في الأشهر الأخيرة، باتت الأخبار التي تتناول اعتقال، أو خطف أفراد من مجتمع الميم- عين في سوريا، تتكرّر بوتيرة مقلقة، وتُعرض على وسائل التواصل الاجتماعي كمشاهد إذلال جماعي، وبتواطؤ مجتمعي، وكأنما تنفّذ “عدالة الشارع” على مرأى الجميع. هذه الحوادث لم تأتِ من فراغ، بل تعكس تراكمات طويلة من الكراهية والوصم، غذّتها عقود من خطاب إعلامي ودرامي، قسّم السوريين إلى “أسوياء” و”منحرفين”، وجعل من المثلية الجنسية تهمة أخلاقية وجنائية في آن.
ولعبت الدراما السورية، باعتبارها واحدة من أبرز أدوات تشكيل الوعي الجمعي في المنطقة، دوراً خطيراً في ترسيخ هذه الصورة المشوّهة. فمنذ بداياتها، تعاملت مع المثليين إما كضحايا مضطربين نفسياً، وإما ككائنات هزلية تستحقّ السخرية، وإما كمنحرفين أخلاقياً يشكّلون تهديداً للمجتمع، ونادراً ما ظهرت شخصية مثلية باعتبارها فرداً طبيعياً، له مشاعر وتجارب إنسانية معقّدة مثل أي شخص آخر.
اليوم، في ظلّ تحوّلات سياسية واجتماعية عميقة داخل سوريا، يعود هذا الخطاب بصورة أكثر قسوة، لا سيما بعد سقوط النظام، إذ تتسابق أطراف متعدّدة لإعادة تشكيل قيم المجتمع السوري العامة، مستخدمة المثليين كبش فداء دائم.
في هذا السياق، يصبح من الضروري إعادة تفكيك الصورة التي صنعتها الدراما السورية عن المثليين عبر السنوات، لفهم كيف ساهم هذا الشكل الفنّي في تمهيد الطريق للعداء المجتمعي الحالي، وكيف تحوّل التمثيل على الشاشة إلى أداة قمع غير مباشرة، تُشرعن التمييز والعنف، وتمنح الغطاء الأخلاقي للتشهير والخطف والإذلال العلني.
ربما تكون معالجة الدراما السورية لموضوع المثلية الجنسية والهوّية الجندرية في السنوات الماضية، مثالاً لا يُوضح فقط كيف كانت المسلسلات المنتجَة في البلاد، مادّة شديدة المحافظة بالمعنى الثقافي والاجتماعي، بل أيضاً كيف كانت تروّج للأفكار النمطية المسبقة والمشوّهة برعاية السلطة التي كانت ترعى تلك الدراما كمنتَج رسمي أو شبه رسمي وبالاتّساق معها.
وعلى رغم أن الدراما السورية عتيقة، وتنتَج في البلاد منذ عقود، ويصفها جمهورها دائماً بأنها منفتحة، وتشكّل الوجه الجميل لسوريا، فإن هذا التعميم ناقص، لأنها لم تكن تقدّم أفكاراً تنويرية، بقدر ما كانت تروّج للسائد الأخلاقي والاجتماعي والثقافي. وفي قضية المثلية مثلاً، بوصفها قضية إنسانية قبل أن تكون حقوقية، كان المثليون يغيّبون أو يصوّرون كمرضى نفسيين أو منحرفين أخلاقيين، ناهيك بتبنّي الصورة النمطية عن المثليين، أي ما يُسمّى باللغة الدارجة “الطنط” أو اعتماد التأنيث بوصف المثلية انتقاصاً من الرجولة بصورة ما، لترسيخ الاختلاف الجندري بناء على أداء محدّد، حتى لو لم تُلفظ كلمة “مثلي” بوضوح إلا في حالات الإدانة والوصمة الأخلاقية.
وفي الأمثلة القليلة “الإيجابية”، كان عرض قضايا الهويّة الجندرية والمثلية الجنسية، يتّسم بالارتباك والتلميح من دون تصريح، ومن “أشواك ناعمة” (2005) إلى “تحت سابع أرض” (2025) تطوّرت طريقة تقديم الشخصيات المثلية على الشاشة، لكنها لم تتخلّص تماماً من القوالب الجاهزة، التي تُراعي المجتمع و”خصوصيته” المفترضة دينياً وقانونياً. هذه “القوالب” عادت بشكل أشد حالياً، بل لا بدّ من قرع إنذار الخطر بعد نشر الكثير من الصور والفيديوهات من سوريا في ظلّ الإدارة الجديدة، التي تُهين المثليين والمثليات والمتحوّلين والمتحوّلات وتُذلّهم، وتسخر منهم وتهدّدهم وكأنهم “مجرمون” يواجهون “العدالة”!
المثلية كاضطراب نفسي يمكن “علاجه”: “أشواك ناعمة”
في محاولته معالجة قضايا المراهقين، قدّم مسلسل “أشواك ناعمة” للكاتبة رانيا البيطار وإخراج رشا شربتجي، العام 2005، واحدة من أكثر المعالجات الدرامية خجلاً وارتباكاً لموضوع الهوّية الجندرية والتوجّه الجنسي، عبر شخصية نضال التي أدتها الممثّلة سلافة معمار.
ولم يكن الطرح مباشراً، بل جاء في إطار مقاربة تحاول الالتفاف حول حساسية الموضوع، ما أدّى إلى تقديم صورة مشوّهة بدلاً من فتح نقاش جادّ حول القضايا المطروحة. وتُجسّد نضال شخصية طالبة في المرحلة الثانوية تفضّل ارتداء الملابس الذكورية، وتتبنّى سلوكيات يومية أقرب إلى الصبيان، حتى أنها تفكّر في مرحلة ما بالخضوع لعملية تحوّل جنسي، لكن بدلاً من معالجة هذه الرغبة، على أنها ربما جزء من هوّيتها الجندرية الحقيقية، اختار المسلسل تقديمها كحالة اضطراب نفسي ناتجة من محاولة نضال إرضاء والدها، الذي كان يرغب في إنجاب ابن ذكر، فوجدت في هذا السلوك وسيلة لكسب حبّه وتقديره، وتمّ تحويل قضية الهوّية الجندرية إلى استجابة نفسية لضغط اجتماعي، وليس إلى حقيقة يعيشها الفرد ويتماهى معها.
ومع تطوّر الأحداث، تلعب المرشدة النفسية في المدرسة (سلمى المصري) دوراً رئيسياً في “إصلاح” نضال وإعادتها إلى مسارها “الطبيعي”، ومن خلال سلسلة من جلسات العلاج النفسي والتوجيه، تتخلّى نضال عن هوّيتها الذكورية وتعود إلى “أنوثتها”، لتنتهي قصتها بالزواج، وكأنها خضعت لعملية “تصحيح نفسي” أعادتها إلى المسار الصحيح.
وتعزّز هذه النهاية تصوّراً مغلوطاً، بأن التوجهات الجنسية والهوّية الجندرية ليستا سوى اضطرابات نفسية يمكن “علاجها”، ما يتناقض تماماً مع الدراسات العلمية الحديثة، التي تؤكّد أن الميول الجنسية والهوّية الجندرية ليستا أمراً يمكن تغييره أو علاجه بالإرشاد، بل هي جزء من التكوين الطبيعي للفرد. وعلى رغم أن المسلسل يُعدّ أول الأعمال التي تطرّقت إلى موضوع المثلية بين النساء في الدراما السورية، لم يتمّ ربط نضال بالميول الجنسية، فهي لا تشعر بأي شهوة جنسية تجاه الفتيات، ولا نرى أي جانب عاطفي في شخصيتها.
والمشكلة الأكبر في هذا الطرح هي الرسالة التي يبعث بها إلى العائلات والمجتمع، عندما يُعرض التحوّل الجنسي أو الميول المثلية، على أنهما حالات قابلة للعلاج، أو ناتجة من ظروف يمكن تصحيحها بالتدخّل النفسي والتقويم السلوكي، ما يبرّر اللجوء إلى ما يُعرف بـ”العلاج التحويلي”، وهو ممارسة غير علمية ومُدانة عالمياً لما تسبّبه من أذى نفسي خطير للأفراد، وتمنعها دول أوروبية كثيرة.
وبدلاً من تقديم قصة تُتيح للمشاهدين فرصة فهم أعمق لمسألة الهوّية الجندرية والمثلية، اختار “أشواك ناعمة” الطريق الأسهل، وهو تصوير هذه القضايا كحالات طارئة يمكن تجاوزها، وكأنها Cross dressing، بدل الاعتراف بها كحقائق وجودية.
المثلية كضعف وسذاجة: “الخط الأحمر”
بعكس ذلك، كان مسلسل “الخط الأحمر” من تأليف هاني السعدي وإخراج يوسف رزق، العام 2008، أول مسلسل يُقدّم شخصية مثلية بشكل مباشر وواضح، عبر شخصية فادي، شاب ثلاثيني يفضّل أن يُنادَى باسم فوفو، ويجسّد بأسلوب نمطي للغاية، يعكس التصوّرات السائدة عن المثليين في المجتمعات المحافظة، كشخصيات أنثوية وهشة، من وضعه الأقراط في أذنيه، إلى مضغه العلكة بطريقة يُفترَض أنها إغوائية، ما يكرّس صورة عن المثلية الجنسية بأنها مجرّد تشبّه بالنساء، وسلوك متصنّع يُحاكي “فتيات الليل”. وعلى رغم أن المسلسل يصوّر فادي كشخص طيب القلب، يُظهره في الوقت نفسه مفتقراً إلى الثقافة والوعي، ما يعكس صورة نمطية أخرى تُفيد بأن المثلية مرتبطة بالجهل والسذاجة.
وفي سياق المسلسل، يُقدَّم فادي كأحد مرضى الإيدز الذين يلجأون إلى مركز صحي خيالي لتلقّي العلاج، وخلال حديثه مع المرشدة النفسية (نادين خوري) يكشف عن خلفية حياته، مشيراً إلى أنه نشأ وسط عائلة تُهيمن عليها الإناث، ما جعله يشعر بأنه فتاة وليس شاباً. في هذا المشهد، يبدو واضحاً أن العمل يرسّخ خرافة أن التربية في بيئة أنثوية يمكن أن تؤدّي إلى المثلية الجنسية، وهو تصوّر غير علمي، وعندما تسأله المرشدة بطريقة استجوابية: “متى تورّطت في هذا العمل للمرة الأولى؟”، يظهر فادي في حالة ضعف وانكسار، كأنه ارتكب جرماً أو فعلاً شائناً، قبل أن يعترف بأنه تعرّض لاعتداء جنسي من أحد جيرانه.
بهذا الطرح، يربط المسلسل المثلية بالاعتداءات الجنسية في مرحلة الطفولة، ويعزّز الفكرة القائلة بأن الشخص المثلي، هو بالضرورة “ضحية” وليس صاحب هوّية طبيعية مكتسبة، والأسوأ، يُجيب فادي عند سؤاله عن ندمه بالقول إنه يشعر بالندم، لكنه غير نادم في الوقت نفسه، ثم يبرّر ميوله بأنها نتيجة “الهرمونات”، وكأن المثلية حالة مرضية يجب تبريرها بيولوجياً، على رغم أنه لا يُظهر أي دلائل على كونه عابراً جنسياً، بل فقط شخص مثلي الجنس لديه رغبة طبيعية تجاه أفراد من الجنس نفسه.
ولم يتوقّف المسلسل عند هذا الحد، بل عمد إلى الربط بين المثلية الجنسية ومرض الإيدز، بوصفه عقاباً أخلاقياً مستحقاً، وهو إحدى أقدم المغالطات التي استُغلّت لتشويه صورة مجتمع الميم في مختلف أنحاء العالم، خصوصاً في الولايات المتحدة في الثمانينات. وفي سوريا، حيث يُعدّ مرض الإيدز محظوراً بحد ذاته، والمثلية الجنسية محرمة اجتماعياً ودينياً ومُدانة قانونياً، يجمع المسلسل بين هذين المحرّمين في شخصية واحدة، ليبدو وكأن فادي ارتكب “جميع الموبقات دفعة واحدة”. هذا الربط لا يؤدّي فقط إلى ترسيخ وصمة العار حول المثليين، بل يعزّز المخاوف المجتمعية تجاههم، ويكرّس تصوراً خاطئاً يجعل أي فرد مثلي في نظر المجتمع مصدر خطر صحي وأخلاقي في آنٍ معاً.
ولا يمكن تجاهل المبالغة التي صُوِّرت بها شخصية فادي، إذ يُقدَّم بأسلوب استعراضي مفرط في الأنوثة، يتحدّث بنبرة غنج، ويتحرّك بحركات ناعمة ودلال زائد. وهنا، يعود المسلسل إلى النمطية الكلاسيكية التي تجعل المثلية مرادفة “للتشبه بالنساء”، وكأن الرجل المثلي لا يمكن أن يكون سوى شخص “يفقد رجولته”، ما يتعارض تمامأً مع حقيقة أن المثلية تتعلّق بالهوّية الجنسية، وليس بالتعبير الجندري، وتأتي الصورة المبالغ فيها لفادي لتجعله يتناقض تماماً مع المفهوم التقليدي للرجل الشرقي “الحمش” والقوي، ما يزيد من صعوبة تقبّل المجتمع أي شخصية مثلية لا تتماشى مع الصورة النمطية للذكورة في المنطقة.
المثلية كاستغلال وانحراف: “ما ملكت أيمانكم”
في مسلسل “ما ملكت إيمانكم” للكاتبة هالة دياب والمخرج نجدت اسماعيل أنزور، العام 2010، عُرضت قصة جانبية لمراهقين في مدرسة ثانوية هما شادي وسالم، لعرض قضية المثليين ليس فقط كأفراد يعانون من الاضطهاد، بل كعناصر تهديد أخلاقي واجتماعي.
ويقدَّم شادي كمراهق متسلّط، ينتمي إلى عائلة نافذة في أجهزة الأمن، يستخدم نفوذه وماله لاستغلال الآخرين. في المقابل، يظهر سالم كشخص ضعيف الشخصية، ينتمي إلى بيئة فقيرة، ما يجعله هدفاً سهلاً للابتزاز. تتقاطع مساراتهما داخل حمامات المدرسة، حيث يحاول شادي إغراء سالم بالمال لممارسة الجنس، وحين يرفض الأخير، يتهمه الأول بالسرقة، في محاولة للضغط عليه وإجباره على الخضوع، وفي حلقات متقدّمة، يتحرّش بابن أخيه، لتزيد قتامة الصورة التي يقدّمها المسلسل، حيث يربط بين المثلية والبيدوفيليا.
ما يجعل الطرح إشكالياً ليس فقط طبيعة العلاقة بين الشخصيتين، بل الرسائل المبطّنة التي يحملها حول المثلية. يتمّ تقديم شادي كمثلي شرير، مدفوع برغباته الجنسية فقط، لا يتردّد في استغلال الآخرين وابتزازهم لتحقيق غاياته، وهي صورة نمطية تكرّس الفكرة السائدة عن المثلية باعتبارها حالة من الانحراف الأخلاقي والسلوكي. في المقابل، فإن شخصية سالم، التي قد تكون أيضاً مثلية، تُحصر في دور الضحية، من دون أي محاولة لتقديم علاقته بشادي كعلاقة إنسانية قائمة على المشاعر أو التواصل العاطفي، بل يتمّّ تصويرها فقط كصفقة غير أخلاقية قائمة على الجنس مقابل المال.
ويسلب هذا الطرح المثلية الجنسية من بعدها الإنساني، ويختزلها في إطار من الاستغلال والانحراف، متجاهلاً أن العلاقات المثلية، مثل أي علاقات أخرى، يمكن أن تقوم على الحب، والاحترام، والشراكة العاطفية. وعندما يتمّ تقديم هذه الصورة المنحازة للملايين عبر شاشة التلفزيون، فإنها لا تعكس الواقع بقدر ما تعزّز الصور النمطية السلبية، ما يؤدّي إلى خلق بيئة أكثر عدائية تجاه المثليين في المجتمعات، التي تفتقر أصلاً إلى التمثيل الإيجابي لهم في الإعلام.
إقرأوا أيضاً:
المثلية كموضوع ساخر: “صبايا” و”بقعة ضوء”
في سلسلة “صبايا 2″، إخراج فراس دهني وتأليف مازن طه، العام 2010، قُدّمت شخصية سامي، التي أدّاها الممثل فادي صبيح، كنموذج غير مباشر يحمل إشارات نمطية غالباً ما تُستخدَم في الدراما العربية، للدلالة على المثلية الجنسية، من دون الإفصاح عنها صراحة. يتميّز سامي ببنية جسدية ضخمة، لكنه يتصرّف بأسلوب أنثوي مبالغ فيه عبر طريقة حركاته، طريقته في الكلام، وملابسه. وبينما كان الهدف الأساسي من الشخصية هو الإضحاك، إلا أنها أثارت جدلاً واسعاً بين صناع العمل، فعندما أشار نقّاد إلى الشخصية، ذماً منهم بالمسلسل بوصفه يروّج للمثلية الجنسية لمجرّد عرضها بهذا الشكل، كان ردّ كاتبيْ العمل مازن طه ونور الشيشكلي، بالاستهجان، حسب بيانات نُشرت العام 2010 في وسائل إعلام محلية.
هذا الشكل من التمثيل، حيث تصبح الشخصية المثلية مجرّد أداة للسخرية، لا يُساهم في تقديم معالجة حقيقية أو عميقة للهوّية الجنسية، بل يرسّخ الصور النمطية فقط. والنتيجة هي أن المثلي في الدراما يُقدَّم ككاريكاتير هزلي، يُضحك الجمهور بدلاً من أن يُعامَل كشخصية طبيعية ذات مشاعر وتجارب إنسانية مثل أي فرد آخر، وهو ما يُلاحَظ أيضاً في عدد من لوحات سلسلة “بقعة ضوء” الكوميدية.
المثلية كموضوع غير مسمّى
في خطوة نادرة في الدراما السورية، خصّص مسلسل “ناطرين”، العام 2013، إحدى حلقاته، التي حملت عنوان “إحساس غريب”، لتناول موضوع المثلية الجنسية بين الرجال، لكن بأسلوب التلميح من دون التصريح. تدور أحداث الحلقة حول شخصية رغيد، التي جسّدها الممثل محمد فرزات، الذي يُظهر مشاعر غيرة واضحة تجاه صديقه المقرب نبيل (مصطفى المصطفى) عندما تبدأ المغنية الشابة ياسمين (رزان أبو رضوان) بالتقرّب من نبيل، ما يعكّر ديناميكية العلاقة بين الصديقين. على رغم أن المسلسل لم يذكر صراحةً أن العلاقة بين رغيد ونبيل تتجاوز الصداقة التقليدية، فإن التوتّر العاطفي الذي ساد الأحداث، حمل دلالات واضحة على مشاعر رغيد التي تتخطّى حدود الصداقة.
وعلى رغم أن الطرح في الحلقة كان خطوة جريئة في تناول المثلية الجنسية، مقارنة بالأعمال السابقة التي تجنّبت الموضوع كلياً أو تناولته بسخرية، ظلّ المسلسل محكوماً بالحذر والرقابة، إذ تجنّب كاتبه ومخرجه تسمية العلاقة بوضوح، بل اكتفيا بإشارات غير مباشرة تترك الباب مفتوحاً للتأويل، حيث يتمّ تقديم الشخصيات المثلية من دون منحها هوّية واضحة، خوفاً من إثارة الجدل أو الرقابة.
وفي مجتمعات تُحاط فيها المثلية الجنسية بالتكتم ووصمة العار، يمكن لهذا النوع من التناول الدرامي أن يحمل تأثيراً مزدوجاً. فمن جهة، قد يُعتبر تقدّماً طفيفاً في فتح نقاش حول المشاعر المثلية، بطريقة لا تكرّس الصورة النمطية السلبية، ولا تربط المثلية بالانحراف أو الجريمة، لكنه، من جهة أخرى، يعمّق فكرة أن هذه العلاقات يجب أن تبقى “في الظلّ”.
خطوة إلى الأمام: “قلم حمرة”
يُعدّ قلم حمرة للكاتبة يم مشهدي والمخرج حاتم علي، العام 2014، واحداً من أكثر المسلسلات السورية جرأة في تناوله موضوع المثلية الجنسية، إذ قدّم صورة أكثر واقعية ومعقدّة، بعيداً عن التنميط السائد في الدراما العربية.
على عكس الأعمال التي تعاملت مع الشخصيات المثلية، إما بسخرية وإما بإعطائها نهايات مأساوية محتّمة، رسم المسلسل شخصية نورس (مصطفى سعد الدين) كشاب يعيش صراعاً داخلياً حول هوّيته الجنسية وسط بيئة اجتماعية محافظة. لم يكن نورس مجرّد شخصية جانبية أو مادّة للإضحاك، بل كان فرداً حقيقياً يُعاني من العزلة، ليس فقط بسبب ميوله الجنسية، ولكن أيضاً بسبب رفض أسرته له، ما يدفعه إلى محاولة الانتحار في الحلقة الرابعة عشرة. إلا أن قصته لم تنتهِ هنا، بل تحوّلت إلى رحلة مواجهة مع الذات، ومع مجتمع يفرض عليه التعايش مع الزيف الاجتماعي والسياسي، الذي ميّز سوريا قبل الثورة وبعدها.
ما يميّز معالجة “قلم حمرة” للمثلية، أنه لم يفصل الهوّية الجنسية لنورس عن السياق السياسي والاجتماعي الأوسع. ففي الحلقة الرابعة والعشرين، تعرض عليه مديرة غاليري فرصة للسفر إلى الغرب، حيث يمكنه الحصول على منح دراسية وشهرة فنية، من خلال تقديم أعماله بوصفه فناناً اضطُهد بسبب ميوله الجنسية، لكن نورس يرفض استياءً من استغلال هوّيته لأغراض تسويقية، في موقف يعكس رفضه التحوّل إلى ضحية تُستخدَم لأغراض سياسية أو اجتماعية.
وكسر المسلسل الصورة النمطية التي حصرت المثليين في أدوار سطحية، إذ لم يكن نورس شخصية مائعة أو كاريكاتورية، بل شاب معقّد يواجه صراعاته مع ذاته، كما يواجهها مع العالم من حوله، كما لم يقدّم المثلية كقضية منفصلة عن بقية القضايا الاجتماعية والسياسية، بل جعلها جزءاً من النسيج المعقّد الذي يشكّل هوية الإنسان في مجتمع متحوّل.
بعد “قلم حمرة”، اختفى موضوع المثلية الجنسية تمامأً من الدراما السورية لسنوات، تزامناً مع حملات منظّمة شنّها النظام السوري، إذ سعى إلى ربط المثلية بالقيم الغربية والليبرالية، التي وصفها بـ”السامّة”، مدّعياً أنها تهدّد “الثوابت الأخلاقية” للمجتمع السوري. وقادت وسائل إعلام النظام حملات ممنهجة لتشويه صورة المثليين، ليس فقط داخل سوريا، بل أيضاً في أوروبا، في محاولة لضرب صورتين متوازيتين: الأولى تستهدف اللاجئين السوريين في الغرب، عبر تقديم المجتمعات الأوروبية منحلّة أخلاقياً، والثانية تكرّس الشعور بالامتنان لمن بقي داخل سوريا، باعتبار النظام “حامياً للقيم”.
في هذا السياق، روّجت وسائل إعلام النظام السابق، إلى جانب شخصيات موالية، من بينها فنانون كبار مثل باسم ياخور، مقاطع فيديو مأخوذة من أحد احتفالات الشارع السنوية في برلين، الخاصة بممارسات “الفيتش” المرتبطة بعلاقات السيطرة والخضوع، حيث يرتدي “السيد” أزياء مهيمنة (Master) بينما يرتدي الخاضعون زي الكلاب (Dog أو Slave). اقتُطعت هذه المشاهد من سياقها الكرنفالي، وعُرضت على الجمهور السوري كدليل على “انحلال الغرب”، ليظهر وكأن هذه المشاهد تمثّل ألمانيا بأسرها. ربط النظام بين “كرنفال الفيتش” والمثلية، ليعزّز السردية القائلة بأن القيم الليبرالية الغربية “تساوي الإنسان بالحيوان”، في طرح لا يمكن وصفه إلا بأنه كوميديا سوداء مسمومة.
التطوّر الحذر: “تحت سابع أرض”
وعادت الدراما في الموسم الرمضاني الحالي من جديد؛ وإن كان بحذر، لإظهار شخصية مثلية، في مسلسل “تحت سابع أرض” للمخرج سامر البرقاوي، ويُعرض في موسم رمضان الحالي. ولم يكن الطرح هذه المرة قائماً على صورة الضحية أو المجرم أو الشخصية الهزلية، بل قدّم المسلسل شخصية سمير (سوسو) التي أدّاها الممثل حسام سلامة، بشكل يبتعد عن التنميط السائد نوعاً ما. وعلى رغم أن العمل لم يصرّح صراحةً بميول الشخصية الجنسية، فإن طريقة حديثها، لغة جسدها، وحتى اسمها، تحمل إشارات ضمنية إلى أن الشخصية مثلية، ما يعكس محاولة جديدة لإدخال هذه الفئة في الدراما، من دون المواجهة المباشرة أو التسمية الصريحة.
ما يميّز سوسو أنه لا يظهر كشخصية مضطهدة أو خائفة من نظرة المجتمع، ولا كشخصية مكسورة تعيش صراعاً داخلياً مع هوّيتها. بل على العكس، يبدو واثقاً، قوّي الشخصية، حادّ اللسان، ويمارس دوره في عمليات غسل الأموال داخل متجر بلقيس (كاريس بشار) من دون أي قلق أو خوف. هذا التحوّل، على الرغم من كونه غير مكتمل، إلا أنه يعكس تغييراً نسبياً في طريقة تقديم الشخصيات المثلية، بعيداً عن التصورات التقليدية التي حصرتها لسنوات، بين الهشاشة والخوف أو السخرية والاستهزاء.
وعلى رغم أن هذه المقاربة قد تبدو خطوة إلى الأمام، إلا أن شخصية سوسو لم تُمنح العمق الكافي، الذي يجعلها متساوية مع باقي الشخصيات في المسلسل. فهو شخص دائماً في الخلفية، لا يتفاعل بشكل حقيقي مع الأبطال، ولا يمتلك حوارات فردية تُعرّف الجمهور به، حيث لا نعرف شيئاً عن حياته الخاصة، أو علاقاته العاطفية، أو حتى خلفيته الشخصية، بينما تُمنح الشخصيات الأخرى، حتى الأقلّ أهمية منه، تفاصيل كاملة عن ماضيها ودوافعها النفسية. هذا يطرح تساؤلاً: هل كان إدخال هذه الشخصية مجرّد ديكور لخلق “تنوّع صوري”، من دون محاولة تقديمها بواقعية؟
وعلى رغم أن المسلسل اختار تقديم سوسو بشخصية قوّية، إلا أن طريقة تعامل الشخصيات الأخرى معه، تعكس مدى استمرار الأحكام المسبقة ضد المثليين، حتى في أكثر المجتمعات الهامشية إجراماً. في أحد المشاهد، يدخل موسى (تيم حسن) إلى المطبعة التي يعمل فيها سوسو ضمن شبكة تزوير الأموال، وعلى رغم أن موسى، أحد أفراد العصابة، يُعدّ شخصية شريرة بكل المعايير، فهو رجل أمن متورّط في تزوير العملات وارتكاب الجرائم، فإن المشهد يُظهره وهو يعبّر عن اشمئزازه من طريقة حديث سوسو وحركاته، قائلاً إنه “يشعر بالقرف”.
هذا المشهد يعكس مفارقة مستفزة: حتى الشخصية الشريرة، التي تورّطت في جرائم كبرى، تجد نفسها غير قادرة على التعامل مع شخص مثلي بشكل طبيعي! وكأن المسلسل يريد إيصال رسالة ضمنية، مفادها أن المجتمع يمكنه تقبّل عتاة المجرمين في النهاية بوصفهم رجالاً، لكنه لا يستطيع قبول المثليين بوصفهم مخنثين. هنا، يبرز الطرح الانتقائي الذي يجعل الشخصية المثلية دائماً محل سخرية أو رفض، حتى لو لم تكن تمارس أي سلوك يستوجب الإدانة.