fbpx

هل الصداقة بين إيران والولايات المتحدة ممكنة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إذا كان ترامب مذنباً بسبب سذاجته تجاه إيران كما جاء في كلام روحاني، فإن النظام في طهران يعتبر مذنباً لارتكاب ما هو أسوأ: نشر خرافة تاريخية تقول إن الولايات المتحدة وقفت ضد الجمهورية الإسلامية منذ البداية

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

احتفلت إيران في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر بالذكرى التاسعة والثلاثين لاقتحام السفارة الأميركية من قبل حوالي 400  طالب إسلامي وسط طهران. ميّزت الولايات المتحدة هذا التاريخ أيضاً: ففي الخامس من تشرين الثاني، فرضت على إيران مجموعة جديدة من العقوبات التي وصفتها إدارة دونالد ترامب بأنها جزء من حملة “ضغط قصوى” تهدف إلى إعادة البلاد إلى طاولة المفاوضات.

استجاب وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف سريعاً من خلال رسالة فيديو قال فيها لترامب “واصل حلمك”. يعتقد ظريف أن ترامب يشبه الرؤساء الذين سبقوه والذين اقتصرت سياستهم الرئيسية تجاه إيران على “الغطرسة”، وسرعان ما سيشهد فشل جهوده. لكن على رغم ذلك أصبحت الأصوات التي كانت تهمس بضرورة كسر الجمود والتحدث إلى ترامب أكثر علواً.

حتى لو كان التفاوض مع ترامب مستحيلاً – كما قال المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي- لا تزال القيادة في طهران ترى في رئاسته فرصة لتمهيد الطريق للتحدث مع الرئيس الذي سيخلفه. وكما قال الرئيس الإيراني حسن روحاني، فإن أميركا أكبر من ترامب بكثير. إنه محق لكن مسؤولية الإقرار جدياً بهذه الحقيقة وتخفيف حدة التحريض ضد الولايات المتحدة ستقع على عاتق بقية القيادة الإيرانية. إذا بدا هذا الأمر غير قابل للتصديق، فإن طهران تحتاج فقط إلى النظر إلى الوراء إلى الوقت الذي شهد ميلاد الجمهورية الإسلامية سنة 1979. في تلك الأيام أصبحت العلاقات مع واشنطن شائكة من طريق المصادفة تقريباً.

انطوت الطريقة التي استجاب بها ظريف للعقوبات على بعض المفارقة. فمن جهة، يتذمر المسؤولون الإيرانيون من غطرسة واشنطن وخوفها من إيران. لكن على رغم ذلك كان لدى المؤسسة السياسية الرسمية في إيران رهاب من أميركا.

تتلقى الشخصيات البارزة التي تتجرأ على مساءلة هذا التقليد السائد مثل روحاني وظريف انتقاداً شديداً من داخل النظام. عندما كان روحاني في نيويورك في شهر أيلول/ سبتمبر لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، جلس وفده في أبعد نقطة لتجنب أي لقاء عرضي بينه وترمب. كما كان واضحاً من خطاب روحاني في الأمم المتحدة في 25 أيلول أنه كان ثابتاً على شيء واحد فقط: طمأنة منافسيه المتشددين في طهران بأنه لا ينوي التودد لرئيس أميركي قدمت إدارته قائمة بـ12 تنازلاً يجب أن تنفذها طهران لترفع عنها العقوبات.

لن يوافق خامنئي أبداً على تلك التنازلات طالما ظل يحيط نفسه بجنرالات الحرس الثوري الإسلامي، المهددين بخسارة رزقهم إذا اختارت طهران مصالحة واشنطن. لكن ليس هناك شك في أن طهران تعرف التكاليف الباهظة المترتبة على معاداة الولايات المتحدة.

في الحقيقة، تضج السنوات الأربعون الأخيرة بأمثلة تثبت هذه النقطة.

حصار السفارة الأميركية في طهران عام 1979

يبحث روحاني انطلاقاً من فهمه لضغط من كلا الجانبين عن طرائق لإبعاد قضية أميركا من الطاولة. وبدلاً من لوم الولايات المتحدة على سوء العلاقات بين البلدين، طلب من ترامب ألا يسمح للإسرائيليين والسعوديين والمعارضة الإيرانية في المنفى بتضليله. المعنى المبطّن لما قاله واضح: الأطراف الخارجية تفسد العلاقات بين طهران وواشنطن. قد يبدو الأمر وكأنه انسحاب، وهو كذلك، لكنه أيضاً انفتاح من نوع ما. يقف روحاني وغيره من القادة الثوريين الإسلاميين المنتمين إلى الجيل الأول والمتهمين بصنع غول أميركا في أفضل موقع يمكنهم من البدء في البحث عن أساليب لتبديد هذه الخرافة.

إذا كان ترامب مذنباً بسبب سذاجته تجاه إيران كما جاء في كلام روحاني، فإن النظام في طهران يعتبر مذنباً لارتكاب ما هو أسوأ: نشر خرافة تاريخية تقول إن الولايات المتحدة وقفت ضد الجمهورية الإسلامية منذ البداية. عندما يتحدث ظريف، الذي يزعم أنه معتدل بخصوص هذا الموضوع، عن 40 سنة من العداء الأميركي لإيران، يبدو وكأن سياسات واشنطن تجاه الإسلاميين الإيرانيين نشأت من فراغ منذ اللحظة التي ولدت فيها الجمهورية. لكن الواقع شيء مختلف.

منذ ظهور العلامات الأولى على اقتراب الإطاحة بنظام الشاه سنة 1979، بحثت واشنطن عن طرائق للعمل مع أولئك الذين يفترض بهم أن يصبحوا حكام إيران الجدد. كان هدفها الرئيسي هو حماية المصالح الأميركية الكبيرة في منطقة حيوية في ذروة الحرب الباردة. بعد الثورة بوقت قصير، جاء سيروس فانس الذي كان يشغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت، ليرى آية الله روح الله الخميني باعتباره أفضل من يستطيع ضمان عدم سيطرة الشيوعية في طهران. وطرح عليه إمكان إقامة تعاون وثيق بين النظام الجديد وواشنطن. لربما كان فانس جاهلاً بالرؤى التي تحملها الدائرة المقربة من الخميني، ومع ذلك كان يتحرك بناء على التعليمات التي كان يتلقاها من النواب الرئيسيين للشيخ. أخبر مستشارو الخميني الأميركيين أن آية الله سيكون منفتحاً على الاستثمار الأميركي، لكنه سيكون معادياً للغرب عموماً، و سيكون معادياً “للملحدين” و”السوفييت المعادين للدين” بشكل أكبر.

الضغط غير المسبوق الذي تطرحه إدارة ترامب على إيران يجبر القيادة في طهران بفصائلها المختلفة ومصالحها المتباينة على التفكير بجدية أكبر في موقفها تجاه الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى

في البداية، لم يكن الخمينيون مهتمين بالدخول في صدام مفتوح مع الولايات المتحدة. فعندما اقتحمت مجموعة من المسلحين اليساريين المتطرفين السفارة الأميركية في 15 من شباط/ فبراير عام 1979، أنهت فرقة إنقاذ مسلحة أرسلها الخميني الحصار. وقال رجال الميليشيات الخمينيون للدبلوماسيين الأميركيين والضباط العسكريين المذعورين “أنتم إخواننا لا تقلقوا”. صرح السفير الأميركي للصحافيين في اليوم نفسه، قائلاً “اتصلنا هاتفياً بجماعة الخميني ودخلوا وأنقذونا في آخر لحظة”. ضُمت معظم هذه الميليشيات في وحدة مسلحة جديدة، تسمى الحرس الثوري.

في الأشهر التالية، أعاد رئيس الوزراء المعتدل مهدي بازركان التشديد مراراً وتكراراً على أن طهران تنوي إقامة علاقات جيدة مع واشنطن. عندما هاجمه اليسار المتطرف أو المتشددين في معسكر الخميني لأنه تصرف بلين مع الأميركيين، دافع بازركان عن نفسه بالقول إن الخميني نفسه أجاز المحادثات مع الولايات المتحدة. طلب بازركان مراراً إقامة علاقات عسكرية وتجارية مع الولايات المتحدة الأميركية، وطلب معلومات استخباراتية من واشنطن مرة واحدة على الأقل. واستمرت العلاقات الاقتصادية، التي شملت شراء إيران السلع الأميركية، حتى لو كانت أقل بكثير مما كانت عليه أيام الشاه.

التقى آية الله محمد بهشتي أحد أقرب الموالين للخميني، مع أهم رجل في  وكالة المخابرات المركزية في الشرق الأوسط  بوب أميس، الذي منح الحكام الإسلاميين الجدد لإيران فرصة إطلاق تعاون مخابرتي استراتيجي. بالنسبة إلى الإسلاميين الإيرانيين لم تكن فكرة العمل مع الأميركيين محرمة بالشكل الذي أصبحت عليه في ما بعد.

أمضت دائرة الخميني عام 1979  في حساب كيفية الاستفادة من الولايات المتحدة، ومراقبة المنافسين المحليين مثل القوى السياسية القومية اليسارية والعلمانية.

هناك طريقة أخرى لفهم تصرفات النظام عبر النظر إلى التنافس بين كبار قادة النظام. العنوان الرئيسي هنا هو أن حماية المصالح الضيقة للفصائل الرئيسية داخل النظام غالباً ما يأتي على حساب المصلحة الوطنية

ولعل هذا هو سبب لقاء حليف الخميني الرئيسي والنائب المستقبلي للزعيم الأعلى، آية الله حسين علي منتظري بمسؤولين أميركيين قبل أسبوع من اقتحام السفارة الأميركية، في تشرين الثاني. تظهر مراسلات وكالة المخابرات المركزية الأميركية أن آية الله حسين علي أعرب خلال الاجتماع عن “إعجابه الكبير بالرئيس كارتر” وكان يأمل بأن تتوسع العلاقات بينهما.

ولكن بعد أسبوع واحد، ذهبت جميع النيات الحسنة أدراج الرياح. عاد رجال الميليشيات الموالية للخميني إلى سفارة الولايات المتحدة ليس بصفتهم رجال إنقاذ، بل انضموا إلى المهاجمين. لم يكن الهجوم عقدياً، فلو كان وجود الولايات المتحدة في طهران لعنة، فمن غير المنطقي أن ينتظر الإسلاميون ما يقارب العشرة أشهر بعد سقوط الشاه ليقتحموا السفارة، في حين كانوا متمسكين بها طيلة هذه المدة. وبدلاً من الأيديولوجيا، كان التنافس المتزايد على السلطة في طهران هو من مهد الطريق لهذا الحدث.

الرئيس الإيراني مع الأمين العام للأمم المتحدة، أيلول 2018

كتب الكثير حول مدى علم الخميني المسبق بخطة اقتحام السفارة. من المحتمل أنه لم يكن على علم، لكن ما لا شك فيه هو أنه بارك استمرار أزمة الرهائن حتى عندما تراكمت الأدلة التي تفيد بأن الحادث يكلف إيران غالياً على جميع المستويات. بالنسبة إليه، كان توطيد قبضته على السلطة في الجبهة الداخلية أكثر أهمية، وكانت للأزمة مع واشنطن منافع واضحة.

ظهرت في ذلك الوقت ثلاث فوائد للأزمة. أولاً، أدت أزمة الرهائن إلى استقالة وتهميش الإسلاميين “الليبراليين” الذين كانوا يحيطون ببازركان وكانوا أكثر ولاء له من الزعيم الأعلى. ثانياً، وضع اقتحام السفارة الولايات المتحدة فجأة في موقف دفاعي وأجبرها على اعتبار الخميني خليفة الشاه الحقيقي الوحيد. ثالثاً دعم معظم الشباب اليساريين الراديكاليين في البداية السيطرة على السفارة، مما سمح للخميني باجتذاب الدعم من الفصائل الثورية المتنافسة.

عندما ينظر المؤرخون إلى التطورات التي عرفتها الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979، يميلون إلى شرح تصرفاتها من منظار الأيديولوجيا الدينية. لا شك في أن العقيدة وجّهت كثيراً من سلوكيات هذا النظام، ولكنها لم تشكّله بالكامل. هناك طريقة أخرى لفهم تصرفات النظام عبر النظر إلى التنافس بين كبار قادة النظام. العنوان الرئيسي هنا هو أن حماية المصالح الضيقة للفصائل الرئيسية داخل النظام غالباً ما يأتي على حساب المصلحة الوطنية. إن القصة التي يدور حولها اقتحام السفارة الأميركية في طهران هي أوضح مثال على  المأساة الإيرانية.

بالنسبة إلى روحاني، الرجل الذي انتخب مرتين بناءً على وعوده بكسر عزلة إيران الدولية، فإن البحث عن طرائق لإنهاء هوس الجمهورية الإسلامية بالولايات المتحدة أمر معقول على مستويات عدة. إضافة إلى أمور أخرى يؤيد الجمهور الإيراني تطبيع العلاقات مع واشنطن، كما يوافق متوسط الإيرانيون على أن إيران لن تمتلك القدرة على ممارسة سياسة خارجية تقليدية حتى تجد طريقة للتحدث مع الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، يشكّل ميل طهران للوم الولايات المتحدة على كل مشكلات الشرق الأوسط، من الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات إلى الصراع اليمني اليوم، عقبة حقيقية أمام أي حوار محتمل.

لا يأمل متوسط الإيرانيون بإلغاء العداوة التي جمعت إيران والولايات المتحدة بين عشية وضحاها. بل يأملون بأن تبدأ عما قريب عملية تأمّل

من المؤكد أن نهج ترامب التفاوضي الذي يقضي بالحصول على كل شيء أو لا شيء، يجعل التفاوض معه عسيراً وشاقاً حتى بالنسبة إلى حكومة روحاني. لكن روحاني ما زال يدرك أنه في حاجة إلى أن يبدأ معاملة الولايات المتحدة بناء على حجمها الحقيقي: أكبر قوة عالمية، وأن طهران اختارت من دون قصد خوض معركة عام 1979، عندما لم تكن هناك حاجة للقيام بذلك.
لا يزال أولئك الموجودون في طهران والذين يؤيدون بدء صفحة جديدة في العلاقات مع الولايات المتحدة، يواجهون منافسين يرون أن التخلي عن العداء تجاه واشنطن لن يؤدي إلا إلى إضعاف نسيج إيران الداخلي.

هذا ليس نقاشاً جديداً، ولكن الضغط غير المسبوق الذي تطرحه إدارة ترامب على إيران يجبر القيادة الجماعية في طهران بفصائلها المختلفة ومصالحها المتباينة على التفكير بجدية أكبر في موقفها تجاه الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى. كل شيء واضح  ليس هناك بديل جيد يغني عن التحدث مع واشنطن. أحلام طهران بأن تنقذها الصين، أو روسيا، أو حتى أوروبا باءت بالفشل مراراً. في الواقع، تستفيد الصين وروسيا كثيراً من الصدام الإيراني-الأميركي، كما أن أوروبا لم ولن تكون مدافعة عن طهران.

في هذه اللحظة، فإن انتصار طائفة واحدة في طهران في ما يخص هذه المسألة أمر غير مرجح. لا يأمل متوسط الإيرانيون بإلغاء العداوة التي جمعت إيران والولايات المتحدة بين عشية وضحاها. بل يأملون بأن تبدأ عما قريب عملية تأمّل ونقد الذاتي للسياسة، تأخرت كثيراً عن موعدها، بخاصة إذا كانت البلاد تواجه صعوبة في إدراك بعض الحقائق التاريخية المتعلقة بسبب وجود هذه المشكلات بين إيران والولايات المتحدة في المقام الأول.

هذا المقال مترجم عن موقع Foreign Policy ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

إقرأ أيضاً:
خامنئي لن يمنع لقاء “سرياً” بين روحاني وترامب

حازم الأمين - صحافي وكاتب لبناني | 06.11.2024

“حلّ الدولتين” الضحيّة الأولى لفوز دونالد ترامب

اليوم ومع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، علينا أن ننتظر انقلاباً كبيراً على هذا الصعيد. فالإدارة الديموقراطية كانت تتحدث عن "حل الدولتين" بوصفه أفقاً استراتيجياً غير راهن، لا بد منه، أما إدارة دونالد ترامب فلا أثر في خطابها لحل الدولتين، و"السلام الإبراهيمي" هو ما تقترحه على العالم العربي.
09.12.2018
زمن القراءة: 8 minutes

إذا كان ترامب مذنباً بسبب سذاجته تجاه إيران كما جاء في كلام روحاني، فإن النظام في طهران يعتبر مذنباً لارتكاب ما هو أسوأ: نشر خرافة تاريخية تقول إن الولايات المتحدة وقفت ضد الجمهورية الإسلامية منذ البداية

احتفلت إيران في الرابع من تشرين الثاني/ نوفمبر بالذكرى التاسعة والثلاثين لاقتحام السفارة الأميركية من قبل حوالي 400  طالب إسلامي وسط طهران. ميّزت الولايات المتحدة هذا التاريخ أيضاً: ففي الخامس من تشرين الثاني، فرضت على إيران مجموعة جديدة من العقوبات التي وصفتها إدارة دونالد ترامب بأنها جزء من حملة “ضغط قصوى” تهدف إلى إعادة البلاد إلى طاولة المفاوضات.

استجاب وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف سريعاً من خلال رسالة فيديو قال فيها لترامب “واصل حلمك”. يعتقد ظريف أن ترامب يشبه الرؤساء الذين سبقوه والذين اقتصرت سياستهم الرئيسية تجاه إيران على “الغطرسة”، وسرعان ما سيشهد فشل جهوده. لكن على رغم ذلك أصبحت الأصوات التي كانت تهمس بضرورة كسر الجمود والتحدث إلى ترامب أكثر علواً.

حتى لو كان التفاوض مع ترامب مستحيلاً – كما قال المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي- لا تزال القيادة في طهران ترى في رئاسته فرصة لتمهيد الطريق للتحدث مع الرئيس الذي سيخلفه. وكما قال الرئيس الإيراني حسن روحاني، فإن أميركا أكبر من ترامب بكثير. إنه محق لكن مسؤولية الإقرار جدياً بهذه الحقيقة وتخفيف حدة التحريض ضد الولايات المتحدة ستقع على عاتق بقية القيادة الإيرانية. إذا بدا هذا الأمر غير قابل للتصديق، فإن طهران تحتاج فقط إلى النظر إلى الوراء إلى الوقت الذي شهد ميلاد الجمهورية الإسلامية سنة 1979. في تلك الأيام أصبحت العلاقات مع واشنطن شائكة من طريق المصادفة تقريباً.

انطوت الطريقة التي استجاب بها ظريف للعقوبات على بعض المفارقة. فمن جهة، يتذمر المسؤولون الإيرانيون من غطرسة واشنطن وخوفها من إيران. لكن على رغم ذلك كان لدى المؤسسة السياسية الرسمية في إيران رهاب من أميركا.

تتلقى الشخصيات البارزة التي تتجرأ على مساءلة هذا التقليد السائد مثل روحاني وظريف انتقاداً شديداً من داخل النظام. عندما كان روحاني في نيويورك في شهر أيلول/ سبتمبر لحضور الجمعية العامة للأمم المتحدة، جلس وفده في أبعد نقطة لتجنب أي لقاء عرضي بينه وترمب. كما كان واضحاً من خطاب روحاني في الأمم المتحدة في 25 أيلول أنه كان ثابتاً على شيء واحد فقط: طمأنة منافسيه المتشددين في طهران بأنه لا ينوي التودد لرئيس أميركي قدمت إدارته قائمة بـ12 تنازلاً يجب أن تنفذها طهران لترفع عنها العقوبات.

لن يوافق خامنئي أبداً على تلك التنازلات طالما ظل يحيط نفسه بجنرالات الحرس الثوري الإسلامي، المهددين بخسارة رزقهم إذا اختارت طهران مصالحة واشنطن. لكن ليس هناك شك في أن طهران تعرف التكاليف الباهظة المترتبة على معاداة الولايات المتحدة.

في الحقيقة، تضج السنوات الأربعون الأخيرة بأمثلة تثبت هذه النقطة.

حصار السفارة الأميركية في طهران عام 1979

يبحث روحاني انطلاقاً من فهمه لضغط من كلا الجانبين عن طرائق لإبعاد قضية أميركا من الطاولة. وبدلاً من لوم الولايات المتحدة على سوء العلاقات بين البلدين، طلب من ترامب ألا يسمح للإسرائيليين والسعوديين والمعارضة الإيرانية في المنفى بتضليله. المعنى المبطّن لما قاله واضح: الأطراف الخارجية تفسد العلاقات بين طهران وواشنطن. قد يبدو الأمر وكأنه انسحاب، وهو كذلك، لكنه أيضاً انفتاح من نوع ما. يقف روحاني وغيره من القادة الثوريين الإسلاميين المنتمين إلى الجيل الأول والمتهمين بصنع غول أميركا في أفضل موقع يمكنهم من البدء في البحث عن أساليب لتبديد هذه الخرافة.

إذا كان ترامب مذنباً بسبب سذاجته تجاه إيران كما جاء في كلام روحاني، فإن النظام في طهران يعتبر مذنباً لارتكاب ما هو أسوأ: نشر خرافة تاريخية تقول إن الولايات المتحدة وقفت ضد الجمهورية الإسلامية منذ البداية. عندما يتحدث ظريف، الذي يزعم أنه معتدل بخصوص هذا الموضوع، عن 40 سنة من العداء الأميركي لإيران، يبدو وكأن سياسات واشنطن تجاه الإسلاميين الإيرانيين نشأت من فراغ منذ اللحظة التي ولدت فيها الجمهورية. لكن الواقع شيء مختلف.

منذ ظهور العلامات الأولى على اقتراب الإطاحة بنظام الشاه سنة 1979، بحثت واشنطن عن طرائق للعمل مع أولئك الذين يفترض بهم أن يصبحوا حكام إيران الجدد. كان هدفها الرئيسي هو حماية المصالح الأميركية الكبيرة في منطقة حيوية في ذروة الحرب الباردة. بعد الثورة بوقت قصير، جاء سيروس فانس الذي كان يشغل منصب وزير خارجية الولايات المتحدة في ذلك الوقت، ليرى آية الله روح الله الخميني باعتباره أفضل من يستطيع ضمان عدم سيطرة الشيوعية في طهران. وطرح عليه إمكان إقامة تعاون وثيق بين النظام الجديد وواشنطن. لربما كان فانس جاهلاً بالرؤى التي تحملها الدائرة المقربة من الخميني، ومع ذلك كان يتحرك بناء على التعليمات التي كان يتلقاها من النواب الرئيسيين للشيخ. أخبر مستشارو الخميني الأميركيين أن آية الله سيكون منفتحاً على الاستثمار الأميركي، لكنه سيكون معادياً للغرب عموماً، و سيكون معادياً “للملحدين” و”السوفييت المعادين للدين” بشكل أكبر.

الضغط غير المسبوق الذي تطرحه إدارة ترامب على إيران يجبر القيادة في طهران بفصائلها المختلفة ومصالحها المتباينة على التفكير بجدية أكبر في موقفها تجاه الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى

في البداية، لم يكن الخمينيون مهتمين بالدخول في صدام مفتوح مع الولايات المتحدة. فعندما اقتحمت مجموعة من المسلحين اليساريين المتطرفين السفارة الأميركية في 15 من شباط/ فبراير عام 1979، أنهت فرقة إنقاذ مسلحة أرسلها الخميني الحصار. وقال رجال الميليشيات الخمينيون للدبلوماسيين الأميركيين والضباط العسكريين المذعورين “أنتم إخواننا لا تقلقوا”. صرح السفير الأميركي للصحافيين في اليوم نفسه، قائلاً “اتصلنا هاتفياً بجماعة الخميني ودخلوا وأنقذونا في آخر لحظة”. ضُمت معظم هذه الميليشيات في وحدة مسلحة جديدة، تسمى الحرس الثوري.

في الأشهر التالية، أعاد رئيس الوزراء المعتدل مهدي بازركان التشديد مراراً وتكراراً على أن طهران تنوي إقامة علاقات جيدة مع واشنطن. عندما هاجمه اليسار المتطرف أو المتشددين في معسكر الخميني لأنه تصرف بلين مع الأميركيين، دافع بازركان عن نفسه بالقول إن الخميني نفسه أجاز المحادثات مع الولايات المتحدة. طلب بازركان مراراً إقامة علاقات عسكرية وتجارية مع الولايات المتحدة الأميركية، وطلب معلومات استخباراتية من واشنطن مرة واحدة على الأقل. واستمرت العلاقات الاقتصادية، التي شملت شراء إيران السلع الأميركية، حتى لو كانت أقل بكثير مما كانت عليه أيام الشاه.

التقى آية الله محمد بهشتي أحد أقرب الموالين للخميني، مع أهم رجل في  وكالة المخابرات المركزية في الشرق الأوسط  بوب أميس، الذي منح الحكام الإسلاميين الجدد لإيران فرصة إطلاق تعاون مخابرتي استراتيجي. بالنسبة إلى الإسلاميين الإيرانيين لم تكن فكرة العمل مع الأميركيين محرمة بالشكل الذي أصبحت عليه في ما بعد.

أمضت دائرة الخميني عام 1979  في حساب كيفية الاستفادة من الولايات المتحدة، ومراقبة المنافسين المحليين مثل القوى السياسية القومية اليسارية والعلمانية.

هناك طريقة أخرى لفهم تصرفات النظام عبر النظر إلى التنافس بين كبار قادة النظام. العنوان الرئيسي هنا هو أن حماية المصالح الضيقة للفصائل الرئيسية داخل النظام غالباً ما يأتي على حساب المصلحة الوطنية

ولعل هذا هو سبب لقاء حليف الخميني الرئيسي والنائب المستقبلي للزعيم الأعلى، آية الله حسين علي منتظري بمسؤولين أميركيين قبل أسبوع من اقتحام السفارة الأميركية، في تشرين الثاني. تظهر مراسلات وكالة المخابرات المركزية الأميركية أن آية الله حسين علي أعرب خلال الاجتماع عن “إعجابه الكبير بالرئيس كارتر” وكان يأمل بأن تتوسع العلاقات بينهما.

ولكن بعد أسبوع واحد، ذهبت جميع النيات الحسنة أدراج الرياح. عاد رجال الميليشيات الموالية للخميني إلى سفارة الولايات المتحدة ليس بصفتهم رجال إنقاذ، بل انضموا إلى المهاجمين. لم يكن الهجوم عقدياً، فلو كان وجود الولايات المتحدة في طهران لعنة، فمن غير المنطقي أن ينتظر الإسلاميون ما يقارب العشرة أشهر بعد سقوط الشاه ليقتحموا السفارة، في حين كانوا متمسكين بها طيلة هذه المدة. وبدلاً من الأيديولوجيا، كان التنافس المتزايد على السلطة في طهران هو من مهد الطريق لهذا الحدث.

الرئيس الإيراني مع الأمين العام للأمم المتحدة، أيلول 2018

كتب الكثير حول مدى علم الخميني المسبق بخطة اقتحام السفارة. من المحتمل أنه لم يكن على علم، لكن ما لا شك فيه هو أنه بارك استمرار أزمة الرهائن حتى عندما تراكمت الأدلة التي تفيد بأن الحادث يكلف إيران غالياً على جميع المستويات. بالنسبة إليه، كان توطيد قبضته على السلطة في الجبهة الداخلية أكثر أهمية، وكانت للأزمة مع واشنطن منافع واضحة.

ظهرت في ذلك الوقت ثلاث فوائد للأزمة. أولاً، أدت أزمة الرهائن إلى استقالة وتهميش الإسلاميين “الليبراليين” الذين كانوا يحيطون ببازركان وكانوا أكثر ولاء له من الزعيم الأعلى. ثانياً، وضع اقتحام السفارة الولايات المتحدة فجأة في موقف دفاعي وأجبرها على اعتبار الخميني خليفة الشاه الحقيقي الوحيد. ثالثاً دعم معظم الشباب اليساريين الراديكاليين في البداية السيطرة على السفارة، مما سمح للخميني باجتذاب الدعم من الفصائل الثورية المتنافسة.

عندما ينظر المؤرخون إلى التطورات التي عرفتها الجمهورية الإسلامية منذ عام 1979، يميلون إلى شرح تصرفاتها من منظار الأيديولوجيا الدينية. لا شك في أن العقيدة وجّهت كثيراً من سلوكيات هذا النظام، ولكنها لم تشكّله بالكامل. هناك طريقة أخرى لفهم تصرفات النظام عبر النظر إلى التنافس بين كبار قادة النظام. العنوان الرئيسي هنا هو أن حماية المصالح الضيقة للفصائل الرئيسية داخل النظام غالباً ما يأتي على حساب المصلحة الوطنية. إن القصة التي يدور حولها اقتحام السفارة الأميركية في طهران هي أوضح مثال على  المأساة الإيرانية.

بالنسبة إلى روحاني، الرجل الذي انتخب مرتين بناءً على وعوده بكسر عزلة إيران الدولية، فإن البحث عن طرائق لإنهاء هوس الجمهورية الإسلامية بالولايات المتحدة أمر معقول على مستويات عدة. إضافة إلى أمور أخرى يؤيد الجمهور الإيراني تطبيع العلاقات مع واشنطن، كما يوافق متوسط الإيرانيون على أن إيران لن تمتلك القدرة على ممارسة سياسة خارجية تقليدية حتى تجد طريقة للتحدث مع الولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، يشكّل ميل طهران للوم الولايات المتحدة على كل مشكلات الشرق الأوسط، من الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات إلى الصراع اليمني اليوم، عقبة حقيقية أمام أي حوار محتمل.

لا يأمل متوسط الإيرانيون بإلغاء العداوة التي جمعت إيران والولايات المتحدة بين عشية وضحاها. بل يأملون بأن تبدأ عما قريب عملية تأمّل

من المؤكد أن نهج ترامب التفاوضي الذي يقضي بالحصول على كل شيء أو لا شيء، يجعل التفاوض معه عسيراً وشاقاً حتى بالنسبة إلى حكومة روحاني. لكن روحاني ما زال يدرك أنه في حاجة إلى أن يبدأ معاملة الولايات المتحدة بناء على حجمها الحقيقي: أكبر قوة عالمية، وأن طهران اختارت من دون قصد خوض معركة عام 1979، عندما لم تكن هناك حاجة للقيام بذلك.
لا يزال أولئك الموجودون في طهران والذين يؤيدون بدء صفحة جديدة في العلاقات مع الولايات المتحدة، يواجهون منافسين يرون أن التخلي عن العداء تجاه واشنطن لن يؤدي إلا إلى إضعاف نسيج إيران الداخلي.

هذا ليس نقاشاً جديداً، ولكن الضغط غير المسبوق الذي تطرحه إدارة ترامب على إيران يجبر القيادة الجماعية في طهران بفصائلها المختلفة ومصالحها المتباينة على التفكير بجدية أكبر في موقفها تجاه الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى. كل شيء واضح  ليس هناك بديل جيد يغني عن التحدث مع واشنطن. أحلام طهران بأن تنقذها الصين، أو روسيا، أو حتى أوروبا باءت بالفشل مراراً. في الواقع، تستفيد الصين وروسيا كثيراً من الصدام الإيراني-الأميركي، كما أن أوروبا لم ولن تكون مدافعة عن طهران.

في هذه اللحظة، فإن انتصار طائفة واحدة في طهران في ما يخص هذه المسألة أمر غير مرجح. لا يأمل متوسط الإيرانيون بإلغاء العداوة التي جمعت إيران والولايات المتحدة بين عشية وضحاها. بل يأملون بأن تبدأ عما قريب عملية تأمّل ونقد الذاتي للسياسة، تأخرت كثيراً عن موعدها، بخاصة إذا كانت البلاد تواجه صعوبة في إدراك بعض الحقائق التاريخية المتعلقة بسبب وجود هذه المشكلات بين إيران والولايات المتحدة في المقام الأول.

هذا المقال مترجم عن موقع Foreign Policy ولقراءة المقال الأصلي زوروا الرابط التالي

إقرأ أيضاً:
خامنئي لن يمنع لقاء “سرياً” بين روحاني وترامب