الولايات المتحدة الأميركية ليست هي نفسها في ظل هذا العدوان، فحرص واشنطن على أن تكون وسيطاً “محايداً” كان واضحاً في التصريحات الأميركية، والرئيس الأميركي جو بايدن أجرى اتصالين هاتفيين، الأول مع بنيامين نتانياهو والثاني مع أبو مازن، وأكد فيهما “تفهم واشنطن لدفاع إسرائيل عن أمنها، لكن تمسكها بكرامة الفلسطينيين وبحقهم بدولة مستقلة”. لكن في مقابل ذلك كانت المواقف الأوروبية أكثر تحفظاً من موقف الولايات المتحدة، فالمانيا اعتبرت أن قصف تل أبيب عملاً ارهابياً، وفرنسا تفهمت ما اعتبرته حاجة إسرائيل لحماية أمنها ومنعت تظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، وفيينا رفعت العلم الإسرائيلي تضامناً مع إسرائيل! وطبعاً أعقبت هذه المخاوف إدانات حذرة لقصف المدنيين في غزة. ورأى الاتحاد الاوروبي أن ما تقوم به اسرائيل هو “دفاع عن النفس”.
انقضاء الزمن الترامبي لم يسعف نتانياهو، وهو أصلاً باشر بالتصعيد في غزة على وقع شعوره بالقلق جراء ما يجري من مفاوضات في فيينا بين الأميركيين والإيرانيين. والأرجح أن التحول في الموقف الأميركي هو بداية علاقة مختلفة بين تل أبيب وواشنطن. فالأخيرة باشرت حملة “تعزيل” ما خلفه الرئيس السابق، وإذا ما أتيح لها أن تطيح بنتانياهو، فتكون قد نجحت بإزالة أبرز الوجوه غير الأميركية للزمن الترامبي. ومستقبل نتانياهو السياسي مرتبط إلى حد كبير بنتائج الحرب التي يخوضها في غزة اليوم. اذاً المهمة الأميركية اليوم هي ان لا يشعر نتانياهو بأن ثمة غطاء غربياً لحملته على القطاع. حياد واشنطن النسبي هذه المرة لن يلبي نتانياهو، وسيرتد عليه سواء في تشكيل الحكومة أو في الانتخابات في حال قرر الكنيست حل نفسه مرة جديدة.
البرودة في واشنطن حيال التصعيد الإسرائيلي تشي بأن الاستعصاء أمر غير مزعج لواشنطن، وأن ثمة رجلاً يجب أن يغادر. ربما!
أوروبا أقل حساسية من واشنطن حيال ما مثلته حقبة ترامب من ارتدادات. موقفها اليوم من الحرب هو امتداد لمواقفها التقليدية من النزاع في المنطقة. قصف تل أبيب فرض عليها عودة إلى حساباتها الأصلية حيال إسرائيل. ألمانيا وفرنسا والتزاماتهما حيال “حق اليهود الناجين في دولة آمنة”، في مقابل حساسية أقل تجاه سلامة المدنيين الفلسطينيين.
لكن ثمة متغير ثالث لا بد من رصده في هذا السياق، وهو الموقف الرسمي المصري، الذي بدا هذه المرة أكثر انحيازاً لغزة من المرات السابقة، وأكثر تخففاً من لغة الوسيط المحايد الذي شهدناه أثناء الاجتياحات السابقة. فتحت القاهرة الحدود مع رفح لاستقبال الجرحى من دون شروط، لا بل نظمت عملية تطوع لمئات الأطباء للتوجه إلى غزة والمشاركة في إسعاف الجرحى هناك. طبعاً جرى ذلك في ظل انفراج في العلاقات مع أنقرة، راعية حماس، لكن أيضاً في ظل عدم ارتياح مصري وأردني من اتفاقيات ابراهام التي تجاوزها أطرافها سواء كان نتانياهو أو حكام الإمارات والبحرين.
ربما مثلت الحرب في غزة نهاية بنيامين نتانياهو، طالما أن “الانتخابات الرابعة” لم تنجح بالإطاحة به على رغم أنها لم تعطه أكثرية تخوله تشكيل حكومة. فرئيس الحكومة الإسرائيلية لم يؤمن طريق العودة لنفسه بعد فشل ترامب. ذهب معه إلى النهاية. صفقة القرن ليست متداداً لـ”السلام” الذي كانت واشنطن بدأت برعايته منذ كامب ديفيد، وما خلفته الصفقة على ضفتيها من ضحايا لا يمكن التعامل معه بوصفه أمراً انقضى مع مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض. ثمة وكلاء للرجل لا يمكن تجاوز المرحلة من دون مغادرتهم. الأرجح أن نتانياهو على رأسهم.
في المقابل، ثمة استعصاء ميداني على الجبهة. نتانياهو سيستمر بالحملة العسكرية الشرسة من دون أفق لـ”انجاز ميداني”. فقط مزيد من الضحايا المدنيين، وعجز عن ضبط ردود حماس الصاروخية التي وصلت إلى تل أبيب. لطالما أطاح هذا النوع من الحروب برؤساء حكومات في تل أبيب.
البرودة في واشنطن حيال التصعيد الإسرائيلي تشي بأن الاستعصاء أمر غير مزعج لواشنطن، وأن ثمة رجلاً يجب أن يغادر. ربما!
إقرأوا أيضاً: