إنه الخبر الذي لطالما انتظره اللبنانيون: توقيف الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة. الاسم الأبرز، وليس الوحيد، في سلّم المسؤولية عن أكبر انهيار مصرفي في التاريخ، على ما وصفه الخبراء. حضر سلامة إلى قصر العدل وحيداً، ومن دون محامين، وهو ما أثار شكوكاً وتساؤلات، فأقدم مدعي عام التمييز القاضي جمال الحجار على توقيفه. علماً أن مصادر قضائية أكدت أن توقيف سلامة تم بناء على التحقيقات بملف شركة “أوبتيموم” والعقود التي أبرمها مصرف لبنان بقيمة 8 مليارات دولار. لكن الأخبار الجيدة تترافق دائماً مع شكوك، لا سيما إذا كان مصدرها القضاء في لبنان.
فقد صرّح مدعي عام التمييز جمال الحجار الذي أوقف سلامة، أنّ “الخطوة القضائية التي اتُّخذت بحق سلامة هي احتجاز احترازي ومفاعيلها تستمر لمدة أربعة أيام، على أن يحال في ما بعد من استئنافية بيروت إلى قاضي التحقيق الذي يستجوبه ويتخذ القرار القضائي المناسب بحقه، ومن ضمن هذه الإجراءات قد تكون هناك مذكرة توقيف وجاهية”.
لا بدّ من الإشارة إلى أن القاضي الحجار كان طلب الحصول على ملف “أوبتيموم” من النائبة العامة الإستئنافية في جبل لبنان، القاضية غادة عون، التي كانت تحقق في الملف. ومع ذلك، رفضت القاضية عون تسليم الملف فتم توقيفها عن العمل بالملف وصدر تعميم بمنع الضابطة العدلية. من جهته، قال حاكم مصرف لبنان بالإنابة، وسيم منصوري، إنه سلّم كل المعطيات إلى مدعي عام التمييز.
مسرحية قضائية أم تحقيق جدّي؟
“حضر سلامة اليوم لأنه يعلم أنه محمي. يوقفونه الآن للفت النظر وللإيحاء بأنهم يحققون، لكن في النهاية يطلَق سراحه بعد فترة توقيف احتياطي لأنهم لا يستطيعون توقيفه لمدة طويلة. ثم يحولونه إلى علي إبراهيم، الذي بدوره لن يوقفه. وهكذا يقولون إنهم حققوا مع رياض سلامة بملف “أوبتيموم” وتنتهي القضية هنا، لكن أين هي الأموال ومن استفاد منها؟ لن يعرف أحد”، بحسب ما صرّح مصدر قضائي لموقع “درج”. هذه الخطوة قد تعيق تحركاً قضائياً جديداً في الملف تحت إطار أن هناك ملاحقة سابقة، وذلك في حال لم تجد عون أشخاصاً جدداً تُلاحقهم في الملف.
اللافت أن رياض سلامة حضر الى قصر العدل من دون محامٍ، ما يثير التساؤلات حول حقيقة ما جرى. فهل نشهد فصلاً من مسرحية جديدة، أم أن القضاء بدأ فعلاً يأخذ مجراه في قضايا رياض سلامة والشبهات المالية التي تلاحقه؟
في هذا السياق، يرجّح مصدر قضائي لموقع “درج”، أنّ كلّ ما حصل ليس إلّا مسرحية لتبرئة سلامة، فقد جاء توقيفه قبل يومين من صدور قرار مجلس شورى الدولة بالطعن الذي كانت قدّمته القاضية غادة عون بخصوص توقيفها عن العمل بالملف. كما يرجّح المصدر القضائي أنّ توقيت توقيف سلامة يرتبط ارتباطاً وثيقاً باحتمال عودة عون إلى العمل على الملف. ومن المرجّح أنّ هذا التوقيف هو لذرّ الرماد في العيون، وهدفه التحقيق الشكلي بقضية “أوبتيموم” والـ 8 مليارات دولار المفقودة، وإحالة سلامة بعدها إلى المدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم وتبرئته في ما بعد.
هل يثق ميقاتي فعلاً بالقضاء؟
أفاد مصدر قضائي آخر لموقع “درج”، بأنه من المرجّح أن تتم تبرئة رياض سلامة ببند مرور الزمن، الذي قد يؤدي إلى سقوط التهم. واستغرب المصدر القضائي نفسه تصريح رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بأنه يثق في القضاء، ما يعني ثقته أيضاً في عملية توقيف سلامة وفي إمكانية تبرئته إذا حصلت. فميقاتي اعتبر أن الموضوع قضائي ولن يتم التدخل فيه، وهو تحوّل كبير في تعاطيه مع الموضوع مقارنة بالمراحل الماضية.
من المثير للريبة أن رياض سلامة نُقل إلى سجن قوى الأمن الداخلي بعد توقيفه في قصر العدل، في حين جرت العادة أن يتم احتجاز المستجوبين في نظارة قصر العدل. وأشارت مصادر قضائية إلى أن عملية التوقيف بهذه الطريقة تثير الشكوك، ورجحت أن تتم تبرئة سلامة بمرور الزمن، بخاصة أن عمليات “أوبتيموم” تمت بين عامي 2015 و2018.
خلال تولّي القاضي جان طنّوس التحقيق بين نيسان/ أبريل 2021 وحزيران/ يونيو 2022، طلب من “الهيئة” رفع السرية المصرفية عن حسابات رجا سلامة، شقيق رياض سلامة، لتحديد المستفيدين من التحويلات العائدة الى شركة “فوري”، بحجة أن السرية المصرفية لا تنطبق على قضايا الإثراء غير المشروع.
لم تستجب الهيئة، ما دفع بطنوس آنذاك إلى مداهمة المصارف. تدخل يومها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي مهدداً بالاستقالة أو بإقالة المدعي العام غسان عويدات، إذا ما استمرت عملية المداهمة، متهماً القوى الأمنية المؤازرة لطنوس بالقيام “بما لم تقم به إسرائيل”. هكذا توقفت العملية وكُفت يد القاضي طنوس وبقيت سجلات الهيئة محميّة بالسرية المصرفية من جهة، والتدخل السياسي من جهة أخرى. فماذا تغيّر في تعاطي ميقاتي مع الملف هذه المرة؟
ردود فعل قانونية
تقول شانيز منسوس، مديرة الدعاوى القضائية في منظّمة “شيربا”، في مقابلة لـ”درج”، “بالنسبة الى شيربا، يُعتبر التطور الأخير في الإجراءات القضائية، الذي أدى إلى توقيف حاكم مصرف لبنان السابق، إشارة إيجابية قوية. نحن نأمل الآن بأن يساهم هذا في الإجراءات القانونية في فرنسا، وأن يؤدي في النهاية إلى تسليم رياض سلامة إلى فرنسا.
فيما صرّح المحامي الفرنسي إتيان أرنو، لموقع “درج”: “التوقيف من دون شك خطوة جيدة لأنها تدل على التعاون، ولكننا نحتفظ بشكوكنا بالنسبة الى الخطوات التالية، لأن لبنان غير معروف عنه تسليم المطلوبين من مواطنيه”.
أما المحامية زينة واكيم، مؤسسة منظمة Accountability Now، فقالت لـ”درج” إن هذا التوقيف سيعطي من دون شك، ثقلاً أكبر للتحقيق في لبنان على حساب التحقيقات الأوروبية. “السؤال الرئيسي هو أنه على الرغم من صدور مذكرتي توقيف من الإنتربول اللبناني السنة الماضية، لم يتحرك القضاء في لبنان ولم يوقف رياض سلامة سابقاً. علينا أن نأخذ بالاعتبار أنه من الممكن أن تكون السلطات اللبنانية راغبة في أن يتولى لبنان قيادة التحقيق، وهو ما يعطي لبنان الحق بالمطالبة باستعادة الأموال التي تم تجميدها، وهي نحو 250 مليون دولار. إذا تمت محاكمة لبناني في أي دولة حول أي قضية، تُمنع محاكمته بالقضية نفسها في أي دولة أخرى. بهذا المعنى، من الممكن أن تكون هذه محاولة من السلطات في لبنان لتعطيل التحقيق الأوروبي وحماية نفسها. في حال محاكمة رياض سلامة في بيروت، يتم توقيف التحقيق في فرنسا مثلًا إلى حين صدور حكم، ولكن لا يتم إغلاق الملف بشكل كامل”. وتضيف واكيم، “في حال محاكمة رياض سلامة في بيروت، يتم توقيف التحقيق في فرنسا مثلاً الى حين صدور حكم، ولكن لا يتم إغلاق الملف بشكل كامل”.
العمليات المشبوهة
لا بدّ من التذكير هنا، أنّ مصرف لبنان حقّق من عملياته مع “أوبتيموم” أرباحاً بقيمة 8 مليارات دولار مجهولة المصير. وفي هذا السياق يقول الخبير الاقتصادي توفيق كسبار لموقع “درج”: “تقرير كرول هو الأهم لأنه يظهر أن هناك عمليات داخلية قام بها مصرف لبنان من خلال “أوبتيموم”. وتتلخص هذه العمليات بأنها أتت بمبادرة من مصرف لبنان الذي حدد قيمتها وكل أسعار المبيع والشراء، والأرباح الناتجة منها، هذا كله تمّ من دون الرجوع إلى أي بيع أو شراء في الأسواق المالية، أو إلى أي سعر حسب السوق. وقد سُجّلت كل قيود هذه العمليات في مصرف لبنان فقط. وخلال بضعة أشهر، نتج من هذه العمليات ما يوازي 8 مليارات دولار أرباح في سجلات مصرف لبنان، ولم يُعرف كيف أنفقت هذه الأرباح أو في أي بند سُجّلت”. ويضيف كسبار، “هذه عمليات مشبوهة وتقارب الاحتيال، بخاصةً أن الذي قام بها هو مصرف مركزي… والآن المطلوب من الحاكمية الحالية لمصرف لبنان أن توضح هذه الأمور وتكشف مصير الـ 8 مليارات”.
لا بدّ من التذكير بأنّ “أوبتيموم” بإدارتها الجديدة كانت قد طلبت التدقيق الجنائي الطوعي في أيلول/ سبتمبر 2023، بحيث تم تعيين كروول لإجراء تدقيق جنائي لضمان نزاهة معاملات OI مع مصرف لبنان. مُنحت ISAC السلطة الكاملة لتجاوز الإدارة التنفيذية عند الحاجة.
بحسب أوبتيموم، “لم يجد التدقيق الجنائي أي دليل على ارتكاب مخالفات من قبل OI. كانت جميع الخدمات المقدمة لمصرف لبنان ضمن اختصاص OI، وتمت بناءً على طلب مصرف لبنان ووفقاً لشروطه. تؤكد كروول أن OI تواصل تحقيق أرباح تشغيلية رغم الأزمة المالية، وأن أكثر من 80 في المئة من أعمالها تأتي من معاملات دولية من دون أي أطراف لبنانية”. حاول موقع “درج” التواصل مع شركة أوبتيموم لكن لم يصلنا رد حتى لحظة النشر.
تفاصيل العمليات المالية المشبوهة
كشف تقرير كروول عن حساب مالي في مصرف لبنان كانت تُجرى من خلاله العمليات المالية المشبوهة التي كانت تقوم بها الشركة لصالح مصرف لبنان، لا سيما في فترة الهندسات المالية، والذي تضمّن نحو 8 مليارات دولار أميركي مجهولة المصير.
بالإضافة إلى الـ 8 مليارات دولار المشبوهة التي حققها المصرف بفعل عملياته مع أوبتيموم، فإن أحد أهم التفاصيل الأخرى هو أنّ إجمالي العمليات التي كُشف عنها بين مصرف لبنان وأوبتيموم هو 45 معاملة:
– عمليتان في تقرير شركة ألفاريز ومارسال.
– 43 عملية في تقرير كرول
– هذه العمليات تُعرف باسم “الصفقات الخاصة” وتمتد من كانون الثاني/ يناير 2015 حتى آذار/ مارس 2018.
-“الأرباح التي حققتها OI كرسوم وساطة في تلك “الصفقات الخاصة” كانت غير متسقة وأقل بكثير مما حققته في صفقات مشابهة، أي أقل من 0.25 في المئة رسوم وساطة في صفقات أخرى مع مصرف لبنان، بحسب تقرير كروول.
– إجمالي رسوم الوساطة التي حصلت عليها OI من 45 معاملة زادت عن 571 ألف دولار أميركي في الفترة نفسها من 2015 – 2018.
– رسوم الوساطة من الصفقتين في تقرير A&M كانت تزيد عن 11.5 ألف دولار أميركي.
الجدول الزمني
2004: تأسيس شركة أوبتيموم إنفست ش.م.ل (OI) بواسطة أنطوان سلامة.
2012: وسعت الشركة عملياتها لتصبح مؤسسة متكاملة تخضع لتنظيم مصرف لبنان (حيث قام مصرف لبنان بترقية ترخيص OI).
أوائل 2014: أول عمل من نوعه بين مصرف لبنان وشركة خاصة، إذ تولت OI مسؤولية ائتمانية لصالح مصرف لبنان.
2014: وسعت OI أنشطتها الاستثمارية لتشمل خدمات إدارة الأصول والثروات للعائلات ذات الثروات العالية والاستثمارات الخاصة، بالإضافة إلى خدمات الاستشارات المالية للشركات.
كانون الأول/ ديسمبر 2015: واحدة من الصفقتين بين OI ومصرف لبنان التي تم الإشارة إليها في تقرير A&M. 35 مليار ليرة لبنانية.
حزيران/ يونيو 2016: الصفقة الثانية بين OI ومصرف لبنان، التي تم الإشارة إليها في تقرير A&M (المبلغ سيتم تحديده لاحقاً من قبل الحاكم).
حزيران/ يونيو 2020: قام بنك المشرق للاستثمار ش.م.ل (LIBANK) بشراء 100% من الأسهم التي تملكها أوبتيموم غروب هولدينغ ش.م.ل.
2021 تم الاستحواذ على OI من LIBANK ش.م.ل (بنك المشرق للاستثمار) وبعد ذلك استقال أنطوان سلامة من منصبه كمدير تنفيذي ومساهم.
منذ 2021، نقلت OI عناصر من وظيفة الامتثال القانوني إلى الشركة الأم.
آب/ أغسطس 2023: تم ذكر OI بشكل سلبي في تقرير ألفاريز ومارسال (A&M) بشأن عمليتي وساطة مؤسسية دخلت فيها OI مع مصرف لبنان، مرتبطة بالاختلاس المزعوم لمبلغ 330 مليون دولار أميركي في رسوم الوساطة من رياض سلامة، بالإضافة إلى شركة فوري أسوشيتس ليمتد في جزر العذراء البريطانية.
(بين كانون الأول/ ديسمبر 2015 وحزيران/ يونيو 2016)
أيلول/سبتمبر 2023: تم الاحتفاظ بكروول من اللجنة المستقلة الخاصة بـ OI لمراجعة هذه الصفقات بشكل مستقل ومعالجة الادعاءات المتعلقة بنشاطها مع مصرف لبنان.
إقرأوا أيضاً: