في طريقنا إلى بشامون، يقول صاحبي: “النزوح موت بطيء”. كان صديقي يتماهى معي في فكرة مواراة هذا الرحيل الكبير، لكن لحظة الوصول إلى منزلنا المؤقت، تداعت إلى رأسي فكرة معاندة لهذا الموت المفترض، النزوح تبدّى لي “ولادة من الخاصرة”.
كان في المسلسل السوري الشهير (أعلاه) مشهديات كثيرة تحاكي وقائعها حالي، وحال أغلب الجنوبيين. وفكرة الولادة الملتبسة تبقى أفضل من فكرة الموت، قلت لصاحبي. فالنزوح ليس إلا الهروب من الموت، واستجداء الحياة، فيما راهن الأخيرة يتبدّى في سجل النازح “بدل عن ضائع”، وأنا الآن أعيش حياتي البديلة، وألتمس منها حياتي الضائعة، ولو بمشقات كثيرة، والذكريات أولها.
كنت اعتقدت أني بخيل بالذكريات مع قريتي وفيها. فأنا لم أحب صخبها، ولا فوضاها. والأخيرين لطالما كانا رافعتين لاعتزال الكثير من أحيائها وشوارعها، وحتى حديقتها العامة، وكانا أيضاً دافعين لعزلات ذاتية، تكثفت في أمكنة شكّلت حميميتها توازناً مطلوباً، لتبقى شقرا الرحم الكبير الذي خرجت منه إلى الحياة. كان منزلنا، ومنزل صديقي محسن الأشبه بأيك من أشجار الصنوبر وبركة نقية، هما ملاذات اغترابي القسري فيها وعنها.
في ٢٣ أيلول/ سبتمبر٢٠٢٤، قرابة الساعة الخامسة عصراً، غادرت قريتي شقرا، كان صباح اليوم المذكور يشي بكل ما ينسف سياقاً زمنياً امتد لعشرة أشهر عن “حرب مملة”، كثافة الغارات كانت إنباءً أن كسر روتين تلك الحرب قد اتُخذ.
عصراً، كان عصف الطائرات الذي يُطبق على مسامعنا يؤْذِن بالموت، وأن ركاماً قريباً لا يُلمح بالبصر، لكنه أقرب إليَّ من حبل الوريد، بعد العصر طلبنا النجاة، وسلكنا طريقها المجهول المكان والزمان.
كان طريق مغادرتي شقرا هو نفسه الطريق الذي كان بالأمس متخماً بمراهقيها، وبصخبهم الذي لم آلفه يوماً، وكنت على ما وشى صمته وشحوبه، من آواخر المغادرين.
ما هممت بقريتي كما في آخر مساقط النظر عليها، ولعلها همَّت بي، ووجع الانعتاق القسري عنها، اقترن بوجعٍ أشد قساوة. ها هو الركام الذي كنت أتهجى مكانه بالحدس شاخصاً على يميني. إنه منزل آل بدر الدين، آخر منازلها لناحية الغرب، كان ركام المنزل يُضفي على الرحيل كثافة من الحزن والوجع، فتحته انطفأت أعمار سيدتين وأطفال اربعة.
باكراً إذاً بدء شريط الذكريات، جارة قريتي صفد البطيخ، بدا أن نصيبها من الركام أكبر، والطريق الذي أسلكه صباحاً مع صوت فيروز، قد زاره الموت، وشطب وجهه أكثر من ركام، وركام “هنغار أبو مهدي” منذ تلك اللحظة تحوّل إلى ذكرى استدعت مباشرةً صوت صديقي حسين: “إمشي نشرب قهوة بالهنغار”.
ركام تحته موت، وركام تحته ذكريات، هما فاتحتان لكتاب هذا الرحيل الكبير. يأتي فجأة إلى الذاكرة صوت محمود درويش: “في الرحيل الكبير أحبك أكثر”، والحب لم يعد في تلك اللحظات مجرد مشاغلة وجدانية، صارت الذكريات كلها حباً يمتد من شقرا وضجيجها إلى الجنوب، كل الجنوب.
تداعت إلى رأسي فكرة معاندة لهذا الموت المفترض، النزوح تبدّى لي “ولادة من الخاصرة”.
لساعة أو أكثر، كان رأسي مزدحماً بالذكريات، ومزدحماً بسؤال لا مفر منه، سؤال يضفي على الرحيل رحيلاً آخر يكملان معاً متاهة العقل والجسد.
إلى متى هذا الرحيل؟ لا جواب قطعاً، أنا الآن أمام قضاء ليس بيدي، وقدر لم أرتجه.
هنا مدخل صور، ازدحام سيارات النازحين الممتلئة، كان وحده مؤثراً خارجياً أيقظني من سبات السؤال العقيم، يقف عسكريون من الجيش اللبناني على مدخل ثكنة “بنوا بركات”، يتفرجون على آلاف السيارات المتزاحمة، والمطلقة أبواقها، ولا يحركون ساكناً. كان مشهد “رجل الأمن” مؤشراً إلى ما ينتظر الجنوبيين في رحلة الهروب من الموت، كان “العسكري”هو الدولة اللبنانية في لحظة الانهيار العميم.
من بشامون، الضيعة التي ظلت لأكثر من عقد تدخل إلى ذاكرتنا من باب التاريخ كمقر لحكومة الاستقلال عام ١٩٤٣، يجلدنا التاريخ، ويكتبنا جيلاً بعد جيل، إما إجساداً ممزقة تحت ركام منازلنا، وإما جنوبيين رُحلاً حرباً بعد حرب.
٢٣ أيلول/ سبتمبر الماضي، صرت نازحاً. ومن منزلٍ في أعاليها، يتبدّى كم أن المشهد فائض بالرومانسية، لكنه دراما يومية لمن هو في مثل حالي، مجرد نازح.
ها أنا أتهجى البحر من بين الأشجار الكثيرة، البحر، ذلك الاختبار النفسي عن المجهول وماهيته ومآله، الذي يتكثف في رأسي عن غدٍ، أو بعده، أو بعد بعده، أو عن رحيل لا حدود فيه للزمن.
عودٌ لها وهي المبتدأ والخبر، في الحنين إليها، تشغل شقرا كل الحواس، تتكوّم مرة واحدة في العين، والعين سيدة الحواس ومختبرها، سأراها بناسها وبيوتها وبأشجارها، حتى الأشياء التي لم أستطع أُلفتها، ستجد لها مكاناً، ووعداً متأخراً بالحب.
لعلها الخشية من ألا أراها ثانية، وقد عودتنا الحروب على أثمان بغيضة كهذه، أو في أحسن الأحوال أن يطول عنها الغياب، فأشحذ في اغترابي عنها ما كثّفته منها في لحظة الوداع. وداع استظل طيف منزلنا، وشجرة الزنزلخت الواقفة على أعتابه وحنين إلى بقايا أشجار الصنوبر المقتولة في منزل محسن.
إقرأوا أيضاً: