تنبع أهمية تلك النقاشات من أنها تأتي بالضد من سعي بعض الفصائل، لا سيما “حماس” و”حزب الله”، الى احتكار فكرة المقاومة وحصرها بالعمل المسلح، بنمط الحرب الصاروخية، علماً أن ذلك يستتبع الارتهان لدعم النظام الإيراني، على رغم شبهات سعيه الى حيازة نفوذ إقليمي بواسطة أذرعه الطائفية الميليشياوية، وأيضاً، الانزياح من فكرة المقاومة وفق مفهوم “حرب الشعب طويلة الأمد” إلى الحرب كجيش لجيش، بالوقوع في فخ الاستدراج إلى المربع الذي يتفوق فيه العدو، وتحميل الشعب فوق طاقته، وجعله حقل رماية لأسلحة إسرائيل المدمرة، التي لا تغطي عليها، أو تخفف منها عمليات قصف، أو اشتباك، هنا أو هناك؛ ولا تصريحات “عنترية” من نوع أن “المقاومة” بخير في حين أن الشعب، الضحية، ليس بخير، بل يتعرض لحرب إبادة جماعية.
وطبعاً هذا يشمل إسباغ قداسة على هذا الشكل، ما يجعله خارج الفحص والدراسة والترشيد، والنأي بالقيادات المقررة خارج المساءلة، على رغم افتقادها استراتيجية عسكرية واضحة وممكنة ومستدامة، واستنادها في خياراتها وسياساتها الى عقليات قدرية، وتوهمات لا علاقة لها بالواقع ولا بموازين القوى، ولا بالمعطيات المحيطة، ولو نسبياً.
في هذا الإطار، أتت مقالة شكري الريان (“هل هُزم محور “المقاومة فعلاً؟!”، في موقع “درج”، 12/10) لإغناء ذلك النقاش، بأفكار متميزة تنافح عمن أسماهم الضحايا (الشعب)، وتكشف مخاتلة خطاب فصائل “المقاومة”، باعتبارها من وجه آخر قوة للهيمنة، مع عجزها عن تغيير معادلات القوة في مواجهة العدو، وتدنّي قدرتها على استثمار التضحيات والبطولات والأثمان المدفوعة.
وينطلق الريان في ذلك من حقيقة أن شعوب هذه المنطقة ليست ضحية لإسرائيل فقط، بل ضحية مشاريع أخرى أيضاً، من ضمنها “الهيمنة الإيرانية”، وأنظمة الاستبداد، التي استخدمت فلسطين، أو “المقاومة”، كمطيّة لها، في مشاريع نجم عنها “إحراز الهزائم”، مع قادة “لا يهزمون إلا بالموت… لكن مع ذلك، تبقى مشاريعهم قائمة، إذ لا نلبث أن نبتلى بقائد جديد يحمل الراية، ويتابع المسيرة، ساحقاً إيانا جميعاً، في طريقه إلى نصر لم يأتِ أبداً”.
يحاول الريان في هذا الكلام القاسي والموجع، نزع القداسة والسحر عن خيارات بشر بمكانة تمكّنهم من الهيمنة، وفرض آرائهم على مجتمعاتهم. وعنده “نحن لسنا مهددين في كياناتنا السياسية، المنهارة أصلاً، بل في وجودنا الفيزيائي نفسه، ومع ذلك نحن مصرّون على أن نرى الأمور من زاوية محددة: الحق المقدس الذي لا يضيع ما دام وراءه مطالب. وعندما تبني شيئاً ما على فهم سحري… ففي النهاية لن تجني إلا رطانة لغوية تجعلك حبيساً لها”.
خلاصة مقالة الريان تكمن في فتحه “سؤالاً بسيطاً: هل تلك “المقاومة” قدر أسطوري، أم هي خيار، ضمن مجموعة خيارات؟”، وبالنسبة إليه عندما نطرح “المقاومة… بصفتها خياراً أولاً، وليست عنواناً مقدساً… نمنح أنفسنا بعض الوقت، ليس لنوفر بعض الضحايا من جانبنا… بل أيضاً لنستعيد جزءاً من إحساسنا بإنسانيتنا… مشكلتنا هي في أن من يقرر عنا لا يزال تلك الفئات المهيمنة التي تريد احتكار السلطة، إلى الأبد، لها ولسلالاتها…”.
إقرأوا أيضاً:
على أهمية هذا القلق والهم الموجعين، ثمة مسألتان، أو شبهتان، ربما سها الكاتب عن توضيحهما، على نحو يدفع أي التباس: الأولى، إحالة ما يحصل الى “حقبة الهيمنة الإيرانية… بكل امتداداتها الميليشياوية في منطقتنا”، فمع الإقرار بهول تلك الهيمنة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، والتداعيات الخطيرة الناجمة عن ذلك كله على الدولة والمجتمع والثقافة في تلك البلدان، فإن تحفّظي هنا ينبع من حقيقة أن حقبة الميليشيات أو المقاومات المسلحة، وتقديس الكفاح المسلح، ظهرت قبل وجود النظام الإيراني الحالي، وهي تعود إلى مرحلة ما قبل “حماس”، التي أتت إلى الحركة الوطنية الفلسطينية بعد انطلاق الكفاح المسلح، بمبادرة من “فتح”، قبل ظهورها بـ 22 عاما، على أوهام تأسست على فكرتي “التوريط الواعي” للأنظمة في الصراع ضد إسرائيل، وأن فلسطين “قضية مركزية” للعالم العربي.
تبيّن الفكرتان قصوراً في إدراك الواقع، مثل فكرة “حماس” و”حزب الله”، عن “وحدة الساحات” وإسناد الأمتين العربية والإسلامية، وهو إسناد افتراضي لظاهرتين افتراضيتين، كما ثبت في التجربة وبثمن باهظ.
أما المسألة الثانية فهي اعتباره أننا “نحن، عرب ما بعد تأسيس إسرائيل، ابتلينا بالمقاومة كعنوان رئيسي لحكايتنا، مأساتنا”، وأظنه استنتاجاً متسرعاً، أو أتى تحت ضغط ثقل النكبة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني حالياً. إذ إن المقاومة ظهرت منذ عشرينات القرن الماضي، كردة فعل طبيعية على المشروع الصهيوني، الاستيطاني الإحلالي العدواني، ثم كنتاج لطبيعة إسرائيل، الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية والعدوانية، والتي أقيمت بواسطة القوة القاهرة، مع دعم غربي.
المعنى أن المقاومة، وأعتقد أن الكاتب يتّفق معي، هي بمثابة ردة فعل طبيعية وإنسانية ضد الاحتلال والظلم والقهر، وإنها أصلاً مقاومة شعب وليست مقاومة فصائل أو مقاتلين، فقط، لذا فهي ستستمر بـ”فتح” و”حماس” أو من دونهما، وهي موجودة قبلهما، وستستمر بعدهما، ضد إسرائيل الاستعمارية والعنصرية والعدوانية، بهذا الشكل أو ذاك، بهذا المستوى أو ذاك.
ولعل الخلاف، في النقاشات الدائرة، ليس على المقاومة، وإنما على شكل المقاومة، الممكنة والمجدية والمشروعة وخياراتها الأنسب، وهو ليس مع المقاومين الذين يضحّون بأرواحهم وإنما مع قيادات معينة، ينبغي نزع القداسة عنها وعن خياراتها، غير المدروسة، وهي التي تقول إن المقاومة بخير، في حين الشعب يتعرض لحرب إبادة.
لذا، فإن النقاش واللوم موجّهان الى تلك القيادات التي لا تبالي بمعاناة شعبها وتضحياته، بدعوى أن المقاومة تفترض التضحيات من دون أي مسؤولية، ومن دون أي موازنة بين الكلفة والمردود، ولو نسبياً.
صوت الريان الصارخ في مقالته، وأصوات كثر لا سيما في غزة، أتت بضغط واقع النكبة الجديدة المجلجلة، المفعمة بالألم والقهر والخذلان، إذ إذ كل أهداف عملية “طوفان الأقصى” تبددت، فبدلاً من رفع الحصار عن غزة، بات الاحتلال في قلب غزة، وباتت غزة خراباً ودماراً، وبدلاً من تبييض السجون، تضاعف عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال. وثمة مليونان من فلسطينيي غزة، باتوا يعيشون في حالة تنكيل يومي، في العراء، في حالة انكسار، غير مسبوقة، بانتظار فتات المساعدات الخارجية، تحت رحمة إسرائيل. بل وباتت قبضة إسرائيل أقوى بما لا يقاس ضد الفلسطينيين جميعاً من النهر إلى البحر.
وبينما تطالب “حماس” بوقف إطلاق النار والعودة إلى واقع ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر (2023)، فإنها تتناسى أنه لم يبق شيء في غزة، بعد كل تلك الحرب الإجرامية، لا البشر ولا الشجر ولا الحجر، والأنكى أن إسرائيل هي التي تصر على مواصلة الحرب. ولنلاحظ أن ادعاءات “وحدة الساحات” وأن إسرائيل أوهن من خيوط العنكبوت وأن المقاومة بخير وما زالت تقاوم، لم تعد تجد نفعاً، وهي لم تخفف من هول حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل منذ أكثر من سنة، والتي باتت تشمل لبنان.
المصيبة أن حجم تلك الأوهام هو بحجم هول الضربة المفاجئة، التي أودت بحياة زعيم “حزب الله”، الذي ابتدع مقولة “أوهن من خيوط العنكبوت”، والذي هدد إسرائيل، قبل أيام من اغتياله، بأنه سيبقيها “واقفة على رجل واحدة”؛ هذا هو واقعنا مع الأسف، في ظل قيادات تتعامل في صراعها مع العدو وفق إدراكات غيبية ورغبوية وشعاراتية غريبة عن العالم.
لذا مقابل كل ذلك الخراب والاضطراب والإنكار، يأتي صوت الريان وغيره لنفض تلك الأوهام والمراهنات، والوقوف مرة واحدة أمام الحقيقة، علماً أن الواقع أمرّ وأقسى وأكثر هولاً من مجرد توصيفه بكلمات.
إقرأوا أيضاً: