في كل مرة تدوي فيها صافرات الإنذار في شمال إسرائيل، إثر رشقات صاروخية تطلق من جنوب لبنان في سياق “جبهة الإسناد” التي فتحها حزب الله “لإشغال” إسرائيل عن حربها على غزة، تدوّي مواقع التواصل الاجتماعي بـ”انتصارات” مؤيّدي حزب الله.
يرى المحتفلون أن “الانتصار” هو مشهد هرع الإسرائيليين إلى الملاجئ، في مقابل نشر صور لشاطئ مدينة صور وعليه رواد يستمتعون بالشمس والبحر أو ربما مشهد سيدة على سطح منزلها في الجنوب تجفّف مزروعاتها تحضيراً لمونة الشتاء فيما نرى في الخلفية مشاهد دخان القصف الإسرائيلي يتصاعد من بعيد.
الحقيقة أن المقارنة بين ردة الفعل في شمال إسرائيل وردة الفعل الرسمية والشعبية في لبنان، لا تعبّر عن انعدام الخوف عند اللبنانيين الجنوبيين قياساً بالإسرائيليين، بقدر ما تُظهر انعدام النظام وغياب أي مقوّم من مقومات الأمن والرعاية في الجنوب.
غياب إجراءات حماية المواطنين
الحديث عن انعدام الإجراءات الأمنية والدفاعية الضرورية في جنوب لبنان لحماية المواطنين في حالات الحرب، يفتح النقاش حول أولويات حكومة تصريف أعمال في ظل الفراغ السياسي الكبير الذي يعيشه لبنان منذ نحو سنتين.
أما جنوباً حيث الجبهة المفتوحة وحيث حكم حزب الله المطلق والمتحكم بمصائر الناس في السلم والحرب، فتعلو وتيرة الهمس بشأن إجراءات الحماية في ظل نزوح نحو مئة ألف جنوبي من القرى الحدودية، ومقتل نحو 400 لبناني ولبنانية، غالبيتهم مقاتلون وبينهم مدنيون، وحرق مساحات زراعية واسعة نتيجة قنابل فوسفورية إسرائيلية.
السؤال الآن، هل بالغ الإسرائيليون في اتباع سياسات أمنية لحماية المدنيين؟ أم طُبّع الجنوبيون قسراً مع الخوف؟
الملاجئ كسمة طبيعيّة لإسرائيل
بعد إعلان “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية عام 1948 ودخول العصابات الصهيونية في حرب مع الجيوش العربية، أيقن الإسرائيليون بعد نهاية الحرب ما كان معلوماً مسبقاً حول ضرورة التأسيس عاجلاً لمرحلة جديدة من التطوير في البنى الأمنية والدفاعية إلى جانب البنية العسكرية، خصوصاً ما يتعلق بتأمين الوقاية والحماية للمدنيين الإسرائيليين في ظل حالات مشابهة للحرب العربية-الإسرائيلية.
صدر قانون عام 1951 الذي يشترط بناء ملاجئ حصينة ضد القنابل والصواريخ في المنازل والمنشآت الصناعية، وقد زادت أهميتها عام 1993 بعد سن قانون جديد يفرض على المستثمرين بناء الغرف المحصنة في كل شقة.
وفي سبيل تأمين الحماية للموجودين في الشوارع بحال حصول هجوم صاروخي، فرض القانون نفسه بناء ملاجئ في الشوارع العامة، وقد وصل عددها الى أكثر من مليون ملجأ. بالإضافة إلى الملاجئ المخصصة للمنازل والملاجئ العامة، أُنشئ ملجأ شديد التحصين يطلق عليه “مركز إدارة الأزمات القومية”، وهو مخصص لاجتماعات الحكومة في أوقات الحرب.
تأتي استراتيجيّة بناء الملاجئ كاستدراك طبيعي لحساسية إسرائيل وواقعها الجغرافي المجاور لدول خاضت ضدها حروباً عدة. وتعتمد الحكومات الإسرائيلية على سياساتها الدفاعية لردع حصول موجات هجرة من إسرائيل إلى خارجها، في ظل هيكل مجتمعي يعتمد على الهجرة الوافدة.
وإدراكاً لأهمية الملاجئ ودورها في تأمين حياة المدنيين وسط احتمالات مفتوحة لنشوب حروب في المنطقة، تمنع إسرائيل إدخال الإسمنت المسلح إلى داخل قطاع غزة، وهي المادة الأساسية لبناء هذه الملاجئ، وذلك لمنع إمكانية تشكيل حصانة للمدنيين الذين تعمد إسرائيل على استهدافهم في حروبها على القطاع.
الحرب من أجل الحرب
تظهر أرقام حرب تموز/ يوليو 2006 فرقاً شاسعاً في عدد الضحايا من المدنيين اللبنانيين مقارنةً بالمدنيين الإسرائيليين، فمن الجانب اللبنانيّ، سقط حوالى 1200 معظمهم من المدنيين، في حين قتل حوالى 40 مدنياً و120 جندياً إسرائيلياً. وقد ساهمت الملاجئ إلى جانب النزوح من شمال إسرائيل إلى مناطق مؤمّنة، في تخفيف عدد القتلى من المدنيين، في حين استطاعت إسرائيل استهداف المدنيين اللبنانيين المكشوفين لسلاح الجو في ظلّ غياب أي سبيل للاحتماء والنزوح الآمن.
وأي مقارنة بين حجم الخسائر البشرية الإسرائيلية في حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل على غزة منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي مقارنة بالخسائر الفلسطينية، تظهر الفارق الكبير.
صحيح أن ضربات حركة حماس كشفت فشلاً أمنياً لا تزال حكومة بنيامين نتانياهو تتخبط به، لكن اختلال الكلفة البشرية ما بين مقتل حوالى 50 ألف فلسطيني في مقابل حوالى 1500 إسرائيلي (من ضمنهم من قتلوا يوم 7 تشربن الأول) منذ بدء الحرب ومقارنة نسبة الدمار والخسائر، يكاد لا يقارن.
السؤال عن الجبهة اللبنانية مشروع، فإن دلت الأرقام على شيء، فإنها تدلّ على عمق الأزمة في قضية حماية المدنيين اللبنانيين من القصف والتدمير، وتغييب الحفاظ على حياة الناس عن أولويات الحزب في أي حرب سابقة أو محتملة في المستقبل.
ولا يقتصر التغييب على أمن الناس فحسب في استراتيجية الحزب “الدفاعية” الخارجة عن الأطر المؤسساتية، إنما يغيب أيضاً احتساب وتقدير العامل البشري عن السياسات العامة للحكومات المتعاقبة التي سيطر عليها حزب الله، فقد حلّ الإنفاق العشوائي من ميزانية الدولة بدلًا عن الإنفاق على برامج تنمية دفاعية تُعطي الأولوية لتطوير وتأمين سبل حماية المواطنين في حالات الحروب والكوارث. فإذا لم يكن قرار الحرب ناتجاً من رؤيةٍ شاملةٍ واضحة تهدف الى تحقيق الأمن والسلام للمجتمع اللبناني والجنوبي – فمن أجل من تخاض هذه الحرب؟
ما تشهده الجبهة الجنوبيّة يتركنا أمام مجموعة من الأسئلة:كيف يخوض الحزب باسم اللبنانيين حرباً بعد استنزافه اقتصاد الدولة وصدّ محاولات منع انهيارها وضرب القضاء وإظهار التفوق على باقي اللبنانيين وقمع المعارضين وتخوينهم؟ هل ندخل الحرب مستنزَفين وفاقدين المناعة الداخلية وأدنى مقومات الوحدة المجتمعية؟ وهل يكون المسؤول عن حالنا مخوّلًا بتقرير مصائرنا؟
السؤال الأبرز هنا: كيف يخبرنا حزب الله أن حفاظه على سلاحه هو نتيجة للخطر المحدق بلبنان على حدوده الجنوبية، في حين تبقى سياساته على تناقض مع أي محاولة لتحصين المناطق الجنوبية أو لدفع الاقتصاد اللبناني نحو التقدم وتحقيق الأمن الوطني والشخصي للأفراد؟
الجنوبيون: بين جدار الصوت وكاتم الصوت
تعمد الطائرات الإسرائيلية على كسر حاجز الصوت فوق مناطق جنوب لبنان منذ اندلاع الاشتباكات، ما ولّد رعباً بين الناس وخصوصاً الأطفال، وهذا ما أظهرته المقاطع المصوّرة في المدارس لبكاء الأطفال وحالات الهلع.
لكن، سرعان ما تدارك القيّمون على ضبط إطار الخوف عند الناس، بدعوتهم لتجنّب تصوير الانفعال الطبيعي واستبداله بإظهار الصمود واللامبالاة، حتى انتشرت حملات تخوين علنية بين جمهور حزب الله لكل من يُعبّر عن لومه للحزب على ما آلت إليه حياة الجنوبيين من قلق يوميّ في ظل حرب غير معروفة الأُفق.
لعلّ أسوء أنواع التضليل هو تضليل الذات حول مجريات الأمور وتطورها، باصطناع الصمود وإنكار مآلات الأحداث الحساسة التي تلامس مصير الناس أجمعين ولا تقف عند حدود الفرد الذي يمانع المنطق في التقدير، وأسوأ الممانعات ممانعة النقد وعدم الوقوف عند الأحداث لإعادة النظر، أو أقلّه أخذ العبر.
ننظر الى موضوعنا من زاوية لبنانيّ مقيم في الجنوب، يعاني كغيره من الجنوبيين من مآسي الحروب المتتالية والمعلنَة باسمه، في حين أن أقلّ ما يبحث عنه هو حقه في تقرير مصيره.
يظهرُ الجنوبيّ اليوم، المدمرة قراه والنازح منها، والمهدد يومياً بأن يُذكَر اسمه في نشرات الأخبار كضحيةٍ للقصف الإسرائيلي، عاجزاً عن النظر إلى الغد وقاصراً عن أداء وظائفه اليومية، خائفاً من التعبير عن مشاعر الخوف والقلق أو مطبعاً معها من دون إدراك، وتفضحه دعواته اليومية بانتهاء الحرب قريباً.
لم يخَف الإسرائيليون بشكل مبالغ فيه، بل إن إسرائيل لم تتوقّع أقلّ من بقائها في حربٍ دائمةٍ منذ لحظة إعلان “إسرائيل” على الأراضي الفلسطينية، إنما اعتاد اللبنانيون على الخوف، وطُبّعوا قسراً مع مفاهيم مشوّهة حول الأمن والعيش بسلام.