بعد أيام معدودة على عملية “7 أكتوبر” وبسبب اشتداد القصف الإسرائيلي على جنوب لبنان، نزحت عائلة سعيد (اسم مستعار) عن قريتها الحدودية لتستقر في الضاحية الجنوبية. قصد أفراد العائلة قريتهم في أيار/ مايو 2024، في زيارة خاطفة لجلب بعض الأمتعة من المنزل وإفراغ ما تيسر من بضائع مخزّنة في مؤسستهم التجارية، لكنهم عادوا أدراجهم “مكسوري الخاطر”، بعدما وجدوا منزلهم ومؤسستهم وقد طالهما الدمار. مأساة عائلة سعيد لم تقف عند هذا الحد، لتتعرض والدته إلى إصابة بسبب إحدى الغارات الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية.
يقول سعيد لـ”درج” إنه مستقر في فرنسا منذ سبع سنوات، والمرة الأخيرة التي زار فيها لبنان كانت في العام 2022، بالتالي لم يواكب عائلته في محنتها هذه، برغم ذلك، يرغب في مقاضاة شخصيات إسرائيلية، سياسية أو عسكرية، لما لحق بعائلته من أضرار بصفته مواطناً فرنسياً.
تحت بند “الاختصاص الممتد إقليمياً”، بوسع الضحايا الفرنسيين اللجوء إلى المحاكم الوطنية لملاحقة حاملي الجنسية الإسرائيلية، حتى لو جرت الأحداث خارج الأراضي الفرنسية، كما في حالة المحامي والناشط الحقوقي الفلسطيني – الفرنسي صلاح حموري. ففي أيلول الفائت، فتح القضاء الفرنسي تحقيقاً بناء على شكوى تقدّم بها حموري ضد دولة إسرائيل، بشكل عام، لما تعرض له من انتهاكات (اعتقال إداري، تعذيب، العزل الانفرادي …) محامو صلاح وبعد عام من العمل على إعداد الملف، طالبوا قاضي التحقيق بالقيام بما يلزم، لتحديد الأفراد المسؤولين في الشرطة ومصلحة السجون.
لكن حالة سعيد مختلفة عن ملف صلاح حموري؛ إذا ما قوربت المسائل من زاوية قانونية. وفقاً للمحامية كليمانس بيكتارت يُفترض أن تحمل الضحية الجنسية الفرنسية كشرط إلزامي للتوجه إلى القضاء الفرنسي. بيكتارت مختصة في القانون الجنائي الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني وناشطة في عدد من الجمعيات الحقوقية، كما ترافعت أمام المحاكم الفرنسية والدولية ومثلت عدداً من الضحايا، كما في قضية باتريك ومازن الدباغ.
قبل التوسع في الإجابة على استفسارات موقع “درج”، شددت بيكتارت على أن ما ستدلي به يبقى في إطار الخطوط العريضة، إذ لكل قضية اعتباراتها وظروفها الخاصة.
تكمل بيكتارت حديثها إلى “درج” قائلة: “اشتراط أن تكون الضحية فرنسية لا ينسحب على صاحب الدعوى. على سبيل المثال، بوسع أحد اللبنانيين اللجوء إلى المحاكم الفرنسية، للمطالبة بالنظر في ملف يخص ضحية فرنسية تربطه بها صلة قرابة. بالمقابل، لن يتمكن سعيد من مقاضاة أي مسؤول إسرائيلي، بدعوى الإصابة التي تعرضت لها والدته، على اعتبار أنها لا تحمل الجنسية الفرنسية”.
كلام بيكتارت يُحيلنا إلى حالة نبيل (اسم مستعار) لبناني يحمل الجنسية الفرنسية. نبيل كان داخل مبنى سكني في ضواحي صيدا، لحظة استهدافه من قبل الطائرات الاسرائيلية، مما أدى إلى إصابته مع ابنه. “الاختصاص الممتد إقليمياً” ينطبق على حالة نبيل، ويسمح له بالتوجه إلى المحاكم الفرنسية.
لكن بإمكان سعيد ملاحقة الإسرائيليين أمام القضاء الفرنسي، على خلفية الدمار الذي لحق بمنزل العائلة. في هذا السياق تقول بيكتارت إن المنازل كما كل المنشآت المدنية (مستشفيات، مدارس…) محمية بموجب القانون الدولي الإنساني، واستهدافها يُعدّ جريمة حرب، وبالتالي إذا أثبت سعيد أنه مقيم في منزل العائلة، أو بالحد الأدنى طاله ضرر جراء تدميره، سيتحول إلى ضحية من ضحايا الحرب.
بالمقابل كانت بيكتارت أقل تفاؤلاً حول الوضع القانوني للبنانيين المقيمين في فرنسا، والمتضررين من الاعتداءات الإسرائيلية. نظرياً، فإن لجوءهم إلى المحاكم الفرنسية ممكن، استناداً إلى مبدأ “الولاية القضائية العالمية”. هذه الأداة القضائية تُتيح لغير الفرنسيين ملاحقة أشخاص لا يحملون بدورهم الجنسية الفرنسية، على خلفية أحداث وقعت خارج الأراضي الفرنسية، لكنها على درجة عالية من الخطورة، ويفرض تحرك المحاكم الفرنسية.
توضح بيكتارت أن الولاية القضائية العالمية وإن كان منصوصاً عليها في التشريعات الفرنسية، لكنها مقيدة بالكثير من الشروط أبرزها أن يكون المدّعى عليه (جندي/مسؤول إسرائيلي) مقيماً على الأراضي الفرنسية، شرط قد يصعب استيفاؤه، مما يعرقل تفعيل هذه الأداة. في هذا السياق ذكّرت بيكتارت بالمواقف المنتقدة للشروط الفرنسية المقيدة للولاية القضائية العالمية والصادرة، في أوقات سابقة، عن عدد من المنظمات الحقوقية.
على اعتبار أن إسرائيل دائماً ما تبرر غاراتها وقصفها باستهداف منشآت “حزب الله” العسكرية، تم افتراض السيناريو التالي: ماذا لو جرى التوجه إلى محكمة فرنسية، وبادر محامو الدفاع عن المتهمين الإسرائيليين للقول إن تعرض الجيش الإسرائيلي للمدنيين لم يكن هدفاً بحد ذاته، بل الغاية هي ملاحقة عناصر تابعة ل”حزب الله” أو تدمير منشآت عسكرية (مخازن سلاح، مواقع …) بمعنى آخر، إلقاء المسؤولية على الطرف الآخر بذريعة “تمركزه بين المدنيين واستغلاله المنشآت المدنية”، هل ستكون حجة متماسكة تُضعف موقف الضحايا؟
تشدد بيكتارت في هذا الإطار على أن هذه الحجة الإسرائيلية تُطرح دوماً في وسائل الإعلام، لكن إذا وصلت الأمور إلى أروقة المحاكم، لا بد من مقاربة مختلفة غير تبسيطية: أولاً يجب إثبات وجود أنشطة عسكرية في المكان، الذي أوقع ضحايا مدنيين فرنسيين أو أضر بممتلكاتهم الخاصة. من جهة أخرى، حتى لو تم إثبات وجود هذا النوع من الأنشطة، يجب التأكد أن ما أقدمت عليه إسرائيل يتناسب مع “حجم الخطر أو التهديد”. على سبيل المثال، لا يمكن تبرير غارة أدت إلى مصرع 100 مدني بوجود مقاتل واحد في المبنى المستهدف.
صحيح أن الإطار القانوني يسمح لسعيد بالتقدم بدعوى قضائية أمام المحاكم الفرنسية، لكنه ما يزال متردداً لسببين اثنين: الخوف من التدخلات السياسية، ومن حملة إعلامية قد تصل إلى حد اتهامه بمعاداة السامية، ما قد ينعكس سلباً على حياته الشخصية والمهنية، أما السبب الآخر فهو تشاؤمه من إمكانية إحداث أي فارق عبر تلك الدعوى أو حصد أية نتائج، بسبب “الدعم الدولي المطلق الذي تحظى به إسرائيل”.
بيكتارت تفهّمت هواجس سعيد، مؤكدة أن لكل شخص اعتباراته الذاتية التي تدفعه أو تمنعه من الإقدام على تلك الخطوة. بالمقابل أشارت المحامية الفرنسية إلى أن تهمة معاداة السامية لا يمكن إطلاقها جزافاً أمام المحاكم، فكل شيء خاضع للأدلة والبراهين. من جهة أخرى تعتبر بيكتارت أن الإفلات من العقاب وعدم مساءلة أي من قادة إسرائيل على أعمالهم طوال العقود الماضية، ساهم في تحفيز تل أبيب على خوض حروب كل حين وآخر، وبالتالي، القطع مع سياسة الإفلات من العقاب قد يساهم، برأي المحامية الفرنسية، في وضع حد للصراعات والحروب المتكررة في المنطقة.
إقرأوا أيضاً: