نتائج الانتخابات البرلمانية الفرنسية الأخيرة أفضت إلى إرباك داخلي بسبب الواقع المستجد في البلاد. فمنذ قيام الجمهورية الخامسة، كان المشهد السياسي الفرنسي واضح المعالم: الاستحقاق البرلماني أفرز دوماً أكثرية مطلقة تنتمي إلى فريق سياسي معين، وهو ما أتاح للحزب صاحب تلك الأكثرية تشكيل الحكومة، حتى لو كان خصماً لرئيس الجمهورية.
لكن بنتيجة الانتخابات الأخيرة، تصدرت النتائج أحزاب اليسار، ممثلة بتحالف الجبهة الشعبية الجديدة، بعد نجاحها في إيصال نحو 180 نائباً من أصل 577 يشكلون مجمل أعضاء الجمعية الوطنية. تحالف “معاً” الموالي للرئيس إيمانويل ماكرون حلّ ثانياً بنحو 168 مقعداً، فيما احتلّ حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف المركز الثالث مع حلفائه بنحو 140 نائباً.
للمرة الثانية على التوالي، لا تنتج من الاستحقاق البرلماني الفرنسي أكثرية مطلقة، مجرد أكثرية نسبية تقيد عمل المتصدر إن لتشكيل حكومة أو لافتقاده العدد الكافي من النواب الضروري لإقرار القوانين. يضاف إليها إمكان تكتل باقي الأحزاب ضد الحكومة وحجب الثقة عنها في أية لحظة.
حصول الجبهة الشعبية الجديدة على أكثرية نسبية فتح باب النقاش حول إمكان تشكيل تحالف بين مكونات عدة يفضي إلى الأكثرية المطلقة المطلوبة. بانتظار ما سيرسو عليه المشهد الحكومي، قد يشكل هذا الواقع المستجد فرصة لإحياء الجدل حول تعديل النظام السياسي أو ما يعرف بالجمهورية الخامسة، بخاصة إذا استمر الانقسام الحاد على هذا النحو الذي لا يسمح مستقبلاً ببروز أكثرية مطلقة.
من دون الخوض في التفاصيل والمتاهات الدستورية، يمكن القول إن النظام الفرنسي ينطوي على خصوصية، إذ يعد نظاماً “شبه رئاسي”، بمعنى تضمّنه بعضاً من ملامح النظام البرلماني وملامح أخرى تحيله إلى النظام الرئاسي.
مفارقة الأكثرية النيابيّة
في الواقع، يحظى كل من رئيس الجمهورية والجمعية الوطنية بشرعية شعبية. عملياً، تتفوق مؤسسة الرئاسة على السلطة التشريعية ليس فقط للصلاحيات الواسعة التي مُنحت للرئيس بحكم الدستور، بل أيضاً لأن الشرعية الشعبية يجسدها شخص واحد انتخبه عموم الفرنسيين، فيما انتُخِب النواب الـ 577 على أساس دوائر محلية، لتظهر بذلك ملامح النظام الرئاسي.
خلاف الأنظمة الرئاسية البحتة، رئيس الجمهورية الفرنسي مجبر على الأخذ بالاعتبار نتائج الانتخابات البرلمانية لتسمية رئيس الحكومة. صحيح أن الدستور لم يلزم الرئيس بالانصياع لنتائج الانتخابات البرلمانية، لكن الرؤساء كانوا مجبرين على ذلك تجنباً لإسقاط الحكومة.
على عكس ما يجري في الولايات المتحدة مثلاً، ليس في وسع الرئيس الفرنسي تسمية حكومة موالية له إلا إذا امتلك الأكثرية النيابية ليصبح هو الحاكم الفعلي وكأننا في نظام رئاسي. أما لو افتقد الرئيس الأكثرية المطلقة، نكون أمام مساكنة حكومية تحاكي النظام البرلماني، إذ تتركز السلطات بيد رئيس الحكومة.
قبل العام 2002، كانت فرنسا تشهد انتخابات برلمانية خلال الولاية الرئاسية، على اعتبار أن مدة الولاية الرئاسية كانت آنذاك سبع سنوات فيما ولاية الجمعية الوطنية خمس سنوات. استحقاق يؤدي إما إلى خسارة الرئيس الأكثرية البرلمانية وإما تجديدها.
لكن مع العام 2002، تقرر تقليص ولاية الرئيس من سبع إلى خمس سنوات وإجراء الانتخابات البرلمانية بعد الاستحقاق الرئاسي بستة أسابيع. بنتيجة هذين القرارين تعزز موقع الرئيس ليقترب النظام السياسي خطوة إضافية من شكله الرئاسي. فالانتخابات الرئاسة توصف بأم الاستحقاقات وفيها تضع الأحزاب كل ثقلها. بذلك، بات الاستحقاق البرلماني فارغاً من أي مضمون وأشبه ما يكون بعملية تأكيد نتيجة الاستحقاق الرئاسي وكأن نواب الأكثرية مدينون للرئيس، الذي لولا انتخابه لما حظيوا بالزخم الكافي في دوائرهم الانتخابية المحلّية.
لا أغلبية مطلقة لأحد
حل الجمعية الوطنية في 9 حزيران/ يونيو أعاد الاعتبار الى الاستحقاق البرلماني ليتعدل ميزان القوى نوعاً ما لصالح المؤسسة التشريعية. إذا استمر “الميزان” على هذه الحال، قد تطرح مجدداً إشكالية صلاحيات رئيس الجمهورية وضرورة تقليصها بما يتناسب مع هذا الواقع المستجد. وما قد يعزز هذا الطرح هو تركيبة الجمعية الوطنية. فكما سبق وذكرنا، تفتقد الجمعية الوطنية أكثرية مطلقة للمرة الثانية على التوالي.
في المرة السابقة، أي في العام 2022، لم يكن إيمانويل ماكرون بعيداً عن الأكثرية المطلقة، ما سمح له بتشكيل حكومة موالية له وعقد تفاهمات جانبية مع الكتل بناء على كل مشروع قانون على حدة. على رغم ذلك، كان الكباش السياسي حاداً وشبح حجب الثقة مهيمناً طوال عامين.
اليوم، بات المشهد السياسي أكثر تعقيداً والانقسام السياسي أكثر حدّة، ما حرم الجبهة الشعبية الجديدة من أكثرية نسبية معقولة. لو كلفت الجبهة بتشكيل الحكومة، كونها الكتلة الأكبر، واختارت تشكيلها منفردة أو عجزت عن نسج التحالفات المطلوبة، ستكون في وضع أكثر صعوبة مما كانت عليه حكومات ماكرون خلال العامين الماضيين. ما يعني أننا سنكون أمام أزمة حكم لو تشكلت حكومة من دون أكثرية مطلقة أو ارتكزت على أكثرية نسبية محدودة. وعليه، سيكون اللجوء إلى نسج تحالفات بين الكتل خياراً مرجحاً. هذا من دون استبعاد فرضية قيام تحالف بين كتل عدة تطيح فرص الجبهة في تولّي الحكم.
واقع سيساهم في طرح علامات استفهام حول إمكانية الاستمرار في نظام الجمهورية الخامسة حيث الثقل للسلطة التنفيذية. فكما سبق وذكرنا، منح الدستور الفرنسي رئيس الجمهورية صلاحيات واسعة، بالتالي لو قررت مجموعة من الكتل التحالف في ما بينها بمعزل عن النواب الموالين للإليزيه، ستصطدم بالصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية، والتي من شأنها عرقلة العمل الحكومي.
بمعنى آخر، بالإضافة إلى ضرورة التفاهم والتعايش في ما بينها، ستجد الكتل نفسها مضطرة للتعايش مع رئيس الجمهورية غير الممثل في الحكومة وذي الصلاحيات الواسعة بحكم الدستور وصاحب الكلمة العليا في السياستين الخارجية والدفاعية. على المقلب الآخر، تشكيل تحالف يضم الموالين لرئيس الجمهورية سيعني أن معسكر الرئيس سيكون متقدماً عليهم لامتلاكه مفاتيح الإليزيه، ما قد يصعّد الخلافات داخل الحكومة لإحساس فريق أنه أقل درجة من أقرانه.
سجال الجمهورية السادسة
بالتالي، قد تثار إشكالية تعديل في موازين القوى ضمن الجمهورية الخامسة أو ربما إطاحة هذا النظام برمته والعبور نحو جمهورية سادسة. هذا السجال حاضر منذ عقود ولكل فريق مخزونه الخاص من الحجج وبما يتناسب مع رؤيته لشكل المؤسسات. نتائج الانتخابات البرلمانية ستوفر لدعاة التعديل أو الإطاحة حجة إضافية للتصويب على طبيعة النظام لما ينتج منه من انسداد في الأفق السياسي.
فالخارطة السياسية على درجة كبيرة من التشتت وبما لا يسمح ببروز أكثرية مطلقة، ما قد يفرض تشكيل تحالفات بين مختلف الكتل. بالتالي، ستحتل الجمعية الوطنية مكانة متقدمة أكثر من ذي قبل على الخارطة السياسية، إذ ستنبثق الحكومة من تلك التحالفات، ما سيدفع إلى مزيد من التصويب على نظام الجمهورية الخامسة، معتبرين أن جزءاً من الحل هو إعادة النظر بالنظام السياسي لصالح السلطة التشريعية.
لكن العبور إلى نظام سياسي أكثر برلمانية ليس بالخطوة السهلة، فتاريخ الجمهورية الرابعة لا يزال حاضراً في الأذهان. هذه الجمهورية ذات الوجه البرلماني تميزت بعدم الاستقرار الحكومي بسبب تشتت القوى السياسية، وهو ما سهل تقبل الجمهورية الخامسة رغبة في الاستقرار السياسي. لكن يبدو أن هذا الاستقرار لم يعد متاحاً ولا بد من طرح أفكار خلاقة تجمع بين التوازن المؤسساتي والاستقرار السياسي.
إقرأوا أيضاً: