“يجب أن يُعيد المجتمع الدولي النظر في تصنيف الفوسفور الأبيض بحيث لا يظلّ يُعامل كسلاح حارق أو دخاني فحسب، بل يُعترف به كسلاح كيميائي أيضاً”، يقول الباحث البيئي والناشط عباس البعلبكي لـ “درج”.
طُلب من البعلبكي، عند بداية الحرب إجراء فحوصات على عيّنات من التربة في مواقع قُصفت بالفوسفور الأبيض. وعند تحريك العيّنات، لاحظ أنها تشتعل فور تعرّضها للهواء، وهي خاصية بارزة للفوسفور الأبيض الذي يشتعل تلقائياً عند ملامسته الأوكسيجين.
وبحسب البعلبكي، لا يوجد بروتوكول موحّد أو واسع الانتشار يُحدِّد بدقّة خطوات تحليل الفوسفور الأبيض في المياه أو التربة. لكن على مدى 12 شهراً، تابع مراقبة العيّنات في المختبر ليجد أنها “ما زالت تحتوي على أجزاء تشتعل عند تفتيتها، مما يؤكد صعوبة تحلّل الفوسفور الأبيض في البيئة الطبيعية وإمكانية بقائه ملوِّثاً لفترات طويلة”، وفقاً لما قاله لـ “درج”.
بحسب المركز الوطني للبحوث العلمية، حوّلت إسرائيل الجنوب اللبناني إلى “محيط حيوي حربي Biosphere of War بغية تعطيل الحياة فيه”. وقد أُلقيت 284 قذيفة فوسفورية على لبنان، منها 221 قذيفة في محافظة النبطية، وفقاً للمركز عينه. وبلغت مساحة الأراضي المحروقة جراء القذائف الفوسفورية 2192 هكتاراً منها غابات وأراضٍ زراعية وأشجار حمضيات وفاكهة وزيتون.
ووفقاً لوزارة الزراعة اللبنانية، بلغ عدد الحرائق الناتجة من استخدام إسرائيل الفوسفور الأبيض على الأراضي اللبنانية بين 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 و5 حزيران/ يوليو 2024 ما مجموعه 812 حريقاً، واستهدفت هذه الحرائق 60 ألف شجرة زيتون.
جدل علمي
يؤكّد الباحث البيئي عباس البعلبكي لـ “درج” وجود فجوة علمية حول آثار الفوسفور الأبيض على المياه والتربة. وتتضارب المعلومات في ما يتعلق بآثار استخدام إسرائيل الفوسفور الأبيض خلال الحرب الأخيرة مع لبنان. تقرير البنك الدولي يلفت إلى أن “الاستخدام المزعوم لذخائر الفوسفور الأبيض… يمكن أن يؤدي إلى تلوث المحاصيل والمياه السطحية والجوفية، مما يشكّل تهديداً طويل الأمد على الصحة والزراعة والبيئة”. بدوره، يؤكّد المجلس الوطني للبحوث العلمية أن الاستخدام المكثّف للقذائف أدى إلى تلويث التربة بمواد ضارّة، مما تسبب في تدهور صحتها وخصوبتها.
يشرح البروفيسور رامي زريق، وهو كيميائي التربة في الجامعة الأميركية في بيروت، لـ “درج” أن “الفوسفور الأبيض P4 هو مادة تشتعل عندما تتفاعل مع الأوكسيجين حتى تتحول إلى أسيد فوسفوري”، ويوضح أن “هذا الاشتعال يخلق ضباباً كثيفاً أو ما يُعرف بستار الدخان، ويُستعمل كغطاء لتحركات الدبابات أو الجنود على الأرض”.
ويشرح زريق أن الفوسفور الأبيض “يسبب أضراراً جسيمة للبيئة، إذ يدمر المزروعات نتيجة الغيوم المحمّلة بحمض الفوسفوريك، التي تؤدي إلى ذبول النباتات وموتها، كما يساهم في حرائق الأحراج والغابات، ما يترك أثراً سلبياً واضحاً على النظم البيئية”، ويلفت إلى أنه “إذا سقطت كتلة من الفوسفور في النهر، فإنها تستقر في قاعه”.
يحذّر تقرير الجامعة الأميركية في بيروت بعنوان “الأثر الاجتماعي- البيئي للفوسفور الأبيض في جنوب لبنان”، من أن تسرّب الفوسفور الأبيض إلى التربة يهدّد مجموعة متنوعة من الكائنات الحية، ويؤدي الى تلوث المياه السطحية والجوفية، معرضاً الأمن الغذائي للخطر، ويتوقّع التقرير انخفاض إنتاجية الأراضي الزراعية نتيجة للقصف بالفوسفور الأبيض.
ويستند التقرير إلى دراسات وكالة المواد السامة وسجل الأمراض، التي تشير إلى أن “استخدام ذخائر الفوسفور الأبيض يؤدي إلى بقاء 10 في المئة من الفوسفور في التربة أو المياه”.
ووفقاً للوكالة، “يتفاعل الفوسفور الأبيض بشكل أساسي مع الأوكسيجين في الماء، حيث يمكن أن يبقى لساعات أو أيام. أما قطع الفوسفور الأبيض المغلّفة بطبقات واقية، فيمكنها أن تبقى في الماء والتربة لسنوات إذا كانت مستويات الأوكسيجين منخفضة جداً”. وتشير الوكالة إلى أن الفوسفور الأبيض “قد يبقى في التربة لبضعة أيام قبل أن يتحوّل إلى مواد كيميائية أقل ضرراً. ومع ذلك “قد يبقى الفوسفور الأبيض لآلاف السنين في التربة العميقة ورواسب قاع الأنهار والبحيرات حيث لا يوجد أوكسيجين”.
في مقابلة مع “درج” قال مستشار وزير البيئة ومدير مختبرات البيئة والزراعة والغذاء في الجامعة الأميركية في بيروت الدكتور محمد أبيض، إن “الدراسات التي أُجريت على التربة منذ بداية الحرب على لبنان حتى كانون الأول/ يناير 2024، كشفت عن زيادة مستويات الفوسفور بمعدلات تتراوح بين 100 إلى 400 ضعف التركيزات الطبيعية”.
لكن يعتبر أبيض أن الآثار السلبية للفوسفور الأبيض “تقتصر على الضرر الفوري من دون وجود تأثيرات طويلة المدى”، ويلفت إلى أن “الخطر الأكبر يتمثل في المعادن الثقيلة مثل النيكل، الكادميوم، الباريوم، والزئبق، التي تنتج من القصف، وهي مرتبطة بالأمراض السرطانية. وفي هذا السياق، يذكر أنه في عام 2022، أُجريت دراسة على مناطق تعرّضت للقصف في حرب تموز/ يوليو 2006، وكشفت أنها ما زالت تحتوي على تركيزات عالية من المعادن الثقيلة، ويؤكّد أن الاختبارات التي أُجريت على عينات الزيت والزيتون الذي تعرّض للقصف بالفوسفور الأبيض خلال الحرب الأخيرة، تُظهر أنها لا تزال صالح للاستهلاك.
وتتوافق آراء أبيض مع دراسة أجرتها القوة الإسبانية في قوات “اليونيفيل” العاملة في جنوب لبنان، التي أشارت إلى أن الفوسفور الأبيض لا يضرّ بالحياة الزراعية والحيوانية، وبالتالي يمكن ممارسة الحياة الطبيعية على الأراضي المتضرّرة بعد استخدامه.
إقرأوا أيضاً:
معضلة بيئيّة وتأثيرات غير محسومة
حصل فريق الباحثين بإشراف البروفيسور زريق، على عينات من مناطق زراعية في الجنوب وبعلبك، لكن الدراسة لم تعد تركّز على الفوسفور الأبيض. وفي مقابلة مع “درج” قالت لين ديراني وهي طالبة دكتوراه في الجامعة الأميركية: “نحن ندرس تأثير مخلّفات القذائف والمتفجرات على التربة”، وأضافت: “تُحلَّل العينات لتحديد تركيزات ستة معادن ثقيلة، والتي أشارت الدراسات أنها توجد بشكل شائع في مواقع القصف، وهي: الكادميوم، الزنك، النيكل، الرصاص، الكوبالت، والتنغستن”، وتابعت: “الفريق يدرس أيضاً النشاط الميكروبي في التربة، وهو يعدّ مؤشراً مهماً لصحتها”.
تعتمد الدراسة على نهج علم المواطنين، أي التعاون بين الباحثين المتطوعين الذين لديهم القدرة على الوصول إلى المناطق، التي تعرّضت للقصف بالفوسفور الأبيض. ويتم جمع العينات من نقطة محورية، وهي مكان التفجير، ومن دوائر حولها، ومن منطقة تبعد قرابة 500 متر.
وقالت ديراني: “لاحظنا ارتفاع مستوى الفوسفور، ولكن لم نستطع بعد تحديد مستويات عالية من الفوسفور الأبيض”، وختمت بقولها: “من الصعب أن يبقى الفوسفور في التربة، وهو مختلف عن المعادن الثقيلة التي تترسخ فيها، لكن التحاليل تتطلّب وقتاً لإصدار النتائج الحاسمة”.
أمام هذا الجدل العلمي، يؤكّد البروفيسور زريق أهمية التعاون بين الباحثين لدراسة الترسّبات، إذ يمكنهم استخدام العينات نفسها، ويقول: “يجب تطوير تقنيات موحدة لجمع العيّنات وتحليلها، إضافة إلى تبادل النتائج للاستفادة منها بشكل أوسع”.
ثغرات قانونية تُغطي جرائم بيئية في النزاعات المسلّحة
في عام 2013، تعهّد الجيش الإسرائيلي بعدم استعمال أسلحة تحتوي على الفوسفور الأبيض، لكن عاد واستخدمها في حربه الأخيرة على غزة ولبنان. واعترف الجيش الإسرائيلي باستخدام الفوسفور الأبيض لـ”إنشاء ستائر دخانية، وليس للاستهداف أو إشعال الحرائق”، شارحاً أن الأمر “يتماشى مع متطلّبات القانون الدولي”، وفقاً لصحيفة “واشنطن بوست“.
بحسب “هيومن رايتس ووتش”، استخدمت إسرائيل ذخائر الفوسفور الأبيض في ما لا يقلّ عن 17 بلدة في لبنان، بما في ذلك 5 بلدات استُخدمت فيها هذه الذخائر بشكل غير قانوني في المناطق السكنية. ويشير تقرير سري أعدته دولة مساهمة في قوات “اليونيفيل” واطّلعت عليه صحيفة “الفاينانشال تايمز“، إلى أن مادة الفوسفور الأبيض الحارقة استُخدمت بالقرب من قاعدة “اليونيفيل”، مما أدى إلى إصابة 15 عنصراً من قوات حفظ السلام.
يؤكّد نقيب المحامين السابق محلم خلف، في مقابلة مع “درج”، أن “القانون الدولي يخلو من اتفاقية تحظر صراحة استخدام سلاح الفوسفور الأبيض خلال النزاعات المسلحة”، ويشير إلى أن اتفاقية حظر الأسلحة التقليدية التي وقّع عليها لبنان، “تحظر استخدام الأسلحة الحارقة من الجو والأرض ضد المدنيين المقيمين في مناطق سكنية، ويحظر جعل الغابات وأي غطاء نباتي هدفاً للأسلحة الحارقة”.
لم تنضمّ إسرائيل إلى اتفاقية حظر الأسلحة التقليدية، لكن انطلاقاً من عدم صراحة النص القانوني، يشدّد خلف على أهمية الاستعانة بالقواعد وبأعراف القانون الإنساني الدولي الملزمة، في تفسير مدى قانونية استخدام الفوسفور الأبيض خلال النزاعات المسلحة، ويقول: “إذا ما كان سلاح الفوسفور الأبيض هو سلاح حارق قاتل، فبالتالي تنطبق عليه اتفاقية حظر الأسلحة التقليدية”.
يشرح رامي زريق أن “الفوسفور الأبيض يؤثّر على الإنسان بطرق مباشرة وغير مباشرة”، ويوضح قائلاً: “عند استنشاق حمض الفوسفوريك الناتج منه، تحدث التهابات حادة في الجهاز التنفسي قد تؤدي إلى الوفاة، أما في حال ملامسته الجسم، فإنه يستمر في الاشتعال حتى يصل إلى العمق، مما يسبب حروقاً عميقة يصعب التعامل معها”.
النقيب خلف يشرح أن البروتوكول الثالث لاتفاقية حظر الأسلحة التقليدية، يعرّف السلاح الحارق على أنه “سلاح أو ذخيرة مُصمم لإشعال النار في الأشياء، أو للتسبب بحروق بفعل اللهب أو الحرارة، والمتولد عن تفاعل كيميائي لمادة تطلق على الهدف”. ويوضح أن “النص لا يُشير إلى الفوسفور الأبيض بوصفه سلاحاً حارقاً، لاعتباره سلاحاً دخانياً بموجب الاتفاقية”. ومع ذلك، يؤكّد خلف أن “الفوسفور الأبيض يُعتبر سلاحاً حارقاً لأنه يتسبب بحروق للمدنيين ويُشعل النار في الأشياء، ما يستوجب الالتزام بمبادئ القانون الدولي العُرفي، بما في ذلك مبادئ التناسب، حظر الهجمات العشوائية، وعدم التسبب بآلام مفرطة”.
في عام 2009 ، وبعد استخدام إسرائيل ذخائر الفوسفور الأبيض بشكل مفرط على المدنيين في غزة ، أشار تقرير طبي أعدّته وزارة الصحة الإسرائيلية، إلى أن الفوسفور الأبيض “يمكن أن يسبب إصابات خطيرة والوفاة عند ملامسته الجلد أو استنشاقه أو ابتلاعه”، وأكّد التقرير “يُعتبر الفوسفور الأبيض ساماً وله عواقب خطيرة تزيد من شدة الإصابة”.
ويشير النقيب خلف إلى أن “المادة الثانية من اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية تعرّف المادة الكيميائية بالمادة السامة” التي “يمكن من خلال مفعولها الكيميائي في العمليات الحيوية أن تُحدث وفاة أو عجزاً مؤقتاً أو أضراراً دائمة للإنسان أو الحيوان”، ويؤكّد خلف ضرورة مراجعة التعريفات المتعلقة بالمواد السامة والخطرة والكيميائية ذات النص الواضح في الاتفاقيات الدولية، وفقاً لما ورد في اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية وتدميرها التي “تحظر استخدام المواد الكيميائية الخطرة والسامة، بخاصة إذا كانت لها آثار ضارّة”.
من جهته، يعرّف الدكتور محمد أبيض في مقابلة مع “درج”، الفوسفور الأبيض على أنه “سلاح كيميائي، لكنه ليس محرّماً في القانون الدولي”، ما يبرز التحديات في تفسير وتطبيق القوانين الدولية بشأن استخدام مثل هذه المواد في النزاعات.
يحسم النقيب خلف الجدل بقوله إن “اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، حتى وإن لم تذكر صراحةً الفوسفور الأبيض، إلا أنها تنصّ على حظر استخدام السلاح الكيميائي وكذلك على استحداثه وإنتاجه وتخزينه”، وبالتالي، وفقاً لخلف، إذا ثبت أن الفوسفور الأبيض هو سلاح كيميائي “يحظر استخدامه بموجب اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية”.
وصفت ثماني دول الأسلحة الحارقة بأنها “من بين الأكثر وحشية” خلال النزاعات المسلحة، وبإمكانها أن تسبب حروقاً شديدة وأضراراً تنفّسية لا يتوافر لها عادة العلاج الطبي المتخصص خلال الحروب، واعترفت الدول بالحاجة إلى معالجة الفجوة بتعريف البروتوكول الثالث لاتفاقية حظر الأسلحة التقليدية، الذي لم يصنّف الفوسفور الأبيض لأنها “تقوّض من فعالية الاتفاقية”.
يُعتبر استخدام الفوسفور الأبيض انتهاكاً جسيماً للقوانين الدولية، ووفقاً للنقيب خلف “هو سلاح مدمر وقد يرقى لاعتبار استخدامه من صنف جرائم الإبادة، جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية”، ويوضح “يستوجب استخدامه خلال الحرب الأخيرة على لبنان المساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية”.
إقرأوا أيضاً: