fbpx

هل “انفجار البايجرز” في لبنان خطوة جديدة نحو “نزع العولمة”؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إن لم تُعد عملية “البايجرز” تعريف هجوم سلاسل التوريد أو تقدّم شكلاً جديداً منه، إلا أنها أثارت أسئلة مرعبة لم يتم التفكير فيها كثيراً من قبل، وشكَّلت نقطة تحول محتملة لثقة الجمهور في أجهزتهم الإلكترونية مثل بطاريات الطاقة الشمسية وأجهزة التحكم بالتلفاز.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم تنته حتى الآن صدمة الشارع اللبناني ومُراقبين من حول العالم، مما حدث عصر الثلاثاء، 17 أيلول/ سبتمبر، إذ تحوَّل في لحظة، أكثر من أربعة آلاف جهاز نداء “بايجر” عمرها أربعة عقود وفقدت قيمتها في عالم الاتصالات منذ أكثر من عقد، إلى قنابل موقوتة بأيدي أكثر من 4000 عنصر من عناصر “حزب الله” اللبناني، حصدت أرواح أكثر من ثلاثين فرداً وتركت آلافاً من الجرحى، بينهم مدنيون وأطفال.

ولم يُنفض غبار الشائعات والتكهنات التي أحاطت بالقصة كذلك، إذ لم يصدر عن أي من الجهتين، أي “حزب الله” وإسرائيل، أو جهة مستقلة أخرى، ما يؤكد أو ينفي إحدى الفرضيتين المنتشرتين لتفسير ما حدث، سواءً كان من خلال زرع برمجية خبيثة تسببت برفع حرارة الأجهزة في آنٍ واحد وانفجار بطارياتها، أو زرع شحنة متفجرة تم تنشيطها عن بُعد.

لكن ما هو مؤكدٌ حتى الآن هو أن الأجهزة المنفجرة جاءت ضمن طلبية أجهزة “بايجر” استوردها “حزب الله” من شركة “غولدن أبولو” التايوانية، التي سارع رئيسها التنفيذي إلى نزع التُّهم التي بدأت بالتوجه إليه، من خلال التصريح أوضح بأن الشركة لم تصنّع الأجهزة المنفجرة، بل هي من صناعة شركة “بي إي سي” (BAC) المجريّة ومقرها بودابست، التي نفت رئيستها أيضاً ضلوعها في الأمر، في تصريح لشبكة “إن بي سي” بالقول: “أنا لا أصنع أجهزة النداء. أنا مجرد وسيط لشركة غولدن أبولو. أعتقد أنكم أخطأتم”، لتكشف “نيويورك تايمز” لاحقاً أن الشركة المجرية، إلى جانب شركتين صوريّتين أُخريين، ما هي إلا قناعٌ استخباراتي إسرائيلي بدأ عمليته منذ أكثر من سنتين.

أيّاً كانت الجهة التي تم زرع البرمجيات أو الشحنات المتفجرة تحت إمرتها، فإن ما حصل هو هجوم على سلاسل التوريد بتعريفه الأكثر تقليدية، هجومٌ استهدف مُزوّداً تابعاً لجهة خارجية موثوقة، أي “غولدن أبولو” في هذه الحالة، تقدّم خدمات أو برامج حيوية لسلسلة التوريد. وفي حين أن الشكل الأكثر شيوعاً اليوم لهجمات سلاسل توريد يعتمد على حقن التعليمات البرمجية الضارة في أحد البرامج من أجل إصابة جميع مستخدميه، إلا أن هجمات سلاسل التوريد بشكلها التقليدي ينطوي على تعريض المكوّنات المادية نفسها للخطر للغرض نفسه، وهذا ما حصل.

في السنوات الأخيرة، انتقلت هجمات سلسلة توريد البرامج من هامش الاهتمامات إلى الصدارة، وفقاً لتقرير “تحقيقات خرق البيانات لعام 2024” لشركة “ڤيرايزون”، ارتفع استخدام الثغرات الأمنية لبدء الخروقات بنسبة 180 في المئة في عام 2023، مقارنة بعام 2022. ومن بين هذه الخروقات، 15 في المئة شملت طرفاً ثالثاً أو مورّداً وسيطاً، مثل سلاسل توريد البرامج، أو البنى التحتية لشركاء الاستضافة، أو أمناء البيانات.

ومن التفاصيل شديدة الأهمية التي يجب ملاحظتها أن عواقب هجمات سلاسل التوريد عادة ما تكون دائمة ولا يمكن اكتشافها بسرعة، سواء من منظور التهديد الفني أو مسؤولية المُنفِّذ. على سبيل المثال، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من اختراق “سولار ويندز” (SolarWinds) الشهير الذي أضرَّ بأكثر من 18 ألف مؤسسة في الولايات المتحدة، اتهمت لجنة الأوراق المالية والبورصة “سولار ويندز” بتضليل المستثمرين بشأن ممارساتها ومخاطرها في مجال الأمن السيبراني. 

وجاءت هذه التهمة بعد تسوية بقيمة 26 مليون دولار لدعوى قضائية جماعية تتعلق بالخرق، وعلى الجانب الآخر من العالم، ما زالت أسئلة “هل انفجرت جميع أجهزة البايجر أم لا؟” و”هل هناك المزيد من الأجهزة المفخخة” من دون إجابة.

الجميع يُغلق الأبواب على نفسه

إن لم تُعد عملية “البايجرز” تعريف هجوم سلاسل التوريد أو تقدّم شكلاً جديداً منه، إلا أنها أثارت أسئلة مرعبة لم يتم التفكير فيها كثيراً من قبل، وشكَّلت نقطة تحول محتملة لثقة الجمهور في أجهزتهم الإلكترونية، يمكن ملاحظة آثارها بسهولة في جولة على تساؤلات الناس في لبنان وسوريا على وسائل التواصل الاجتماعي، عمّا إذا كان يجب فصل أجهزة مثل بطاريات الطاقة الشمسية وأجهزة التحكم بالتلفاز.

العامل الآخر المثير للقلق في هجمات “البايجر” أنها تنطوي على تدخل في سلسلة التوريد ليس لأداء عمل تخريبي محدد، بل لتنفيذ هجوم موزع وذي تأثير واسع النطاق، والجديد فيه أنه بخلاف ما يركز عليه خبراء الأمن السيبراني عادةً من جماعات خارجة عن الدولة، فإنه تمَّ برعاية حكومية، وهو ما سيؤدي في الأيام القادمة إلى مناقشة عامة حول السيطرة على سلاسل التوريد والاستقلال الاستراتيجي للأصول والسيادة الرقميين.

وسواءً حدثت عملية التفخيخ أثناء عملية التصنيع من قبل الشركة المجرية الوكيلة، أو أثناء النقل، أو على مستوى مشغل النظام قبل تخصيص الأجهزة لعناصر “حزب الله”، فإن ذلك سيدفع مُصنِّعي التكنولوجيا ومستورديها إلى المزيد من القلق من وجود طرقٍ أخرى على طول سلسلة التوريد خارجة عن سيطرتهم، وباستطاعتها تحويل منتجات استهلاكية عادية إلى أسلحة فتّاكة. وإن لم يكن مُصنّع تلك الأجهزة راغباً في الانخراط في مثل هذا السيناريو، فإن هذا سيعني أن الأمن التشغيلي سيزداد صعوبة وسيُصار إلى المزيد من التعقيد والتكاليف والانكفاء على الأطراف “الموثوقة”، التي يصعب تحديدها يوماً بعد يوم.

بغض النظر عن كيفية العبث بالأجهزة، فإن الهجمات قد تدفع نحو تبنٍّ أسرع لعديد من السياسات المُتبنّاة بالفعل لدى العديد من الدول المُصنّعة، والتي تدعو إلى تصنيع التكنولوجيا محلياً داخل حدود الدولة من أجل السيطرة الأكثر صرامة على أمن سلسلة التوريد، سواء كانت الهواتف الذكية أو الطائرات بدون طيار أو تطبيقات الوسائط الاجتماعية، أو أي شيء آخر، وأكبر مثال على ذلك “قانون الشرائح” (CHIPS Act)؛ وهو قانون فيدرالي أميركي أقره الكونجرس الأميركي ووقعه الرئيس الأميركي جو بايدن، يقرّ بـ 280 مليار دولار لتمويل البحث المحلي وتصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة بهدف “تعزيز مرونة سلسلة التوريد الأميركية” وفي إطار حرب التكنولوجيا الباردة مع الصين.

والأخيرة بدأت بشكلها الصريح في عهد الرئيس السابق والمرشح الحالي دونالد ترامب، من خلال حربه على عملاق التكنولوجيا الصيني، شركة “هواوي” التي أدرجها على اللائحة السوداء، وهدَّد بمعاقبة كل من يستخدم بنيتها التحتية في أي مرحلة من مراحل تصنيع المنتجات الأميركية. وفي الاتحاد الأوروبي تُبنى الأسوار حول الأسواق التجارية تدريجياً وتُطالب الشركات الأجنبية بتصنيع بضائعها المورّدة إلى داخل الاتحاد الأوروبي على أراضيه، بمن فيها عمالقة التكنولوجيا الأميركيون الذين يواجهون ضغوطاً ومطالبات بتشييد المزيد من مراكز البيانات الأوروبية.

ثم تأتي حادثة انفجار “البايجرز” لدى عناصر “حزب الله” ودبلوماسيين إيرانيين لتسرّع اتجاهٍ أخذه خصوم الولايات المتحدة منذ سنوات للانفصال عن التكنولوجيا العالمية، والأكثر شهرة هي الصين، التي سيطرت منذ عام 1990 على نقل المعلومات بين الفضاء الإلكتروني العالمي والفضاء الإلكتروني المحلي من خلال “جدار الحماية العظيم”، الذي يتحكم بالوصول المحلي إلى الويب، مثل تقييد الوصول إلى مواقع أجنبية محددة. لكن روسيا وإيران دوّنتا ملاحظاتهما من الصين وتقدمتا خطوة أخرى إلى الأمام، إذ أنشأتا شبكات داخلية محلية يمكن قطعها عن الإنترنت العالمي إذا لزم الأمر.

شبكة المعلومات الوطنية الإيرانية أصبحت الآن بكامل طاقتها، وتحاول الدولة إجبار مستخدمي الإنترنت على إنشاء مواقع ويب ومنافسين إيرانيين للتطبيقات الغربية على الإنترنت المحلي الإيراني بدلاً من شبكة الويب العالمية. فعلت روسيا الشيء نفسه من خلال “قانون الإنترنت السيادي” الذي وقّعه بوتين عام 2019 وشبكة الإنترنت الخاصة بها “رونيت” (Runet) وهو ما استغلته روسيا لتقليص أثر إجراءات عزلها عن الأنظمة العالمية في أعقاب غزو أوكرانيا عام 2022.

توجُّس عالمي؟

من المتوقع بعد مشاهدة ما حدث في لبنان أن نشهد إعادة تقييم شاملةٍ من شأنها أن تدفع الشركات، المُصنّعة للتكنولوجيا تحديداً، إلى تشديد بروتوكولات أمن سلسلة التوريد الخاصة بها. إذ إنَّ هذا الوضع غير مسبوق من حيث نطاقه وإن كان مألوفاً بمفهومه، ومن المرجح أن العديد منها لم تأخذ أمن عمليات إنتاجها العابرة للحدود على محمل الجد من قبل. خصوصاً تلك المتوسطة الحجم التي لا تمتلك ميزانيات دول تخوّلها للاستعداد التام للتعامل مع مثل هذه التهديدات.

ولا ينتهي الأمر عند الشركات، بل للحادثة انعكاساتٌ على الذهنية الشعبية بدأت تغذيها الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام، للتخلي عن كل ما هو “غربي”، من هواتف وأجهزة ومعدّات، إذ إنَّ هجمات “البايجرز” بدأت بتغيير التصورات العامة عن الأجهزة الإلكترونية الشخصية، من أجهزة آمنة تماماً غرضها رفاه الإنسان، إلى أجهزة تحمل في طياتها الدمار الشامل لو قرر أحدٌ أنها كذلك، ناهيك بنسف عملية الجهود الدؤوبة من الشركات الكبرى لطمأنة عملائها بأن أجهزتهم آمنة بالفعل.

الجانب الأخير متعلقٌ بالأمن العالمي، فقبل هجوم 17 أيلول/ سبتمبر، لم تكن فكرة استخدام الأجهزة الشخصية للقضاء على مجموعة محددة مُسبقاً من الأشخاص، جزءاً من روح العصر العالمية، لكن إسرائيل ضمّت ذلك إلى حدود الممكن. وإن صحَّت رواية أن الأجهزة تم تفخيخها بشحنة متفجرة قبل وصولها الأراضي اللبنانية، فإن ذلك يعني أنها تجاوزت مرحلة التفتيش في مطارين على الأقل دون أن تُلحَظ. وذلك، فيما يمكن أن يعنيه، سيعني تكراراً لما شهده العالم في أعقاب هجوم بُرجي التجارة في نيويورك قبل عقدين ونيّف.

"درج" | 27.09.2024

“إشعال السماء”: ماذا خلف ألسنة اللهب السامة التي تسمح بها شركات النفط العملاقة ؟

تٌعد شركات النفط العملاقة في غرب أوروبا مثل "بريتيش بتروليوم ـ بي بي" وشركة "إيني" الإيطالية "الوكالة الوطنية للمحروقات" و"توتال إنرجيز" و"شل"، من بين أكبر عشرة مصادر للتلوث في أفريقيا والشرق الأوسط نتيجة عمليات حرق الغاز. وتشارك هذه الشركات في إطلاق السموم في السماء وتلويث البيئة والإضرار بصحة الناس. هذا ما كشفه تحقيق "إشعال السماء"،…

إن لم تُعد عملية “البايجرز” تعريف هجوم سلاسل التوريد أو تقدّم شكلاً جديداً منه، إلا أنها أثارت أسئلة مرعبة لم يتم التفكير فيها كثيراً من قبل، وشكَّلت نقطة تحول محتملة لثقة الجمهور في أجهزتهم الإلكترونية مثل بطاريات الطاقة الشمسية وأجهزة التحكم بالتلفاز.

لم تنته حتى الآن صدمة الشارع اللبناني ومُراقبين من حول العالم، مما حدث عصر الثلاثاء، 17 أيلول/ سبتمبر، إذ تحوَّل في لحظة، أكثر من أربعة آلاف جهاز نداء “بايجر” عمرها أربعة عقود وفقدت قيمتها في عالم الاتصالات منذ أكثر من عقد، إلى قنابل موقوتة بأيدي أكثر من 4000 عنصر من عناصر “حزب الله” اللبناني، حصدت أرواح أكثر من ثلاثين فرداً وتركت آلافاً من الجرحى، بينهم مدنيون وأطفال.

ولم يُنفض غبار الشائعات والتكهنات التي أحاطت بالقصة كذلك، إذ لم يصدر عن أي من الجهتين، أي “حزب الله” وإسرائيل، أو جهة مستقلة أخرى، ما يؤكد أو ينفي إحدى الفرضيتين المنتشرتين لتفسير ما حدث، سواءً كان من خلال زرع برمجية خبيثة تسببت برفع حرارة الأجهزة في آنٍ واحد وانفجار بطارياتها، أو زرع شحنة متفجرة تم تنشيطها عن بُعد.

لكن ما هو مؤكدٌ حتى الآن هو أن الأجهزة المنفجرة جاءت ضمن طلبية أجهزة “بايجر” استوردها “حزب الله” من شركة “غولدن أبولو” التايوانية، التي سارع رئيسها التنفيذي إلى نزع التُّهم التي بدأت بالتوجه إليه، من خلال التصريح أوضح بأن الشركة لم تصنّع الأجهزة المنفجرة، بل هي من صناعة شركة “بي إي سي” (BAC) المجريّة ومقرها بودابست، التي نفت رئيستها أيضاً ضلوعها في الأمر، في تصريح لشبكة “إن بي سي” بالقول: “أنا لا أصنع أجهزة النداء. أنا مجرد وسيط لشركة غولدن أبولو. أعتقد أنكم أخطأتم”، لتكشف “نيويورك تايمز” لاحقاً أن الشركة المجرية، إلى جانب شركتين صوريّتين أُخريين، ما هي إلا قناعٌ استخباراتي إسرائيلي بدأ عمليته منذ أكثر من سنتين.

أيّاً كانت الجهة التي تم زرع البرمجيات أو الشحنات المتفجرة تحت إمرتها، فإن ما حصل هو هجوم على سلاسل التوريد بتعريفه الأكثر تقليدية، هجومٌ استهدف مُزوّداً تابعاً لجهة خارجية موثوقة، أي “غولدن أبولو” في هذه الحالة، تقدّم خدمات أو برامج حيوية لسلسلة التوريد. وفي حين أن الشكل الأكثر شيوعاً اليوم لهجمات سلاسل توريد يعتمد على حقن التعليمات البرمجية الضارة في أحد البرامج من أجل إصابة جميع مستخدميه، إلا أن هجمات سلاسل التوريد بشكلها التقليدي ينطوي على تعريض المكوّنات المادية نفسها للخطر للغرض نفسه، وهذا ما حصل.

في السنوات الأخيرة، انتقلت هجمات سلسلة توريد البرامج من هامش الاهتمامات إلى الصدارة، وفقاً لتقرير “تحقيقات خرق البيانات لعام 2024” لشركة “ڤيرايزون”، ارتفع استخدام الثغرات الأمنية لبدء الخروقات بنسبة 180 في المئة في عام 2023، مقارنة بعام 2022. ومن بين هذه الخروقات، 15 في المئة شملت طرفاً ثالثاً أو مورّداً وسيطاً، مثل سلاسل توريد البرامج، أو البنى التحتية لشركاء الاستضافة، أو أمناء البيانات.

ومن التفاصيل شديدة الأهمية التي يجب ملاحظتها أن عواقب هجمات سلاسل التوريد عادة ما تكون دائمة ولا يمكن اكتشافها بسرعة، سواء من منظور التهديد الفني أو مسؤولية المُنفِّذ. على سبيل المثال، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من اختراق “سولار ويندز” (SolarWinds) الشهير الذي أضرَّ بأكثر من 18 ألف مؤسسة في الولايات المتحدة، اتهمت لجنة الأوراق المالية والبورصة “سولار ويندز” بتضليل المستثمرين بشأن ممارساتها ومخاطرها في مجال الأمن السيبراني. 

وجاءت هذه التهمة بعد تسوية بقيمة 26 مليون دولار لدعوى قضائية جماعية تتعلق بالخرق، وعلى الجانب الآخر من العالم، ما زالت أسئلة “هل انفجرت جميع أجهزة البايجر أم لا؟” و”هل هناك المزيد من الأجهزة المفخخة” من دون إجابة.

الجميع يُغلق الأبواب على نفسه

إن لم تُعد عملية “البايجرز” تعريف هجوم سلاسل التوريد أو تقدّم شكلاً جديداً منه، إلا أنها أثارت أسئلة مرعبة لم يتم التفكير فيها كثيراً من قبل، وشكَّلت نقطة تحول محتملة لثقة الجمهور في أجهزتهم الإلكترونية، يمكن ملاحظة آثارها بسهولة في جولة على تساؤلات الناس في لبنان وسوريا على وسائل التواصل الاجتماعي، عمّا إذا كان يجب فصل أجهزة مثل بطاريات الطاقة الشمسية وأجهزة التحكم بالتلفاز.

العامل الآخر المثير للقلق في هجمات “البايجر” أنها تنطوي على تدخل في سلسلة التوريد ليس لأداء عمل تخريبي محدد، بل لتنفيذ هجوم موزع وذي تأثير واسع النطاق، والجديد فيه أنه بخلاف ما يركز عليه خبراء الأمن السيبراني عادةً من جماعات خارجة عن الدولة، فإنه تمَّ برعاية حكومية، وهو ما سيؤدي في الأيام القادمة إلى مناقشة عامة حول السيطرة على سلاسل التوريد والاستقلال الاستراتيجي للأصول والسيادة الرقميين.

وسواءً حدثت عملية التفخيخ أثناء عملية التصنيع من قبل الشركة المجرية الوكيلة، أو أثناء النقل، أو على مستوى مشغل النظام قبل تخصيص الأجهزة لعناصر “حزب الله”، فإن ذلك سيدفع مُصنِّعي التكنولوجيا ومستورديها إلى المزيد من القلق من وجود طرقٍ أخرى على طول سلسلة التوريد خارجة عن سيطرتهم، وباستطاعتها تحويل منتجات استهلاكية عادية إلى أسلحة فتّاكة. وإن لم يكن مُصنّع تلك الأجهزة راغباً في الانخراط في مثل هذا السيناريو، فإن هذا سيعني أن الأمن التشغيلي سيزداد صعوبة وسيُصار إلى المزيد من التعقيد والتكاليف والانكفاء على الأطراف “الموثوقة”، التي يصعب تحديدها يوماً بعد يوم.

بغض النظر عن كيفية العبث بالأجهزة، فإن الهجمات قد تدفع نحو تبنٍّ أسرع لعديد من السياسات المُتبنّاة بالفعل لدى العديد من الدول المُصنّعة، والتي تدعو إلى تصنيع التكنولوجيا محلياً داخل حدود الدولة من أجل السيطرة الأكثر صرامة على أمن سلسلة التوريد، سواء كانت الهواتف الذكية أو الطائرات بدون طيار أو تطبيقات الوسائط الاجتماعية، أو أي شيء آخر، وأكبر مثال على ذلك “قانون الشرائح” (CHIPS Act)؛ وهو قانون فيدرالي أميركي أقره الكونجرس الأميركي ووقعه الرئيس الأميركي جو بايدن، يقرّ بـ 280 مليار دولار لتمويل البحث المحلي وتصنيع أشباه الموصلات في الولايات المتحدة بهدف “تعزيز مرونة سلسلة التوريد الأميركية” وفي إطار حرب التكنولوجيا الباردة مع الصين.

والأخيرة بدأت بشكلها الصريح في عهد الرئيس السابق والمرشح الحالي دونالد ترامب، من خلال حربه على عملاق التكنولوجيا الصيني، شركة “هواوي” التي أدرجها على اللائحة السوداء، وهدَّد بمعاقبة كل من يستخدم بنيتها التحتية في أي مرحلة من مراحل تصنيع المنتجات الأميركية. وفي الاتحاد الأوروبي تُبنى الأسوار حول الأسواق التجارية تدريجياً وتُطالب الشركات الأجنبية بتصنيع بضائعها المورّدة إلى داخل الاتحاد الأوروبي على أراضيه، بمن فيها عمالقة التكنولوجيا الأميركيون الذين يواجهون ضغوطاً ومطالبات بتشييد المزيد من مراكز البيانات الأوروبية.

ثم تأتي حادثة انفجار “البايجرز” لدى عناصر “حزب الله” ودبلوماسيين إيرانيين لتسرّع اتجاهٍ أخذه خصوم الولايات المتحدة منذ سنوات للانفصال عن التكنولوجيا العالمية، والأكثر شهرة هي الصين، التي سيطرت منذ عام 1990 على نقل المعلومات بين الفضاء الإلكتروني العالمي والفضاء الإلكتروني المحلي من خلال “جدار الحماية العظيم”، الذي يتحكم بالوصول المحلي إلى الويب، مثل تقييد الوصول إلى مواقع أجنبية محددة. لكن روسيا وإيران دوّنتا ملاحظاتهما من الصين وتقدمتا خطوة أخرى إلى الأمام، إذ أنشأتا شبكات داخلية محلية يمكن قطعها عن الإنترنت العالمي إذا لزم الأمر.

شبكة المعلومات الوطنية الإيرانية أصبحت الآن بكامل طاقتها، وتحاول الدولة إجبار مستخدمي الإنترنت على إنشاء مواقع ويب ومنافسين إيرانيين للتطبيقات الغربية على الإنترنت المحلي الإيراني بدلاً من شبكة الويب العالمية. فعلت روسيا الشيء نفسه من خلال “قانون الإنترنت السيادي” الذي وقّعه بوتين عام 2019 وشبكة الإنترنت الخاصة بها “رونيت” (Runet) وهو ما استغلته روسيا لتقليص أثر إجراءات عزلها عن الأنظمة العالمية في أعقاب غزو أوكرانيا عام 2022.

توجُّس عالمي؟

من المتوقع بعد مشاهدة ما حدث في لبنان أن نشهد إعادة تقييم شاملةٍ من شأنها أن تدفع الشركات، المُصنّعة للتكنولوجيا تحديداً، إلى تشديد بروتوكولات أمن سلسلة التوريد الخاصة بها. إذ إنَّ هذا الوضع غير مسبوق من حيث نطاقه وإن كان مألوفاً بمفهومه، ومن المرجح أن العديد منها لم تأخذ أمن عمليات إنتاجها العابرة للحدود على محمل الجد من قبل. خصوصاً تلك المتوسطة الحجم التي لا تمتلك ميزانيات دول تخوّلها للاستعداد التام للتعامل مع مثل هذه التهديدات.

ولا ينتهي الأمر عند الشركات، بل للحادثة انعكاساتٌ على الذهنية الشعبية بدأت تغذيها الدعوات على وسائل التواصل الاجتماعي وفي بعض وسائل الإعلام، للتخلي عن كل ما هو “غربي”، من هواتف وأجهزة ومعدّات، إذ إنَّ هجمات “البايجرز” بدأت بتغيير التصورات العامة عن الأجهزة الإلكترونية الشخصية، من أجهزة آمنة تماماً غرضها رفاه الإنسان، إلى أجهزة تحمل في طياتها الدمار الشامل لو قرر أحدٌ أنها كذلك، ناهيك بنسف عملية الجهود الدؤوبة من الشركات الكبرى لطمأنة عملائها بأن أجهزتهم آمنة بالفعل.

الجانب الأخير متعلقٌ بالأمن العالمي، فقبل هجوم 17 أيلول/ سبتمبر، لم تكن فكرة استخدام الأجهزة الشخصية للقضاء على مجموعة محددة مُسبقاً من الأشخاص، جزءاً من روح العصر العالمية، لكن إسرائيل ضمّت ذلك إلى حدود الممكن. وإن صحَّت رواية أن الأجهزة تم تفخيخها بشحنة متفجرة قبل وصولها الأراضي اللبنانية، فإن ذلك يعني أنها تجاوزت مرحلة التفتيش في مطارين على الأقل دون أن تُلحَظ. وذلك، فيما يمكن أن يعنيه، سيعني تكراراً لما شهده العالم في أعقاب هجوم بُرجي التجارة في نيويورك قبل عقدين ونيّف.

اشترك بنشرتنا البريدية