fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

هل تتصدّى فرنسا لليمين المتطرّف؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

الرئيس الفرنسي اختار حل الجمعية الوطنيّة عقب صدور نتائج الانتخابات الأوروبية التي تصدّرها حزب التجمع الوطني، مراهناً على أن يثير قراره خوف الفرنسيين من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، ليسوّق نفسه بصورة المتصدّي الوحيد لـ”خطر اليمين المتطرف”، في سبيل نيل الغالبية النيابية المطلقة التي كان يفتقدها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

قرار إيمانويل ماكرون حلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، خلط الأوراق السياسية بعدما بات اليمين المتطرف، ممثلاً بحزب التجمع الوطني بزعامة جوردان بارديلا، أقرب من أي وقت مضى من تولّي السلطة في البلاد.

 شعبية الحزب المتنامية جعلت من وصوله إلى السلطة فرضية متداولة منذ سنوات، لكن ردة الفعل الشعبية والسياسية على إمكانية تشكيله الحكومة المنبثقة من الانتخابات النيابية المقبلة (30 حزيران/ يونيو و7 تموز/ يوليو)، دلت بشكل واضح على أن هذا الحزب لا يزال “منبوذاً”. 

صحيح أن التظاهرات التي تشهدها فرنسا أخيراً ضد اليمين المتطرف أقل زخما وحجماً من التظاهرات التي شهدتها البلاد في العام 2002 (عقب وصول جان ماري لوبان إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية)، لكن اللافت أن حزب التجمع الوطني هو الجهة السياسية الوحيدة التي تثير نفور شريحة من الشارع الفرنسي. 

لم تشهد فرنسا تظاهرات كهذه يوم كانت استطلاعات الرأي تؤشر إلى فوز اليمين (بتسمياته المتعددة) أو الحزب الاشتراكي أو حتى إيمانويل ماكرون، في هذا دليل على أن الشارع الفرنسي سيكون أكثر حدة في مواجهة اليمين، إذا تأكدت استطلاعات الرأي التي يتصدّرها الحزب حتى الساعة.  

ليس تفصيلاً إذاً أن يكون حزب التجمع الوطني هو الجهة السياسية الوحيدة التي تثير هذا “النفور المبدئي”، على رغم كل جهوده الإعلامية لتبييض صورته ومحو تاريخه الحافل بمواقف عنصرية، وأشار الحراك السياسي الداخلي بدوره إلى أن الحزب المذكور أشبه ما يكون بـ”لوثة” يتوجب تجنّبها. 

ماكرون يراهن على خوف الفرنسيين

خطوة ماكرون لم تكن مفاجئة من حيث المضمون، فالانتخابات النيابية الأخيرة منحته أكثرية نسبية، لا مطلقة، الأمر الذي لم يسهل عمل حكوماته، وفاقم الصراع السياسي اليومي، لتصبح الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة خياراً منتظراً في أية لحظة. 

الرئيس الفرنسي اختار حل الجمعية الوطنيّة عقب صدور نتائج الانتخابات الأوروبية التي تصدّرها حزب التجمع الوطني، مراهناً على أن يثير قراره خوف الفرنسيين من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، ليسوّق نفسه بصورة المتصدّي الوحيد لـ”خطر اليمين المتطرف”، في سبيل نيل الغالبية النيابية المطلقة التي كان يفتقدها. 

بغض النظر عما إذا كان ماكرون مصيباً في رهانه وبعيداً عن حساباته الذاتية من تلك الخطوة، لكن مجرد المراهنة على “إثارة الهلع” من حصول اليمين المتطرف على الغالبية النيابية، دليل على أن وجود هذا الحزب على الساحة السياسية ليس “حالة طبيعية” بنظر البعض، حتى وإن كان مشروعه يلقى قبولاً في الشارع الفرنسي. 

تحالف “الجبهة الشعبية” اليساريّ

التحالف الذي أبرمته أحزاب اليسار الفرنسي أخيراً، تحت مسمى “الجبهة الشعبية الجديدة”، دلّ بدوره على مدى نبذ حزب التجمع الوطني، وعلى الرغم من خوض الأحزاب اليسارية انتخابات 2022 النيابية مجتمعة تحت راية “الاتحاد الشعبي البيئي الاجتماعي الجديد”، إلا أن الصراعات في ما بينها سرعان ما انفجرت، لتبلغ أوجها بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر حين انحازت حركة فرنسا الأبية إلى الصف الفلسطيني أكثر من نظرائها سواء الحزب الاشتراكي وحزب البيئة أو حتى الحزب الشيوعي.

 أبرز ما يمكن تسجيله في هذا الصدد، اتهام حركة فرنسا الأبية بمعاداة السامية وشيطنتها بشتى الوسائل، في حملة ساهمت فيها أحزاب اليسار نفسها، ولم تقصّر قوى اليمين فيها إلى حد اقتباس ميشيل أونفري عبارة ديغول الشهيرة، واصفاً سياسيي اليسار بـ”الكلاب”.

دفعت حدّة الصراعات الى الاعتقاد أن هذه الأحزاب ستكون عاجزة عن إبرام أي تحالف في ما بينها، وهو أحد رهانات ماكرون. لكن الأحزاب اليسارية نجحت في تخطي خلافاتها والاتفاق ليس فقط على تقاسم الدوائر 

الانتخابية في ما بينها، بل أيضاً على برنامج عمل في حال فوزها بالأكثرية النيابية.

 لا يمكن إنكار أن هذا التحالف أُبرم على عجل، ما يشرعن التشكيك في صلابته وديمومته، لكن إذا نظرنا الى المشهد من منظور واسع ندرك أن “حجم الهلع” الناتج من إمكانية وصول اليمين المتطرف إلى السلطة جعل من كل الخلافات داخل المعسكر اليساري تفاصيل تم تخطيها بسرعة، إذ لمست هذه الأحزاب أنها أمام لحظة مفصليّة، تفرض عليها مقاربة مختلفة للصراعات بينها.

حزب الجمهوريون (وريث اليمين التقليدي) شهد واحدة من أسوأ أزماته بعد إعلان رئيسه، إريك سيوتي، عزمه عقد اتفاقات مع حزب التجمع الوطني. 

أثار تصريح سيوتي انقساماً داخل الحزب، فعلى رغم تشدد حزب الجمهوريون في طروحاته منذ سنوات عدة حتى بات يصنّف “أقصى اليمين”، لكن مجرد “كسر التابو” واقتراح الاتفاق مع اليمين، أثار حفيظة قادة الحزب.

 لو افترضنا أن الغرض من الحملة على سيوتي، والتي هدفت إلى طرده، هو تصفية حسابات داخلية، لكن مجرد تطويع قرار كهذا دليل على كونه نقطة ضعف لا تُحسب بالضرورة لصالح عرابها.   

كل ما سبق ذكره يدل على أن المعارضة التي سيواجهها حزب التجمع الوطني، إذا ما أمسك بالسلطة، ستكون بدورها على قدر كبير من الحدة.

مؤسسات الدولة: “خط دفاع”

بالإضافة إلى الشارع والأحزاب السياسية، ستشكل مؤسسات الدولة بدورها “خط دفاع”، إذ نجد  في المقام الأول رئاسة الجمهورية، ففي حال فوز حزب التجمع الوطني بالأكثرية النيابية (وإن كانت أكثرية نسبية) سيحتّم على ماكرون تكليف جوردان بارديلا بتشكيل الحكومة.

 لكن وفقاً للأعراف السياسية، ستبقى السياسة الخارجية كما السياسة الدفاعية من اختصاص رئيس الجمهورية. لا يعني ذلك أن ماكرون سيكون طليق اليدين بالكامل، لكن أقله سيملك هامشاً من المناورة لعرقلة عمل حكومة اليمين المتطرف، أقله في هذين المجالين. 

على صعيد السياسة الداخلية، المجلس الدستوري قادر على إجهاض أي محاولة من الحكومة اليمينية المتطرفة المحتملة لإقرار قوانين غير دستورية، لا سيما في ما يتعلق بمحاولة الحد من الهجرة الشرعية وغير الشرعية، أو الانتقاض من حقوق الأجانب المقيمين على الأراضي الفرنسية. أبرز مثال هو إبطال المجلس مواد عدة من قانون الهجرة الجديد، مطلع العام 2024. 

مجلس الدولة الفرنسي سيعترض بدوره طريق اليمين المتطرف لدوره في الفصل في النزاعات بين المواطنين والإدارات العامة الفرنسية، لا سيما في القرارات والمذكرات التي تحد من الحريات العامة.

 أبرز ما يمكن التذكير به في هذا الصدد، قرار المجلس بالسماح للتظاهرات المؤيدة للفلسطينيين بعد 7 تشرين الأول، بعد محاولة منعها من وزير الداخلية أو تعليقه العمل بمذكرات بلدية حاولت منع النساء من ارتداء البوركيني على الشواطئ العمومية.  

ولا ننسى مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه حزب الجمهوريون، والذي بإمكانه أيضاً الحد من قدرة حزب التجمع الوطني على تطبيق سياسته. على سبيل المثال، تتطلب رغبة الحكومة اليمينية المتطرفة المحتملة في إجراء تعديل دستوري ما، موافقة ثلثي البرلمانيين الفرنسيين (أي أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ مجتمعين). 

هل تقبل فرنسا على جمهورية سادسة؟

لا يعني كل ما سبق أن حزب التجمع الوطني مقبل على خسارة انتخابية أو سيكون مقيد اليدين في حال فوزه. على العكس، لا يزال متصدراً استطلاعات الرأي وقادراً على خلق دينامية ذاتية، فيما دينامية منافسيه أقرب ما تكون إلى ردة الفعل، كما يتجه إلى تثبيت قاعدته الشعبية أقله على المدى المتوسط. 

ولا يمكن في هذا السياق عدم التوقف عند تبعات 7 تشرين الأول، فانحياز الحزب إلى الصف الإسرائيلي ساهم في جعله أكثر قبولاً لدى بعض الأوساط السياسية ولدى شرائح من الشارع والمجتمع المدني الفرنسي، على رغم تاريخه وحاضره الحافل بمعاداة السامية.  بالتالي، يمتلك هذا الحزب أوراق قوة لا يستهان بها تتيح له الفوز وخوض أيه منازلة سياسية.

على رغم ذلك، في وسع خصوم اليمين المتطرف “التفاؤل” ولو مؤقتاً: تولي اليمين المتطرف السلطة قد يصبح أمراً واقعاً، لكن شريحة من القوى السياسية والشارع الفرنسيين لا تزال ترفض التسليم بكونه أمراً طبيعياً.  

إيجابية أخرى محتملة، أن تفتح نتيجة هذه الانتخابات الباب أمام بحث جدي في ضرورة تعديل النظام السياسي الفرنسي، للعبور ربما إلى جمهورية سادسة.

 صحيح أن المساكنة الحكومية المنتظرة (أي وجود رئيس جمهورية ورئيس حكومة لا ينتميان إلى الفريق السياسي ذاته) ليست بالأمر الجديد في الحياة السياسية الفرنسية، لكن احتمال اندلاع أزمة حكم بسبب وصول اليمين المتطرف الى السلطة وما قد يرافقه من صراع (سياسي وقانوني ودستوري وشعبي) لم يعتد عليه الفرنسيون، قد يؤدي إلى إثارة هذا النقاش الملح أياً تكن مآلاته.

الإيجابية الملموسة حتى الساعة هي إعادة الاعتبار الى الانتخابات النيابية وما قد ينتج منه من تعديل في موازين القوى، فمنذ العام 2002 باتت الانتخابات النيابية تُجرى بعد ستة أسابيع من الانتخابات الرئاسية، ما جعل الاستحقاق النيابي فارغاً من أي مضمون. 

الانتخابات النيابية الآن استعادت اعتبارها، خصوصاً أن المعركة الرئاسية تعد أم المعارك، وفيها تضع الأحزاب كل ثقلها حتى أصبحت الانتخابات النيابية أشبه بعملية تصديق على نتيجة الانتخابات الرئاسية، من خلال منح رئيس الجمهورية الأكثرية النيابية، من دون تقديم أي برنامج انتخابي. 

19.06.2024
زمن القراءة: 6 minutes

الرئيس الفرنسي اختار حل الجمعية الوطنيّة عقب صدور نتائج الانتخابات الأوروبية التي تصدّرها حزب التجمع الوطني، مراهناً على أن يثير قراره خوف الفرنسيين من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، ليسوّق نفسه بصورة المتصدّي الوحيد لـ”خطر اليمين المتطرف”، في سبيل نيل الغالبية النيابية المطلقة التي كان يفتقدها.

قرار إيمانويل ماكرون حلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة، خلط الأوراق السياسية بعدما بات اليمين المتطرف، ممثلاً بحزب التجمع الوطني بزعامة جوردان بارديلا، أقرب من أي وقت مضى من تولّي السلطة في البلاد.

 شعبية الحزب المتنامية جعلت من وصوله إلى السلطة فرضية متداولة منذ سنوات، لكن ردة الفعل الشعبية والسياسية على إمكانية تشكيله الحكومة المنبثقة من الانتخابات النيابية المقبلة (30 حزيران/ يونيو و7 تموز/ يوليو)، دلت بشكل واضح على أن هذا الحزب لا يزال “منبوذاً”. 

صحيح أن التظاهرات التي تشهدها فرنسا أخيراً ضد اليمين المتطرف أقل زخما وحجماً من التظاهرات التي شهدتها البلاد في العام 2002 (عقب وصول جان ماري لوبان إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية)، لكن اللافت أن حزب التجمع الوطني هو الجهة السياسية الوحيدة التي تثير نفور شريحة من الشارع الفرنسي. 

لم تشهد فرنسا تظاهرات كهذه يوم كانت استطلاعات الرأي تؤشر إلى فوز اليمين (بتسمياته المتعددة) أو الحزب الاشتراكي أو حتى إيمانويل ماكرون، في هذا دليل على أن الشارع الفرنسي سيكون أكثر حدة في مواجهة اليمين، إذا تأكدت استطلاعات الرأي التي يتصدّرها الحزب حتى الساعة.  

ليس تفصيلاً إذاً أن يكون حزب التجمع الوطني هو الجهة السياسية الوحيدة التي تثير هذا “النفور المبدئي”، على رغم كل جهوده الإعلامية لتبييض صورته ومحو تاريخه الحافل بمواقف عنصرية، وأشار الحراك السياسي الداخلي بدوره إلى أن الحزب المذكور أشبه ما يكون بـ”لوثة” يتوجب تجنّبها. 

ماكرون يراهن على خوف الفرنسيين

خطوة ماكرون لم تكن مفاجئة من حيث المضمون، فالانتخابات النيابية الأخيرة منحته أكثرية نسبية، لا مطلقة، الأمر الذي لم يسهل عمل حكوماته، وفاقم الصراع السياسي اليومي، لتصبح الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة خياراً منتظراً في أية لحظة. 

الرئيس الفرنسي اختار حل الجمعية الوطنيّة عقب صدور نتائج الانتخابات الأوروبية التي تصدّرها حزب التجمع الوطني، مراهناً على أن يثير قراره خوف الفرنسيين من وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، ليسوّق نفسه بصورة المتصدّي الوحيد لـ”خطر اليمين المتطرف”، في سبيل نيل الغالبية النيابية المطلقة التي كان يفتقدها. 

بغض النظر عما إذا كان ماكرون مصيباً في رهانه وبعيداً عن حساباته الذاتية من تلك الخطوة، لكن مجرد المراهنة على “إثارة الهلع” من حصول اليمين المتطرف على الغالبية النيابية، دليل على أن وجود هذا الحزب على الساحة السياسية ليس “حالة طبيعية” بنظر البعض، حتى وإن كان مشروعه يلقى قبولاً في الشارع الفرنسي. 

تحالف “الجبهة الشعبية” اليساريّ

التحالف الذي أبرمته أحزاب اليسار الفرنسي أخيراً، تحت مسمى “الجبهة الشعبية الجديدة”، دلّ بدوره على مدى نبذ حزب التجمع الوطني، وعلى الرغم من خوض الأحزاب اليسارية انتخابات 2022 النيابية مجتمعة تحت راية “الاتحاد الشعبي البيئي الاجتماعي الجديد”، إلا أن الصراعات في ما بينها سرعان ما انفجرت، لتبلغ أوجها بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر حين انحازت حركة فرنسا الأبية إلى الصف الفلسطيني أكثر من نظرائها سواء الحزب الاشتراكي وحزب البيئة أو حتى الحزب الشيوعي.

 أبرز ما يمكن تسجيله في هذا الصدد، اتهام حركة فرنسا الأبية بمعاداة السامية وشيطنتها بشتى الوسائل، في حملة ساهمت فيها أحزاب اليسار نفسها، ولم تقصّر قوى اليمين فيها إلى حد اقتباس ميشيل أونفري عبارة ديغول الشهيرة، واصفاً سياسيي اليسار بـ”الكلاب”.

دفعت حدّة الصراعات الى الاعتقاد أن هذه الأحزاب ستكون عاجزة عن إبرام أي تحالف في ما بينها، وهو أحد رهانات ماكرون. لكن الأحزاب اليسارية نجحت في تخطي خلافاتها والاتفاق ليس فقط على تقاسم الدوائر 

الانتخابية في ما بينها، بل أيضاً على برنامج عمل في حال فوزها بالأكثرية النيابية.

 لا يمكن إنكار أن هذا التحالف أُبرم على عجل، ما يشرعن التشكيك في صلابته وديمومته، لكن إذا نظرنا الى المشهد من منظور واسع ندرك أن “حجم الهلع” الناتج من إمكانية وصول اليمين المتطرف إلى السلطة جعل من كل الخلافات داخل المعسكر اليساري تفاصيل تم تخطيها بسرعة، إذ لمست هذه الأحزاب أنها أمام لحظة مفصليّة، تفرض عليها مقاربة مختلفة للصراعات بينها.

حزب الجمهوريون (وريث اليمين التقليدي) شهد واحدة من أسوأ أزماته بعد إعلان رئيسه، إريك سيوتي، عزمه عقد اتفاقات مع حزب التجمع الوطني. 

أثار تصريح سيوتي انقساماً داخل الحزب، فعلى رغم تشدد حزب الجمهوريون في طروحاته منذ سنوات عدة حتى بات يصنّف “أقصى اليمين”، لكن مجرد “كسر التابو” واقتراح الاتفاق مع اليمين، أثار حفيظة قادة الحزب.

 لو افترضنا أن الغرض من الحملة على سيوتي، والتي هدفت إلى طرده، هو تصفية حسابات داخلية، لكن مجرد تطويع قرار كهذا دليل على كونه نقطة ضعف لا تُحسب بالضرورة لصالح عرابها.   

كل ما سبق ذكره يدل على أن المعارضة التي سيواجهها حزب التجمع الوطني، إذا ما أمسك بالسلطة، ستكون بدورها على قدر كبير من الحدة.

مؤسسات الدولة: “خط دفاع”

بالإضافة إلى الشارع والأحزاب السياسية، ستشكل مؤسسات الدولة بدورها “خط دفاع”، إذ نجد  في المقام الأول رئاسة الجمهورية، ففي حال فوز حزب التجمع الوطني بالأكثرية النيابية (وإن كانت أكثرية نسبية) سيحتّم على ماكرون تكليف جوردان بارديلا بتشكيل الحكومة.

 لكن وفقاً للأعراف السياسية، ستبقى السياسة الخارجية كما السياسة الدفاعية من اختصاص رئيس الجمهورية. لا يعني ذلك أن ماكرون سيكون طليق اليدين بالكامل، لكن أقله سيملك هامشاً من المناورة لعرقلة عمل حكومة اليمين المتطرف، أقله في هذين المجالين. 

على صعيد السياسة الداخلية، المجلس الدستوري قادر على إجهاض أي محاولة من الحكومة اليمينية المتطرفة المحتملة لإقرار قوانين غير دستورية، لا سيما في ما يتعلق بمحاولة الحد من الهجرة الشرعية وغير الشرعية، أو الانتقاض من حقوق الأجانب المقيمين على الأراضي الفرنسية. أبرز مثال هو إبطال المجلس مواد عدة من قانون الهجرة الجديد، مطلع العام 2024. 

مجلس الدولة الفرنسي سيعترض بدوره طريق اليمين المتطرف لدوره في الفصل في النزاعات بين المواطنين والإدارات العامة الفرنسية، لا سيما في القرارات والمذكرات التي تحد من الحريات العامة.

 أبرز ما يمكن التذكير به في هذا الصدد، قرار المجلس بالسماح للتظاهرات المؤيدة للفلسطينيين بعد 7 تشرين الأول، بعد محاولة منعها من وزير الداخلية أو تعليقه العمل بمذكرات بلدية حاولت منع النساء من ارتداء البوركيني على الشواطئ العمومية.  

ولا ننسى مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه حزب الجمهوريون، والذي بإمكانه أيضاً الحد من قدرة حزب التجمع الوطني على تطبيق سياسته. على سبيل المثال، تتطلب رغبة الحكومة اليمينية المتطرفة المحتملة في إجراء تعديل دستوري ما، موافقة ثلثي البرلمانيين الفرنسيين (أي أعضاء الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ مجتمعين). 

هل تقبل فرنسا على جمهورية سادسة؟

لا يعني كل ما سبق أن حزب التجمع الوطني مقبل على خسارة انتخابية أو سيكون مقيد اليدين في حال فوزه. على العكس، لا يزال متصدراً استطلاعات الرأي وقادراً على خلق دينامية ذاتية، فيما دينامية منافسيه أقرب ما تكون إلى ردة الفعل، كما يتجه إلى تثبيت قاعدته الشعبية أقله على المدى المتوسط. 

ولا يمكن في هذا السياق عدم التوقف عند تبعات 7 تشرين الأول، فانحياز الحزب إلى الصف الإسرائيلي ساهم في جعله أكثر قبولاً لدى بعض الأوساط السياسية ولدى شرائح من الشارع والمجتمع المدني الفرنسي، على رغم تاريخه وحاضره الحافل بمعاداة السامية.  بالتالي، يمتلك هذا الحزب أوراق قوة لا يستهان بها تتيح له الفوز وخوض أيه منازلة سياسية.

على رغم ذلك، في وسع خصوم اليمين المتطرف “التفاؤل” ولو مؤقتاً: تولي اليمين المتطرف السلطة قد يصبح أمراً واقعاً، لكن شريحة من القوى السياسية والشارع الفرنسيين لا تزال ترفض التسليم بكونه أمراً طبيعياً.  

إيجابية أخرى محتملة، أن تفتح نتيجة هذه الانتخابات الباب أمام بحث جدي في ضرورة تعديل النظام السياسي الفرنسي، للعبور ربما إلى جمهورية سادسة.

 صحيح أن المساكنة الحكومية المنتظرة (أي وجود رئيس جمهورية ورئيس حكومة لا ينتميان إلى الفريق السياسي ذاته) ليست بالأمر الجديد في الحياة السياسية الفرنسية، لكن احتمال اندلاع أزمة حكم بسبب وصول اليمين المتطرف الى السلطة وما قد يرافقه من صراع (سياسي وقانوني ودستوري وشعبي) لم يعتد عليه الفرنسيون، قد يؤدي إلى إثارة هذا النقاش الملح أياً تكن مآلاته.

الإيجابية الملموسة حتى الساعة هي إعادة الاعتبار الى الانتخابات النيابية وما قد ينتج منه من تعديل في موازين القوى، فمنذ العام 2002 باتت الانتخابات النيابية تُجرى بعد ستة أسابيع من الانتخابات الرئاسية، ما جعل الاستحقاق النيابي فارغاً من أي مضمون. 

الانتخابات النيابية الآن استعادت اعتبارها، خصوصاً أن المعركة الرئاسية تعد أم المعارك، وفيها تضع الأحزاب كل ثقلها حتى أصبحت الانتخابات النيابية أشبه بعملية تصديق على نتيجة الانتخابات الرئاسية، من خلال منح رئيس الجمهورية الأكثرية النيابية، من دون تقديم أي برنامج انتخابي.