فيما كان البابا تواضروس، بابا الكنيسة المرقسية، يستقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في كاتدرائية ميلاد المسيح بالعاصمة الإدارية، كان ريمون عبد الملاك، أحد أبناء قرية منشية زعفران، يعيش ليلة من الرعب بعد حريق متطرفين خيمة الصلاة المقامة في القرية لمناسبة قداس عيد الميلاد، حيث يقام كل عام، بعد إغلاق الأمن مبنى الصلاة التابع لأبرشية المنيا وأبو قرقاص بسبب اعتراض المسلمين من أهل القرية.
يقول عبد الملاك لـ “درج”، “قبل القداس، فوجئنا بعدد من المتطرفين، الذين طردوا الكهنة والشمامسة والموجودين الباقين قبل أن يشعلوا النار في الخيمة باستخدام زجاجات حارقة وسط هتافات معادية للأقباط والكنيسة، وزغاريد النساء”.
ما يؤلم عبد الملاك ليس فقط تحوّل ليلة العيد التى تمثل الأمل بميلاد النور وسط الظلام، إلى ليلة من الرعب والخوف فقط، وإنما أيضاً جيرانه وأصدقاءه الذين حسب قوله “وقفوا يهتفون ويهللون لرعبنا، ويتهموننا بالكفر بدلاً من أن يهنئونا بالعيد كما نفعل نحن”.
لم يكن الحادث هو الأول من نوعه في قرية منشية زعفران التي تقع على بعد 5 كيلومترات من قرية الفكرية في محافظة المنيا المصرية، ففي كانون الثاني/ يناير عام 2019، فوجئ أقباط القرية التي لا تحوي سوي كنيسة واحدة تتبع للطائفة الإنجيلية، بتجمهر حوالى ألف من مسلمي القرية أمام مبنى مملوك للأبرشيّة كان يُستخدم للصلاة.
يرجّح أن هذا التجمهر جاء نتيجة تحريض ضد الكنيسة بعد رؤية الكهنة يدخلون إلى المبنى في ليلة قداس الميلاد السابقة للواقعة بـ 4 أيام فقط، وبدلاً من أن يحمي الأمن المبنى قام بإغلاقه وأخرج الكهنة منه.
يقول عبد الملاك، “الأيام تعيد بعضها، لم يختلف المشهد ليلة القداس عن المشهد قبل أربع سنوات، وقف الأشخاص أنفسهم أمام مبنى الصلاة ليمنعونا من الصلاة، على رغم عدم وجود كنيسة في القرية، ولا أعرف ما الذي يؤلم أهل القرية إذا صلّينا؟ ما الضرر الذي يمكن أن يقع عليهم من إقامة كنيسة أو مبنى للصلاة؟ بعضهم يقول إن هناك كنيسة في القرية، ولكنهم لا يفهمون أنها كنيسة لا تتبع لطائفتي، وبالتالي لا يمكننا الصلاة فيها، وبدلاً من أن تحمينا الدولة، فإنها تقف مع المتشددين، وكأننا مواطنون درجة عاشرة”.
حاولنا التواصل مع الأنبا فلوباتير، أسقف أبو قرقاص وتوابعها، من دون جدوى، إلا أن المركز الإعلامي للأبرشيّة نشر بياناً اعتذر فيه الأسقف عن استقبال تهاني عيد الميلاد بعد أحداث قرية منشية زعفران.
اشتباكات لمدة 3 أيام
منذ 2019، يدّعي مسلمو قرية منشية زعفران بأن مبنى الصلاة هو كنيسة غير مرخصة، وأن المسيحيين في القرية ليس لديهم الحق في إقامة كنيسة في القرية. ولكن الحال تختلف في قرية العزيب التابعة لمركز سمالوط بالمنيا، فعلى مدار سنوات لم تكن في القرية أي كنيسة، على رغم عدد المسيحيين في القرية الذي يقدَّر بحوالى 3 الآف مسيحي بحسب مواقع مسيحية.
كان المسيحيون في القرية يضطرون إلى قطع كيلومترات عدة للصلاة في كنائس القرى المجاورة، قبل أن يحصلوا قبل 4 أشهر على تصريح بإقامة كنيسة على مساحة 500 متر، ولكن مع وضع الأساسات بدأت المناوشات داخل القرية.
“حصلت اشتباكات على مدار ثلاثة أيام”، بهذه العبارة بدأ عطاالله حنا حديثه مع “درج” قائلاً: “في اليوم الأول، كان العمال يحفرون الأساسات للكنيسة، فحدثت مناوشات، وأُلقيت زجاجات “مولوتوف” على منزل أحد الأقباط، لم تكن هناك خسائر في الأرواح، وإنما اقتصرت الأضرار على المواشي، إذ فُقد رأسان من الماشية في الحريق. تدخّل الأمن وعاد الهدوء الى القرية”.
توقف العمل في بناء الكنيسة في اليوم التالي، لذلك توقفت المناوشات، ومع استئناف العمل في اليوم الثالث عادت المناوشات مرة أخرى، وألقيت الحجارة وزجاجات المولوتوف على عدد من بيوت الأقباط، ما تسبّب في حرائق محدودة فيها.
بحسب عطاالله، فإن القرية لا تضمّ أي كنيسة منذ زمن طويل، ويتوزّع أهلها خلال القداسات المختلفة بين كنائس القرى أو الأبرشيّة، لذلك فإن وجود كنيسة فيها أمر ضروري، بخاصة أن عدد الأقباط فيها ليس قليلاً.
بحسب “خريطة الحريات الدينية في مصر” الصادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فإن المنيا وحدها حصدت 53 حادث عنف طائفي واستهداف على أساس الهوية الدينية في الفترة من 2017 حتى 2022. وفي تقرير سابق للمبادرة، شهدت المحافظة 77 حادثاً خلال الفترة من ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 وحتى عام 2016، وهو ما يجعلها تتصدر حوادث العنف الطائفي.
الحاجة إلى الخدمات الكنسيّة
يقول اسحق ابراهيم، مسؤول ملف الحريات الدينية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، “المنيا هي أكثر المحافظات كثافةً من حيث عدد الأقباط، ما يزيد من حاجتهم الى الخدمات الكنسية، التي تعدّ السبب الأول لحوادث العنف الطائفي، إذ تعود غالبية الحوادث الى تحريض متطرفين ضد بناء الكنائس، لذلك فإن المنيا هي على رأس المحافظات التي تشهد حوادث عنف طائفي”.
ونتيجة للكثافة القبطية في المحافظة، دائماً ما تسجَّل زيادة في حوادث العنف الطائفي بحسب اسحق، الذي يُرجع ذلك الى “الإحساس بالعزوة” الذي يجعل الأقباط لا يهربون من المواجهة. بعكس محافظات وقرى أخرى ينخفض فيها تعداد الأقباط، حيث يتحاشون مواجهة المتطرفين أو أي مشكلة مع أي طرف مسلم نظراً الى أنهم أقلية.
ما قاله إسحاق يتفق مع تصريحات صحافية سابقة للأنبا مكاريوس، أسقف المنيا وتوابعها، والتي قدّر فيها عدد الأقباط في محافظة المنيا بحوالى مليونين من أصل 5.6 مليون نسمة، هم تعداد سكان المحافظة، وهو ما جعل للمحافظة النصيب الأكبر من أحداث العنف التى تلت فض رابعة، إذ تم حرق 16 كنيسة و4 مدارس قبطية فى ست مراكز من أصل 12 مركزاً في المحافظة، الى جانب مئات المنازل و المحال التجارية المملوكة لمسيحيين، وقد بلغت الخسائر 121 مليون جنيه وفقاً لتصريح محافظ المنيا حينها.
الفقر أيضاً هو جزء من أزمة المنيا الطائفية، بحسب اسحق، لأنه يشكّل بيئة خصبة لانتشار المتطرفين الذي يروجون للفقراء أن ما يعيشونه من حياة هو مجرد مرحلة، وأن استجابتهم لأفكارهم تضمن لهم مصيراً أفضل في الحياة الآخرة.
تحتل المنيا المركز الثاني بين المحافظات المصرية من حيث نسبة عدد الفقراء، والتي تزيد عن 54 في المئة بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فيما تحتل أسيوط المركز الأول بنسبة تزيد عن 66 في المئة.
يقول اسحق، “يدفع الفقر السكان الى الهجرة بحثاً عن أسباب الرزق، لذلك تعد المنيا من أوائل المحافظات التى شهدت هجرة الى دول الخليج منذ السبعينات. وانقسم المهاجرون الى قسمين، الأول يمثل العمالة غير الماهرة مثل عمال البناء، وهم في غالبيتهم عمال أمّيون تأثروا بنمط الحياة المتطرف والوهابية، والثاني يشمل المدرّسين”.
يذكر اسحق سبباً آخر لزيادة العنف الطائفي في المنيا، وهو أن المحافظة شكلت في السبعينات والثمانينات تربة خصبة للجماعات الإسلامية، التى هي نفسها اغتالت الرئيس محمد أنور السادات ورفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب السابق. ولاحقاً، أسست قيادات هذه الجماعات حزب البناء والتنمية.
إضافة الى ذلك كله، يلفت اسحق الى غياب الخدمات الأساسية في المنيا مثل الصحة والتعليم، ما استدعى وجود من يملأ الفراغ الذي تركته الدولة، ألا وهي الجمعيات الخيرية الإسلامية، مثل الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة المحمدية، والتي تقدم خدمات مثل الحضانات والمستوصفات والمدارس والمساعدات الاجتماعية، وتغذي في المقابل رؤية متطرفة للدين ترى الآخر مواطناً درجة عاشرة.
“يُنظر الى حقوق الأقباط الطبيعية من بناء كنائس أو التعبير عن هويتهم الدينية، باعتبارها تعدياً منهم على المسلمين. لم تواجَه هذه الثقافة من الدولة حتى الآن، فلا برامج حكومية لمحاربتها، أو عمل حقيقي ضد الخطاب الديني السائد في هذه الأقاليم”.
اشتباكات بسبب “تسلم الأيادي”
في عام 2013، شهدت قرية بني عبيد الشرقية أحداث عنف طائفي قبيل فض رابعة بسبب نغمة هاتف محمول يعود الى أحد سكان القرية المسيحيين، والنغمة كانت عبارة عن أغنية “تسلم الأيادي”، التى استفزت أحد سكان القرية المسلمين أثناء مرور مسيرة مؤيدة لحكم الإخوان المسلمين، فانتهى الأمر باشتباكات طائفية أسفرت عن إصابة عدد من المواطنين الأقباط وحرق عدد من ممتلكاتهم.
نزيه حنا شاروبيم، واحد من أصحاب المنازل التي تم الاعتداء عليها، إذ تمت سرقة محل الحدايد والبويات الموجود في منزله بالإضافة إلى اشتعال النار في أجزاء منه.
يقول شاروبيم ،” اللي كانوا بيسرقوا المحل بيعدوا علي كل يوم، ويسلموا علي ولا كأنهم عملوا حاجة”. ويضيف، “ما يحزنني أكثر أن من قاموا بذلك هم جيراني، الذين يعتقدون أن أموالي غنيمة حلال لهم لاختلافي معهم في الدين”، مشيراً الى أن غالبية من تم الاعتداء عليهم ليست لهم علاقة بالمشكلة الأساسية، ولكن لكونهم مسيحيين فهذا يجعل كل المسيحيين في مرمى النار.
يتابع شاروبيم، يقتصر دور الأجهزة الأمنية على إنهاء الاشتباكات وليس حل الأزمة، إذ تلقي القبض على عدد من الطرفين مخيّرة إياهم بين حبس ذويهم أو التنازل عن المحاضر، لافتاً إلى أن الشرطة طلبت منه حينها التنازل عن المحاضر رغم تسميته عدداً من المتهمين، “بالتالي فإن عدم المحاسبة جعل الحوادث تتكرر بشكل يومي”.
للجمعية الشرعية يد في كل ما يحدث، يقول شاروبيم مستطرداً: “الجمعية الشرعية تستخدم أموالها لتحقيق أهداف خاصة، منها تمويل الاعتداءات على الاقباط. كما أحضرت أوتوبيسات لحشد المسلمين في التظاهرات وأحداث العنف التي أعقبت 30 حزيران/ يونيو، وهم يعتقدون أنهم بذلك ينصرون الإسلام ويحشدون المسلمين ضد جيرانهم”.
“ثقافة معاداة المسيحييّن”
“لا يمكن ذكر أسباب محدّدة لارتفاع نسبة العنف الطائفي في المنيا مقارنة بباقي المحافظات”، وفق ما صرح به خبير شؤون الأقليات مينا ثابت لـ”درج”. فالتركيب السكاني للمنيا وطبيعة العلاقات داخل المجتمع، هما من الأسباب التى يمكن أخذها في الاعتبار بحسب ثابت، إذ تضم المنيا قرى كاملة من الأقباط، وتعدادهم كبير، ما يعني حوادث عنف أكثر، كما كانت الحال في السبعينات في محافظة أسيوط، التى كانت تضم كتلة مسيحية كبيرة.
يشير ثابت الى انتشار ثقافة معاداة المسيحيين أو خطاب الكراهية في المنيا، وهي ثقافة موجودة في كل محافظات مصر، تدعم فكرة السيادة ومنح الأفضلية للمسلمين، وأن الأقباط ليست لهم حقوق متساوية مع المسلمين.
يضيف ثابت: “يُنظر الى حقوق الأقباط الطبيعية من بناء كنائس أو التعبير عن هويتهم الدينية، باعتبارها تعدياً منهم على المسلمين. لم تواجَه هذه الثقافة من الدولة حتى الآن، فلا برامج حكومية لمحاربتها، أو عمل حقيقي ضد الخطاب الديني السائد في هذه الأقاليم”.
يعتبر ثابت أن العنف الطائفي ليس حكراً على المنيا فقط، ففي عام 2013 شهدت مصر هجوماً طائفياً كبيراً في محافظات كثيرة فيها وجود مسيحي، ويدعم هذا العنف تعامل الدولة مع حق المسيحيين في ممارسة شعائرهم الدينية. فعلى مدار عقود، استخدمت الدولة ممارسة الأقباط الشعائر الدينية كورقة ضغط وتفاوض مع الكنيسة، ما حوّل الصلاة وممارسة الشعائر الدينية الى أمر أمني ولا بد من موافقة السلطات عليه، وهو ما يُخرج الأقباط من إطار المواطنين العاديين.
يرى ثابت أن تعامل الدولة مع العنف الطائفي يعد سبباً في استمراره، فالأمن لا يتعامل مع محاضر الأقباط في الاعتداءات بصورة طبيعية، أي القبض على المتهمين والتحقيق في القضايا، وإنما يضغط على الأقباط لقبول جلسات الصلح العرفي، التى عادة ما تكون مجحفة بحقهم. ففي جلسة من الجلسات تم الحكم على الأقباط بعدم الخروج من منازلهم لمدة أسبوعين، وهو ما يعطي حصانة لمرتكبي العنف الطائفي، ما يجعله يستمر لسنوات طويلة.