fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

 هل تستطيع الدول العربية الغنيّة تجاهل أزمات جيرانها؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تلك البقعة التي تجمع بين الحلم والكابوس في آنٍ واحد. تتراكم ثروات الأثرياء كأبراج من ذهب، بينما يكافح الباقون للبقاء على قيد الحياة وسط صدمات لا تنتهي، كأن الحياة نفسها تتآمر عليهم.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في هذا الركن المعتم من العالم، في منطقتنا العربية، حيث تبدو المدن الزجاجية كالأشباح، ترتفع ناطحات السحاب كالأصابع المتهمّمة نحو السماء، تهرب من أرض محروقة. هنا، الدول تغرق في ثروات لا تنتهي، البترول ينساب كالنهر في عروق الاقتصاد، تمسك بزمام صناديق الاستثمار الكبرى، تبني مدناً حديثة وتتمتع بعلاقات سياسية وتجارية واسعة مع إسرائيل، بينما تُبنى جدران العزلة، ليس لتحمي، بل لتبعد الناظر عن فوضى العالم الآخر. ولكن، وراء هذه الحوائط، هناك أصوات لا تهدأ، أصوات تأتي من أرض محروقة، من دول غارقة في الخراب، أصوات القنابل تضرب الأرض وكأنها تدق ناقوس النهاية.

هنا، في عتمة ذلك الجانب الآخر، حيث الجوع هو القانون، والموت هو الحارس، لا يوجد مكان للهروب. الناس يكافحون للبقاء، يمدّون أيديهم نحو السماء، ليس ليمسكوا بها، بل ليتجنبوا السقوط. في هذه الفوضى، يترك الأغنياء جيرانهم يموتون ببطء، وكأن الموت حدث طبيعي، كما تغيب الشمس عن يوم مرهق. هل هذا قدرهم؟ أن يراقبوا، أن يغلقوا أعينهم، أن يصمّوا آذانهم؟

التفاوت الاقتصادي في الشرق الأوسط

منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واحدة من تلك البقع على الأرض التي تُلهم العقول وتُهلك الأرواح. وفقاً لتقرير مختبر اللامساواة العالمية  لعام 2022، تعدّ هذه المنطقة من بين الأكثر تفاوتاً اقتصادياً على الإطلاق. في عالمنا هنا، حيث تتجاور أعظم الثروات مع أعمق الفقر، تقف الدول الغنية مثل قطر والإمارات والسعودية في ترف مبالغ فيه، بينما تتحطم دول أخرى تحت وطأة الحروب والخراب — فلسطين، الصومال، السودان، اليمن. كأن كل دولة تعيش في فقاعة منفصلة، بعيدًا عن أوجاع الأخرى.

التباين هنا ليس مجرد فرق في الأرقام أو الإحصاءات؛ إنه فوضى قائمة، تفاوت صارخ يشبه جرحاً مفتوحاً يفسر كوارث كثيرة تعصف بحياة الملايين. ننظر حولنا، ونرى البلدان تتهاوى واحداً تلو الآخر. فلسطين، لبنان، اليمن، سوريا، السودان، ليبيا، حتى العراق ومصر وتونس، كلها غارقة في الفوضى، في دوامة لا تنتهي من النزاعات المسلحة والاقتصاد الممزق. على الجانب الآخر، تنعم السعودية والإمارات والكويت وقطر وسلطنة عمان بالرخاء، كأنها تعيش على كوكب آخر، حيث المال يتدفق بلا توقف، والمليارديرات ينعمون بحياتهم من دون اكتراث لمن حولهم.

إنه عالم مقسوم نصفين: نصف غارق في البؤس، والنصف الآخر محلّق فوق السحاب. هذه الدول الغنية، التي تتربع على عروشها من ذهب ونفط، لم تقدم شيئاً يذكر لتغيير مصير جيرانها الممزقين. وكأن الفقر والجوع والحرب مجرد خلفية مشوشة لا تليق بأن تُرى أو تُسمع، بينما يواصل الأثرياء بناء أبراجهم الزجاجية، يعيشون في واقع معزول، بعيدًا عن كل ما يحدث خلف الحوائط الشاهقة.

في هذا التباين الصارخ بين عواصم الأثرياء اللامعة، حيث ترتفع الأبراج الزجاجية، وبين المدن التي تأكلها الحروب والانهيارات، يطرح السؤال نفسه: هل هذه الدول الغنية في مأمن حقاً؟ هل يظنون أن هذا التفاوت الأمني والاقتصادي لن يولّد وحشاً؟ الواقع يصفعهم بالحقيقة: في هذا العالم، لا يمكنك أن تكون منعزلاً. ما يحدث في الأطراف يصل إلى المركز، بطريقة أو بأخرى. اللاجئون يعبرون الحدود، التوترات تتصاعد كالعواصف، التطرف ينمو في الظلال، والعنف يصبح لغة وحيدة. الدول العربية الغنية قد تظن أنها تستطيع بناء جدران من ذهب تعزلها عن فوضى العالم من حولها، ولكنها مخطئة. لأن في هذا العالم المتشابك، لا شيء يبقى في مكانه. الأزمات تزحف مثل أشباح ليلية، تطرق الأبواب حتى أكثر القصور تحصيناً، عدم الاستقرار والفقر في الجوار ليسا مجرد أخبار تسمعها من بعيد، بل هما كالنيران تحت الرماد، لا تهدأ حتى تحرق كل ما حولها.

أما الانكماش الاقتصادي في دول الجوار، فهو يضعف كل شيء. الأسواق التجارية، الاستثمارات، حتى فرص النمو. كل شيء يتباطأ، كأن الأزمات تشد الحبل حول عنق المنطقة بكاملها. ووسط هذه الفوضى الإنسانية، تقف المنظمات الإقليمية والدولية عاجزة. لا تستطيع وحدها حمل هذا العبء الثقيل. لأنه في النهاية، الأزمات لا تحترم الحدود، والأمان لا يُشترى بالمال فقط.

الجدران الزجاجية لا تحمي من النار

على الدول الغنيّة أن تدرك أن استثمارها في استقرار جيرانها وازدهارهم ليس عملاً خيرياً أو مجرد واجب أخلاقي. في هذا العالم، حيث تلتفّ خيوط الفوضى والخراب حول كل شيء، يكون الاستثمار في استقرار المحيط ضرورة استراتيجية، شرطاً لبقاء الأمن واستمرار النمو. لا يمكنك أن تظل محاطاً بالجدران الزجاجية، بينما النار تلتهم الأطراف. الدول العربية الغنية، تلك التي تعيش في رخاء كاذب، عليها أن تواجه الحقيقة: لا استقرار من دون استثمار في جيرانها. لا بد أن تكون لها مشاركة جدية في حل النزاعات بطرق دبلوماسية، ودعم مبادرات التنمية المستدامة، وتعزيز التعاون الاقتصادي الذي يفتح آفاقاً جديدة للجميع. 

قطر، على سبيل المثال، لم تقف موقف المتفرج في الحرب الأخيرة على غزة. لعبت دور الوسيط بين الولايات المتحدة والفصائل التي ترفض واشنطن التعامل معها. ولكن حتى تلك الوساطة تعرضت للنقد. في عالمٍ تمزقه المصالح، لكل دور ثمن. أعضاء الكونغرس الأميركي، في سعادتهم الضيقة، قدموا مشروع قانون لمراجعة وضع قطركحليف رئيسي خارج الناتو، مشيرين إلى علاقاتها مع حماس وغيرها من الفصائل. وكأننا في لعبة شطرنج، كل خطوة محسوبة، وكل انتقاد يحمل في طياته أجندة خفية. في مواجهة هذه الانتقادات، أبدت قطر بعض التردد بشأن دورها المستمر. في نيسان/ أبريل، أعلن رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن قطر تجري “تقييماً شاملاً” لدورها في التوسط في محادثات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل. 

عُمان، على الجانب الآخر، حافظت على هدوئها المعتاد، تعمل في الظل. الوساطة التي تقوم بها،  على رغم سريتها، لم تحدث فرقاً كبيراً حتى الآن. الحقائق على الأرض تُظهر أن الكوارث الإقليمية لا تحتاج إلى وساطة صامتة، بل إلى أفعال حقيقية وقوية.  أما السعودية، فتكتفي بتنظيم القمم وإصدار البيانات الرنانة عن فلسطين. تصريحاتهم الأخيرة عن التزامهم بإقامة دولة فلسطينية وأنهم لن يطبعوا العلاقات مع إسرائيل حتى يتم إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لم تغير الكثير من الواقع. في الوقت ذاته، الإمارات تتطلع إلى المستقبل، محاولة استغلال علاقتها مع إسرائيل للعب دور في الوضع الفلسطيني.

إسرائيل، بقيادة نتانياهو، أعلنت في أيار/ مايو 2024 خطة جديدة بعد الحرب على غزة، تتضمن إبقاء القطاع تحت الاحتلال، ولكن بإشراف تحالف عربي يشمل الإمارات، السعودية، مصر، البحرين، الأردن والمغرب. وبينما ترفض الإمارات المشاركة في إعادة إعمار غزة من دون إقامة دولة فلسطينية، إلا أنها تدعم بقوة بعثة دولية لمعالجة الأزمة الإنسانية التي خلفتها الحرب.

الكويت، التي كانت يوماً رمزاً للدبلوماسية الإقليمية بفضل أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، تقف الآن في ظل غياب كبير عن الساحة. منذ وفاة الأمير في أيلول/ سبتمبر 2020، تراجعت الكويت عن دورها التقليدي في المنطقة، وكأن العالم تغير من حولها، تاركاً إرث الدبلوماسية القديمة خلفه. 

ضرورة التعاون الإقليمي

الرسالة الأساسية واضحة كالشمس: التعاون والتكافل الإقليميان هما الحبل الوحيد الذي قد ينقذنا جميعاً من السقوط في هاوية الفوضى. أن تتجاهل معاناة جارك، أن تعتقد أن جدران الذهب والعزلة ستحميك من العاصفة، هو كأن تبني قصرك على رمال متحركة. الدول الغنية قد تعيش في وهم الأمان، لكن في عالم ينهشه الاضطراب، ليس بإمكان أي دولة أن تكون جزيرة منعزلة في بحر من الغليان.

السيادة الدولية للدول الفقيرة والمنكوبة لا تقل أهمية؛ فهي تحمل مسؤولية كبرى في إنقاذ نفسها والخروج من الفوضى التي تعيش فيها. لا أحد ينكر أن الحل يبدأ من الداخل، وأنه على هذه الدول أن تبني قدراتها وتواجه التحديات التي تقف في طريقها. لكن هذا المقال يسلط الضوء على دور الجيران، على تلك الدول التي تملك الثروة والقدرة على المساعدة. فالاستقرار لا يمكن أن يكون أحادي الجانب. التكافل والتعاون ليسا مجرد شعارات فارغة، بل هما الوسيلة الوحيدة لضمان مستقبل مشترك، أكثر استقراراً وازدهاراً.

السؤال الآن: هل نحن على استعداد لكسر هذه الأسوار التي نبنيها حول أنفسنا، لاتخاذ خطوات جادة نحو إصلاح العالم من حولنا؟ أم أننا سنظل نخدع أنفسنا بالاعتقاد أن العاصفة لن تصل إلينا، على رغم أنها على بعد خطوات؟.

سلطان الحسيني - كاتب لبناني | 13.06.2025

حرب السرديّات في لبنان: بين هيمنة حزب الله وإشكاليّة الهويّة الوطنيّة

لم يكن خيار الحرب مجرد خطوة ميدانية عسكرية لها آثارها المباشرة، بل كان أيضاً فعلًا رمزيًا بامتياز، يعيد رفع البنية المعرفية التي تنسج بها الأحزاب حضورها السياسي والثقافي في لبنان، ليصبح مادةً سجاليةً شديدة التوتر، تُظهر بوضوح طبيعة الصراع الذي يُدار في البلاد منذ عقود.

في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تلك البقعة التي تجمع بين الحلم والكابوس في آنٍ واحد. تتراكم ثروات الأثرياء كأبراج من ذهب، بينما يكافح الباقون للبقاء على قيد الحياة وسط صدمات لا تنتهي، كأن الحياة نفسها تتآمر عليهم.

في هذا الركن المعتم من العالم، في منطقتنا العربية، حيث تبدو المدن الزجاجية كالأشباح، ترتفع ناطحات السحاب كالأصابع المتهمّمة نحو السماء، تهرب من أرض محروقة. هنا، الدول تغرق في ثروات لا تنتهي، البترول ينساب كالنهر في عروق الاقتصاد، تمسك بزمام صناديق الاستثمار الكبرى، تبني مدناً حديثة وتتمتع بعلاقات سياسية وتجارية واسعة مع إسرائيل، بينما تُبنى جدران العزلة، ليس لتحمي، بل لتبعد الناظر عن فوضى العالم الآخر. ولكن، وراء هذه الحوائط، هناك أصوات لا تهدأ، أصوات تأتي من أرض محروقة، من دول غارقة في الخراب، أصوات القنابل تضرب الأرض وكأنها تدق ناقوس النهاية.

هنا، في عتمة ذلك الجانب الآخر، حيث الجوع هو القانون، والموت هو الحارس، لا يوجد مكان للهروب. الناس يكافحون للبقاء، يمدّون أيديهم نحو السماء، ليس ليمسكوا بها، بل ليتجنبوا السقوط. في هذه الفوضى، يترك الأغنياء جيرانهم يموتون ببطء، وكأن الموت حدث طبيعي، كما تغيب الشمس عن يوم مرهق. هل هذا قدرهم؟ أن يراقبوا، أن يغلقوا أعينهم، أن يصمّوا آذانهم؟

التفاوت الاقتصادي في الشرق الأوسط

منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واحدة من تلك البقع على الأرض التي تُلهم العقول وتُهلك الأرواح. وفقاً لتقرير مختبر اللامساواة العالمية  لعام 2022، تعدّ هذه المنطقة من بين الأكثر تفاوتاً اقتصادياً على الإطلاق. في عالمنا هنا، حيث تتجاور أعظم الثروات مع أعمق الفقر، تقف الدول الغنية مثل قطر والإمارات والسعودية في ترف مبالغ فيه، بينما تتحطم دول أخرى تحت وطأة الحروب والخراب — فلسطين، الصومال، السودان، اليمن. كأن كل دولة تعيش في فقاعة منفصلة، بعيدًا عن أوجاع الأخرى.

التباين هنا ليس مجرد فرق في الأرقام أو الإحصاءات؛ إنه فوضى قائمة، تفاوت صارخ يشبه جرحاً مفتوحاً يفسر كوارث كثيرة تعصف بحياة الملايين. ننظر حولنا، ونرى البلدان تتهاوى واحداً تلو الآخر. فلسطين، لبنان، اليمن، سوريا، السودان، ليبيا، حتى العراق ومصر وتونس، كلها غارقة في الفوضى، في دوامة لا تنتهي من النزاعات المسلحة والاقتصاد الممزق. على الجانب الآخر، تنعم السعودية والإمارات والكويت وقطر وسلطنة عمان بالرخاء، كأنها تعيش على كوكب آخر، حيث المال يتدفق بلا توقف، والمليارديرات ينعمون بحياتهم من دون اكتراث لمن حولهم.

إنه عالم مقسوم نصفين: نصف غارق في البؤس، والنصف الآخر محلّق فوق السحاب. هذه الدول الغنية، التي تتربع على عروشها من ذهب ونفط، لم تقدم شيئاً يذكر لتغيير مصير جيرانها الممزقين. وكأن الفقر والجوع والحرب مجرد خلفية مشوشة لا تليق بأن تُرى أو تُسمع، بينما يواصل الأثرياء بناء أبراجهم الزجاجية، يعيشون في واقع معزول، بعيدًا عن كل ما يحدث خلف الحوائط الشاهقة.

في هذا التباين الصارخ بين عواصم الأثرياء اللامعة، حيث ترتفع الأبراج الزجاجية، وبين المدن التي تأكلها الحروب والانهيارات، يطرح السؤال نفسه: هل هذه الدول الغنية في مأمن حقاً؟ هل يظنون أن هذا التفاوت الأمني والاقتصادي لن يولّد وحشاً؟ الواقع يصفعهم بالحقيقة: في هذا العالم، لا يمكنك أن تكون منعزلاً. ما يحدث في الأطراف يصل إلى المركز، بطريقة أو بأخرى. اللاجئون يعبرون الحدود، التوترات تتصاعد كالعواصف، التطرف ينمو في الظلال، والعنف يصبح لغة وحيدة. الدول العربية الغنية قد تظن أنها تستطيع بناء جدران من ذهب تعزلها عن فوضى العالم من حولها، ولكنها مخطئة. لأن في هذا العالم المتشابك، لا شيء يبقى في مكانه. الأزمات تزحف مثل أشباح ليلية، تطرق الأبواب حتى أكثر القصور تحصيناً، عدم الاستقرار والفقر في الجوار ليسا مجرد أخبار تسمعها من بعيد، بل هما كالنيران تحت الرماد، لا تهدأ حتى تحرق كل ما حولها.

أما الانكماش الاقتصادي في دول الجوار، فهو يضعف كل شيء. الأسواق التجارية، الاستثمارات، حتى فرص النمو. كل شيء يتباطأ، كأن الأزمات تشد الحبل حول عنق المنطقة بكاملها. ووسط هذه الفوضى الإنسانية، تقف المنظمات الإقليمية والدولية عاجزة. لا تستطيع وحدها حمل هذا العبء الثقيل. لأنه في النهاية، الأزمات لا تحترم الحدود، والأمان لا يُشترى بالمال فقط.

الجدران الزجاجية لا تحمي من النار

على الدول الغنيّة أن تدرك أن استثمارها في استقرار جيرانها وازدهارهم ليس عملاً خيرياً أو مجرد واجب أخلاقي. في هذا العالم، حيث تلتفّ خيوط الفوضى والخراب حول كل شيء، يكون الاستثمار في استقرار المحيط ضرورة استراتيجية، شرطاً لبقاء الأمن واستمرار النمو. لا يمكنك أن تظل محاطاً بالجدران الزجاجية، بينما النار تلتهم الأطراف. الدول العربية الغنية، تلك التي تعيش في رخاء كاذب، عليها أن تواجه الحقيقة: لا استقرار من دون استثمار في جيرانها. لا بد أن تكون لها مشاركة جدية في حل النزاعات بطرق دبلوماسية، ودعم مبادرات التنمية المستدامة، وتعزيز التعاون الاقتصادي الذي يفتح آفاقاً جديدة للجميع. 

قطر، على سبيل المثال، لم تقف موقف المتفرج في الحرب الأخيرة على غزة. لعبت دور الوسيط بين الولايات المتحدة والفصائل التي ترفض واشنطن التعامل معها. ولكن حتى تلك الوساطة تعرضت للنقد. في عالمٍ تمزقه المصالح، لكل دور ثمن. أعضاء الكونغرس الأميركي، في سعادتهم الضيقة، قدموا مشروع قانون لمراجعة وضع قطركحليف رئيسي خارج الناتو، مشيرين إلى علاقاتها مع حماس وغيرها من الفصائل. وكأننا في لعبة شطرنج، كل خطوة محسوبة، وكل انتقاد يحمل في طياته أجندة خفية. في مواجهة هذه الانتقادات، أبدت قطر بعض التردد بشأن دورها المستمر. في نيسان/ أبريل، أعلن رئيس الوزراء ووزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن قطر تجري “تقييماً شاملاً” لدورها في التوسط في محادثات وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل. 

عُمان، على الجانب الآخر، حافظت على هدوئها المعتاد، تعمل في الظل. الوساطة التي تقوم بها،  على رغم سريتها، لم تحدث فرقاً كبيراً حتى الآن. الحقائق على الأرض تُظهر أن الكوارث الإقليمية لا تحتاج إلى وساطة صامتة، بل إلى أفعال حقيقية وقوية.  أما السعودية، فتكتفي بتنظيم القمم وإصدار البيانات الرنانة عن فلسطين. تصريحاتهم الأخيرة عن التزامهم بإقامة دولة فلسطينية وأنهم لن يطبعوا العلاقات مع إسرائيل حتى يتم إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، لم تغير الكثير من الواقع. في الوقت ذاته، الإمارات تتطلع إلى المستقبل، محاولة استغلال علاقتها مع إسرائيل للعب دور في الوضع الفلسطيني.

إسرائيل، بقيادة نتانياهو، أعلنت في أيار/ مايو 2024 خطة جديدة بعد الحرب على غزة، تتضمن إبقاء القطاع تحت الاحتلال، ولكن بإشراف تحالف عربي يشمل الإمارات، السعودية، مصر، البحرين، الأردن والمغرب. وبينما ترفض الإمارات المشاركة في إعادة إعمار غزة من دون إقامة دولة فلسطينية، إلا أنها تدعم بقوة بعثة دولية لمعالجة الأزمة الإنسانية التي خلفتها الحرب.

الكويت، التي كانت يوماً رمزاً للدبلوماسية الإقليمية بفضل أميرها الراحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، تقف الآن في ظل غياب كبير عن الساحة. منذ وفاة الأمير في أيلول/ سبتمبر 2020، تراجعت الكويت عن دورها التقليدي في المنطقة، وكأن العالم تغير من حولها، تاركاً إرث الدبلوماسية القديمة خلفه. 

ضرورة التعاون الإقليمي

الرسالة الأساسية واضحة كالشمس: التعاون والتكافل الإقليميان هما الحبل الوحيد الذي قد ينقذنا جميعاً من السقوط في هاوية الفوضى. أن تتجاهل معاناة جارك، أن تعتقد أن جدران الذهب والعزلة ستحميك من العاصفة، هو كأن تبني قصرك على رمال متحركة. الدول الغنية قد تعيش في وهم الأمان، لكن في عالم ينهشه الاضطراب، ليس بإمكان أي دولة أن تكون جزيرة منعزلة في بحر من الغليان.

السيادة الدولية للدول الفقيرة والمنكوبة لا تقل أهمية؛ فهي تحمل مسؤولية كبرى في إنقاذ نفسها والخروج من الفوضى التي تعيش فيها. لا أحد ينكر أن الحل يبدأ من الداخل، وأنه على هذه الدول أن تبني قدراتها وتواجه التحديات التي تقف في طريقها. لكن هذا المقال يسلط الضوء على دور الجيران، على تلك الدول التي تملك الثروة والقدرة على المساعدة. فالاستقرار لا يمكن أن يكون أحادي الجانب. التكافل والتعاون ليسا مجرد شعارات فارغة، بل هما الوسيلة الوحيدة لضمان مستقبل مشترك، أكثر استقراراً وازدهاراً.

السؤال الآن: هل نحن على استعداد لكسر هذه الأسوار التي نبنيها حول أنفسنا، لاتخاذ خطوات جادة نحو إصلاح العالم من حولنا؟ أم أننا سنظل نخدع أنفسنا بالاعتقاد أن العاصفة لن تصل إلينا، على رغم أنها على بعد خطوات؟.