“أنا قلق جداً. أنا قلق للغاية بشأن حدوث تفشٍّ في غزة… قد يمتد دولياً بشكل كبير”، هذا ما قاله أفاديل ساباربيكوف، قائد فريق الطوارئ الصحية في منظمة الصحة العالمية في حديثه عن فيروس شلل الأطفال في غزة. وسبق أن أعلنت وزارة الصحة الفلسطينية “أن الفحوصات التي أُجريت على عينات من المجاري بالتنسيق مع اليونيسف، أظهرت وجود فيروس يسبب شلل الأطفال”. وأضافت الوزارة أن “ندرة المياه المتاحة وتلوّثها بالمجاري وتراكم أكوام النفايات ومنع الاحتلال من دخول مواد التنظيف، ذلك كله يشكل بيئة مناسبة لانتشار الأوبئة المختلفة”.
وبحسب مبادرة الخلو من شلل الأطفال التابعة لمنظمة الصحة العالمية، وجدت نتائج الفحوصات الصادرة في 16 تموز/ يوليو فيروس شلل الأطفال من النوع 2 (cVDPV) في قطاع غزة. وعزل الفيروس من ست عينات من المياه الآسنة جُمعت من موقعين مختلفين في خان يونس ودير البلح في 23 حزيران/ يونيو الماضي.
يقول صائب لفان، مدير الإعلام في بلدية خان يونس في مقابلة مع موقع “درج”، إنه “وبحسب تقارير وزارة الصحة الفلسطينية، هناك حالات سُجلت مصابة بفيروس شلل الأطفال”.
وبحسب الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر، فإن شلل الأطفال من النوع 2 (cVDPV) هو فيروس شلل الأطفال المشتق من اللقاح. وقد ينشأ هذا الفيروس عن طريق براز الأشخاص الذين تم تطعيمهم بلقاح شلل الأطفال الفموي، وينتقل إلى أشخاص آخرين عن طريق العدوى. وسجلت عام 2023، 524 حالة شلل أطفال في 32 دولة، وكان الفيروس حينها نتيجة للقاح نفسه.
10 أشهر من الحصار
لم تسجل إصابات بفيروس شلل الأطفال منذ 25 عاماً في غزة. ما يطرح إشكاليات عدة حول ظهوره مجدداً. ويعد خبر انتشار المرض حالياً “كارثياً”، يقول أحمد الفرا رئيس قسم الأطفال في مجمع ناصر الطبي ومدير مستشفى التحرير للأطفال والولادة لـ “درج”. ويضيف، “إذا تكلمنا عن انتشار، نحن بحاجة الى جرعات داعمة لكل السكان، وهي غير موجودة في الفترة الحالية نظراً الى ظروف النزوح”.
عام 2022، حصل 99 في المئة من الأطفال في غزة على لقاح شلل الأطفال، إلا أن مستوى التلقيح انخفض إلى 89 في المئة عام 2023. فيما ولد 20000 طفل على الأقل في غزة منذ بدء الحرب بحسب اليونيسيف. يُوصي مركز السيطرة على الأمراض (CDC) بأن يتلقى الأطفال أربع جرعات: في عمر شهرين، 4 أشهر، 6 إلى 18 شهراً، ثم نحو سن الخامسة.
تشير منظمة الصحة العالمية إلى إمكانية انتشار الفيروس المضعّف الذي يحتوي عليه اللقاح داخل المجتمعات التي لم تحصل على اللقاح بشكل كافٍ. ويقول الفرا لـ “درج” إن ” اللقاح حساس جداً ويحتاج إلى توافر الطاقة الكهربائية على مدار الساعة لحفظه، كونه يتلف خارج الثلاجة ويصبح بلا جدوى”.
“مرض شلل الأطفال غير قابل للشفاء أو العلاج ويترك إصابات مزمنة من الشلل تصيب غالباً الأطراف السفلية، وقد يؤدي إلى شلل في منظومة الجهاز التنفسي، ما يؤدي إلى قصور في جهاز التنفس ووفاة الطفل”، يشرح الفرا.
وكانت منظمة الصحة العالمية أعلنت عن عدم تسجيل أي إصابة في الأيام الأخيرة. تواصل “درج” مع المنظمة لكنه لم يتلقّ إجابات عن أسئلته حتى تاريخ النشر. ولكن “منظومة الصرف الصحي في قطاع غزة غير متوافرة ويتم التخلص من المياه الآسنة في الشوارع وبين الخيم، وهذا يعني تسربها إلى المياه الجوفية المستخدمة للشرب وعملية النظافة الصحية، ما يعني بالضرورة إصابة النازحين”، يضيف الفرا.
انهار القطاع الصحي بفعل الاعتداءات الحالية، وخرجت 20 مستشفى عن العمل في غزة. فكيف يُكشف الوباء في ظل انهيار للقطاع الصحي، وعدم وجود أدوات الاختبار، والفقر الذي قد يدفع السكان الى الأنين بصمت داخل الخيم والبيوت؟ مُعظم المصابين بالفيروس لا تظهر عليهم أعراض المرض ويمكنهم نقل العدوى “بصمت” إلى آلاف الأشخاص الآخرين، ” إنه كابوس حقيقي” يقول الدكتور جافد علي، الذي يرأس استجابة الطوارئ في غزة لمنظمة الطب الدولي.
“مرض شلل الأطفال غير قابل للشفاء أو العلاج ويترك إصابات مزمنة من الشلل تصيب غالباً الأطراف السفلية، وقد يؤدي إلى شلل في منظومة الجهاز التنفسي، ما يؤدي إلى قصور في جهاز التنفس ووفاة الطفل”
بيئة مناسبة لانتشار الأمراض والأوبئة
يبحث الأطفال الصغار عن الطعام بين تلال النفايات المتعفنة بفعل شح المواد الغذائية عقب أحداث 7 تشرين الأول/ أكتوبر، يقول طفل في خان يونس ” منناشد كل الناس يشيلوا الزبالة عنا”، إذ يحتوي مكب النفايات الموازي للخيم على أكثر من 70000 طن من النفايات.
يشرح صائب لفان، مدير الإعلام في بلدية خان يونس لـ “درج”، أن البلدية ونتيجة لمنع الجيش الإسرائيليّ وصول آليات البلدية إلى المكب الدائم، “استحدثت مكبين مؤقتين للنفايات بالقرب من مراكز الإيواء ومخيمات النزوح، وهي تفتقر الى أدنى مقومات السلامة الصحية، وهناك تخوف كبير من تسرّب عصارتها الى الخزان الجوفي”.

صورة مكب النفايات الصلبة المؤقت على سور جامعة الأقصى غرب خان يونس
المصدر: بلدية خان يونس
تقول منظمة باكس إنه يوجد حالياً نحو 225 مكباً في قطاع غزة. وتهدد 270 ألف طن من النفايات المتراكمة بجانب البيوت والخيم ومحطات تعبئة المياه السكان أكثر من الصراع المسلح نفسه. وتتسرب النفايات غير المعالجة إلى المياه الجوفية، ما قد ينذر أيضاً بإمكانية تفشي الأمراض والأوبئة. ويعود انهيار قطاع إدارة النفايات في غزة إلى القصف الإسرائيلي للآلات وآليات جمع النفايات، ونقص الوقود، وإعاقة حركة السير، ما أدى إلى توقف عمليات نقل النفايات من الشوارع إلى المطامر الصحية المستحدثة.
ارتفعت كمية النفايات الطبية المنتجة خلال الاعتداءات بفعل تزايد عدد المصابين والجرحى، ما ينذر بإمكانية انتقال الأمراض عبر النفايات الطبية غير المعالجة التي تتراكم بجانب المستشفيات. أجرى باحثون من بريطانيا دراسة على نفايات منزلية وطبية، وقالوا إن النفايات الملطخة بالدم كانت إيجابية لفيروس الكبد الوبائي. وأظهرت الدراسة أن الفيروس المسبب لشلل الأطفال وجد في حفاضات مرمية في النفايات التي أجريت الأبحاث عليها.
الوضع السابق يزيد من احتمالية انتشار الفيروس بين السكان والنازحين، بخاصة في المناطق المكتظة، بسبب وجودهم المستمر بالقرب من المكبات غير المعالجة، التي تساهم في نقل البعوض والذباب والقوارض والعقارب إليهم. وبإمكان الذباب نقل فيروس شلل الأطفال من البراز إلى الطعام.
غزة لم تعد قابلة للعيش، فالظروف المعيشية “مروعة“. حتى قبل الحرب، كانت نسبة 26 في المئة من الأمراض في القطاع ناتجة من تلوث المياه، وبفعل الاعتداءات الإسرائيلية على محطات المعالجة، انتشرت مياه الصرف الصحي بين المنازل وخيم النازحين في عدد من مناطق القطاع، ما يضعف مناعة الشعب ضد فيروس شلل الأطفال. وقالت وزارة الصحة الفلسطينية إن مياه الشرب هي أيضاً معرضة لخطر التلوث بالفيروس.
بلدية خان يونس مثلاً التي وجدت فيها آثار للفيروس “منكوبة في القطاعات كافة وشوارعها غرقت بمياه الصرف الصحي، إذ إن محطات المعالجة فيها مدمرة بالكامل”، حسبما قال مدير الإعلام في البلدية لـ “درج”.

تجمع مياه الصرف الصحي في شوارع خان يونس نتيجة لتدمير خطوط الصرف الصحي
المصدر: بلدية خان يونس لـ “درج”
يساهم التهجير القسري والضغط على البنية التحتية للصرف الصحي واستعمال قطاع المياه كأداة حرب، إلى انتشار الأمراض والأوبئة. وقالت أوكسفام إنه “في منطقة المواصي يوجد فقط 121 مرحاضاً لأكثر من 500,000 شخص – أي أن 4,130 شخصاً يضطرون لمشاركة كل مرحاض. وهذا ما يساهم أيضاً في انتشار المرض، إذ إن المراحيض هي مصدر آخر للعدوى.
قد تكون البيئة الضحية المنسية للاعتداءات المسلحة، لكن تداعيات تدمير البيئة على الصحة موضوع نقاش طويل، فهذه ليست المرة الأولى التي ينتشر فيها مرض شلل الأطفال خلال النزاعات المسلحة، إذ سجلت حالات خلال صراعات في سوريا وأفغانستان وباكستان. وأثناء الحرب الأهلية في الصومال، انتشر المرض بشكل كبير، ما أدى إلى ظهور سلالات جديدة منه. ومنذ عام 2017، بدأت هذه المتحورات بالانتشار على مستوى العالم. وربطت مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها في الولايات المتحدة الفيروس الموجود في غزة بسلالة انتشرت في مصر العام الماضي “.
توقع رئيس فريق منظمة الصحة العالمية المعنِي بحالات الطوارئ الصحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، أياديل ساباربيكوف، إمكانية أن يكون المرض قد نقل من أي شخص، بمن في ذلك المهربون وسائقو الشاحنات، وقد يكون قد وصل إلى غزة حتى قبل بدء النزاع.
ومرض شلل الأطفال ليس الوحيد الذي يدق ناقوس الخطر في غزة. إذ يهدد التلوث البيئي الحاصل الصحة العامة بفعل انتشار أوبئة وأمراض جلدية معدية”، بحسب لفان.
ويقول عامر المصري، طبيب في قطاع غزة، لـ “درج”: “أنا طبيب منذ 20 سنة وأول مرة بشوف مريض بالشكل هذا، في أمراض جديدة وأخرى تعود إلى التهابات بكتيرية جديدة”.
لن يسلم أحد من الجرائم البيئية المرتكبة في قطاع غزة”، فالمستشفيات مكتظة وتعاني من قصور في الإمدادات الطبية والوقود من دون هذا المرض، فما بالك إذا انتشر؟”، يقول الطبيب الفرا لـ “درج”، إذ تشكل الاعتداءات على البيئة في القطاع تهديداً لحق الفلسطينيين والعالم في الصحة، كما حقهم في العيش ببيئة سليمة وصحية. فهل تحرك الدول ساكناً لدفع إسرائيل الى إنهاء حربها على غزة خوفاً من تدمير اقتصادها مجدداً كما حصل خلال جائحة كورونا؟