دعا زعيم حزب “العمال الكردستاني” عبد الله اوجلان رفاقه في الحزب إلى ترك السلاح وحلّ الحزب، والانخراط ضمن المجال السياسي السلمي، والاندماج مع الدولة والمجتمع. خطوة مفصلية في تاريخ الحزب وتركيا، سواء على مستوى المنطقة التي ينشط فيها ضمن تركيا، أو المساحات التي يُسيطر عليها في سوريا.
الانعطافة المفصلية التي صرّح أوجلان أنه يتحمّل “مسؤوليتها التاريخية”، تُصيب بُنية الحزب نفسه أكثر من باقي الأطراف؛ كونه تحوّل إلى فاعل ما دون دولة، خاصة في سوريا، وفي مناطق ريفية من كردستان العراق، وفي بعض المناطق ضمن المنطقة الكردية في تركيا.
سينعكس هذا القرار على مسار الحزب العسكري والسياسي، وبطبيعة الحال الأيديولوجية التنظيمية والنظرية، كونه تمكّن من التغلغل في المجتمع المحلي ضمن شمال شرق سوريا بشكل فاعل، مستخدماً كوابح كثيرة لضبط إيقاع حركة القواعد الاجتماعية، ولم يكن العنف غريباً عن تلك الأدوات.
اللافت في ردود الفعل على الرسالة، هو كثافة التأييد المحلي والإقليمي والدولي والعالمي، سواء من تأييد عارم لكرد تركيا لهذه المبادرة، خصوصاً من حزبي “العدالة والتنمية” و”الحركة القومية”، ألد الخصوم السياسيين لحزب “العمال الكردستاني”، سواء على مستوى الانتخابات بمختلف مناسباتها، أو الصراع والمواجهات العسكرية والبرلمانية.
ظهر التأييد أيضاً في رسائل التهنئة والدعم من قِبل قيادات ومؤثرين فاعلين ضمن العراق، كوزير خارجيتها فؤاد حسين، أو في كردستان العراق مثل الرئيس مسعود البارزاني، وصولاً إلى البيت الأبيض، والأمم المتحدة، وترحيب الجميع بهذه الرسالة يضع “العمال الكردستاني” أولاً، وتركيا نفسها ثانياً، أمام توازنات اللحظة الحرجة، وضرورة مهارة الطرفين بتدوير الزوايا، وربما سيبقى لموقف إيران دور واضح في المعادلة.
تحدّيات تاريخ العنف
شكّل العنف المتبادل بين الطرفين الكردي والتركي، هويّة واضحة في طبيعة التعامل والتخاطب ولغة الحوار، ولم تنجح الحروب والمعارك في قهر أي طرف للآخر، لكن بقيت الجغرافيا الكردية في تركيا، وخاصة في مجالات التنمية والتطور العمراني والتعليم، هي الضحية الأكبر، ولعلها أحد التفسيرات التي تشرح أسباب انتصار حزب “العدالة والتنمية” أو غيره، في المناطق الكردية في أغلب الانتخابات البرلمانية والبلديات عدا رئاسة الجمهورية التركية.
يمكن القول أيضاً إن سنوات الصراع والكفاح المسلح، لم تعد تتناسب والجيل الكردي الجديد في تركيا، الذي راح ينسلخ عن هويّته، ولجأ إلى اللغة التركية عوضاً عن الكردية، وإن لا يجوز التعميم. وغالباً نجحت الحكومة التركية في اقتناص التوجّهات الجديدة للأجيال، التي رفضت السير في الدروب الوعرة للحياة، وفضّلت العيش في كنف التكنولوجيا والتعليم والبحث عن فرص العمل على لغة السلاح والدم والحرب.
الوضع في تركيا غالباً سيتّجه إلى الحل، ويجب أن يتمتّع أنصار “العمال الكردستاني” وعناصره، بكل الحقوق السياسية والاقتصادية التي تجعل منهم مواطنين متساوين مع المواطنين الأتراك، وهذا يحتاج إلى مواد دستورية، والإقرار بالقومية الكردية، والقيام بخطوات عملية على رأسها إطلاق سراح المعتقلين وإصدار عفو عام، وغيرها من الخطوات التي يتوجّب على الطرفين القيام بها.
المشكلة المتوقّعة أمام المضي بخطوات صلبة لعملية السلام، هي الديناميات القانونية، والجيوسياسية والأمنية، والهيكل الحوكمي للدولة التركية الموحّدة، خاصة ضمن سياسات وقوانين مكافحة الإرهاب.
ورغم أن أوجلان بدأ الخطوة الأولى، وهي الأهم والأكثر لزومية، لكن الحل ليس بهذه البساطة، فالقضية بالنسبة إلى تركيا لا تنتهي بالإعلان عن رسالة أوجلان فحسب، بل ستطلّب إنهاءً لفروع الحزب في سوريا أيضاً، خاصة وأن الوضع الميداني حالياً ل”قوات سوريا الديمقراطية”، ليس كسابق عهده إبان محاربة الإرهاب المتمثّل بـ”داعش”، وقدرتها على المناورة بين واشنطن وموسكو ودمشق “النظام السابق”.
والمشكلة الثانية وجود أربع مواد غير قابلة للتغيير في الدستور التركي، الأولى منها تتحدّث عن شكل الدولة التركية على أنها جمهورية، وتتحدّث المادة الثانية عن خصائص هذه الجمهورية على أنها دولة قانون ديمقراطية وعلمانية واجتماعية، في إطار فهم السلام الاجتماعي والتضامن الوطني والعدالة، واحترام حقوق الإنسان، والتمسّك بقومية أتاتورك، في حين أن الثالثة تركّز على سلامة الدولة ولغتها الرسمية وعلمها ونشيدها الوطني.
هذه المواد الثلاث لا يجوز المساس بها وفقاً للمادة الرابعة، هذه المواد الأربعة هي وفقاً للعمق السياسي والعسكري التركي، ضمانة للبنية الموحّدة للبلاد وحماية لها، وفي هذا السياق فإنه لا يجوز للكرد في تركيا المطالبة بأي خصوصية في شكل الدولة، أو نظام الحكم مثل الفدرالية أو الحكم الذاتي أو الإدارة الذاتية أو حتى الهويّة السياسية المنفصلة عن البقية، أو الخصوصية الهويّاتية، ما يعني أن مطالب “العمال الكردستاني” التي رددها مراراً تُعدّ مستحيلة دستورياً، وغالباً فإن بعض بنود رسالة أوجلان حول إبعاد أي مطلب قومي أو خصوصية هويّاتية، جاءت ضمن هذا الاتجاه.
العقبة الأخرى أمام هذه اللحظة التاريخية الفارقة، تكمن في مضامين التحوّل السياسي المطلوب ضمن الإطار الدستوري وآلياته، حيث إن النظام القانوني الجنائي وتشريعات مكافحة الإرهاب في تركيا، يضعان الكثير من العقبات أمام إعادة إندماج عناصر “العمال الكردستاني” ضمن المجتمع التركي، وغير مستبعد ردّ فعل شعبياً سلبياً من عملية منح العفو، في حين أن قضية محاكمتهم ستكون رادعة ومُنهية لدعوة أوجلان.
الأزمة في سوريا
يُشكّل الوضع السوري إحدى العقبات أمام تسريع عملية السلام “الأوجلانية” إن جاز التعبير، التي ستنعكس بشكل كبير ومباشر على المشهد السوري. فالمفاوضات الجارية بين “قسد” وإدارة أحمد الشرع، مستمرّة.
ويبدو أن تصريح مظلوم عبدي قائد “قوات سوريا الديمقراطية” الذي أكّد أن الدعوة تتعلّق بعناصر “الكردستاني” داخل تركيا ولا تشمل قواته، رغم تأكيده أهمية الرسالة وإيجابيتها، وجاءت لتعزيز محاولات “قسد” التأكيد على البعد الوطني السوري لها.
بالمقابل فإن طبيعة ردّة فعل كوادر “العمال الكردستاني” في شمال شرق سوريا، هي التي ستحدد موقف الحكومة السورية الحالية، وموقف أنقرة أيضاً، فعدم قبولها دعوة أوجلان قد يقود إلى عملية عسكرية جديدة ضد مناطق سيطرة “قسد”، الأمر الذي لا ترغب فيه أطراف الموضوع جميعها، من إقليم كردستان، و”قسد”، ودمشق، وربما أنقرة نفسها.
فلا يُمكن إنكار المدّ الروحي لأوجلان وفلسفته وأفكاره على “مجلس سوريا الديمقراطية” و”قوات سوريا الديمقراطية” والإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، لهذا فإن هذه الرسالة تكتسب أهمية كونها حمّالة أوجه، فقد تُشكّل قوة ضاغطة على قيادات “العمال الكردستاني” وعناصره من جهة، ومن جهة ثانية تمنح “قسد” ورقة قوية للتقدّم في المفاوضات مع حكومة دمشق، وبقاء ذوي الهويّات السورية الواضحة.
بالمختصر، في ما يخص تأثيرات رسالة أوجلان على القضية الكردية في سوريا، فإنها رهينة متغيّرات واضحة، أهمها طبيعة استجابة كوادر “العمال الكردستاني” وقيادته للمبادرة، وهناك مساعٍ بين ممثلي الإدارة الأميركية والفرنسية وإقليم كردستان و”قسد”، لإنجاز ذلك الإخراج.
لن يُطبّق الحل النهائي خلال أيام قليلة، ويبقى السؤال الأهم هل ستتمكّن “قسد” من الحفاظ على وضعها الراهن، من حيث التسمية أو الهيكلية أو مناطق الانتشار والسيطرة، أو أن ارتدادات نتائج الرسالة والوضع السياسي والأمني والعسكري الجديد سيشملها أيضاً؟ خاصة وأن الضامن الأكبر لكل هذه العملية هو الإدارة الأميركية، وهذه الأخيرة تمتاز بصلابة موقفها تجاه مصير “قوات سورية الديمقراطية”.