها ستفتح الباب أمام تنافسات جديدة أكثر تعقيداً؟
إقرأوا أيضاً:











