شكّل أطفال مدرسة السويدة بأجسادهم اسم زميلتهم الطفلة آية الزيدان يوم الثلاثاء 24\4\2024، احتجاجاً على قتلها برصاص الاشتباكات العشائرية في مدينة جرابلس شمال محافظة حلب.
كانت السعادة تغمر وجه آية عند وصولها إلى جرابلس قادمة من قريتها السويدة برفقة والدها لاستكمال إجراءات تسجيلها في امتحانات المرحلة الإعدادية يوم الإثنين 23\4\2024. بيد أن رصاص الاقتتال العشائري لم يقضِ على حلم آية بتقديم امتحانات المرحلة الإعدادية فحسب، بل قضى عليها أيضاً في ساعات الصباح الأولى لتلفظ أنفاسها الأخيرة في حضن والدها.

لماذا قُتلت آية؟
عاد والد آية إلى قريته حاملاً جثمان ابنته بعد ساعات من ذهابهما معاً والمستقبل يرتسم أمام عيني آية. لكن انتشار السلاح الثقيل والمتوسط بيد العشائر المحسوبة على فصائل المعارضة، حال دون أن تكمل آية حياتها، بحسب الناشط عبد الباقي السيد ابن مدينة جرابلس.
وقتلت الاشتباكات المسلّحة العشائرية في مدينة جرابلس خلال شهر نيسان/ إبريل الماضي، ثلاثة أشخاص بينهم طفلة وامرأة، وأصيب 11 مدنياً بجروح متفاوتة الخطورة، في ظل استخدام العشائر المتناحرة الأسلحة الثقيلة التي من المفروض توافرها فقط بيد فصائل المعارضة المسلّحة. فكيف ومن أين امتلكت العشائر الأسلحة الثقيلة، ومن أعطاها الصلاحية بقصف الأحياء السكنية، لا سيما في ظل وجود ما يُسمى الشرطة المدنية والشرطة العسكرية وتشكيلات الفصائل المسلّحة.
أمام أعين أجهزة الشرطة والقوات التركية، احتلّ مسلحو العشائر مبنى المستشفى الوطني في مدينة جرابلس شمال حلب، وفتحوا النار من الأسلحة الرشاشة الثقيلة على الأحياء السكنية ليقتلوا عدداً من المدنيين، بينهم أطفال ونساء، ويصيبوا آخرين بجروح متفاوتة، فيما احتلّ مسلحون من عشيرة أخرى مباني رسمية في المدينة، واعتلوا أسطحها وعملوا على قصف أحياء أخرى بقذائف الهاون والـ RPG.
بدأ الخلاف بين عشيرتي طي وجيس في مدينة جرابلس قبل نحو عام، إذ حصلت اشتباكات بين الطرفين أدت إلى وقوع خمسة قتلى. ومذاك، تتجدّد الاشتباكات وعمليات التصفية المتبادلة بين الطرفين، والتي غالباً ما تؤدي إلى مقتل مدنيين لا علاقة لهم بالصراع.
وأخيراً، قُتل شاب من عشيرة جيس إثر إطلاق النار عليه بشكل مباشر من آخر من عشيرة طي، أمام مكان عمله وسط مدينة جرابلس. سبق ذلك بأسابيع، مقتل امرأة وجنينها وإصابة زوجها بجروح، جراء رصاص أطلقه مسلّحون من عشيرة طي، على أحد وجهاء عشيرة قيس حسن الشيخ وعائلته.
شراء الذمم والتبعيّة
شهدت الأشهر الأخيرة، اشتباكات متصاعدة بين مكونات عشائرية مختلفة في شمال غربي سوريا، تعود أسبابها الى دخول العشائر ضمن تكوينات الجيش الوطني وبقاء الولاء للعشيرة من دون الكيان العسكري بحسب الناشط ملهم النجار. إذ تسعى العشائر الى الدخول في تكوينات الجيش الوطني المدعوم من تركيا لتحقيق هدف واحد فقط، وهو الوصول الى السلاح الثقيل وتشكيل قوة عسكرية تحمي العشيرة من دون أي هدف آخر.
مع وصول أفواج النازحين الى شمال حلب منذ العام 2019، وبعد احتلال قوات النظام وروسيا وإيران بلدات شمال محافظة حماة وغربها وجنوب إدلب والمناطق الشرقية من سوريا، عملت العشائر على تنسيب أبنائها الى صفوف فصائل المعارضة لتنصبغ غالبية الفصائل بالصبغة العشائرية بحسب الضابط المنشقّ عن قوات النظام ركاد العبد المعطي.
شكّل سواد قبيلة الموالي فصيل سليمان شاه “العمشات” والبكارة القادمان من دير الزور وإدلب، واللذان تركزا في فصائل “أحرار الشرقية” و”جيش الشرقية”، وإلى جانبهما عناصر من قبيلة البوسرايا، أما العقيدات فشكلوا “الفرقة عشرين”.
في حين كان السواد الأكبر من لواء السمرقند من قبيلة النعيم، أما التركمان فكان معظم شبابها ضمن لواء السلطان مراد، وتضم الجبهة الشامية عناصر من عشائر شمال حلب.
يرى الضابط عبد المعطي أن وصول أبناء العشائر الى فصائل المعارضة وتشكيلهم كنتونات داخلها، وامتلاك تلك الفصائل أنواع الأسلحة كافة، من شأنهما تغذية النزاعات المسلّحة في المنطقة، وهذا ما حصل طوال السنوات الأخيرة.
يفسّر عبد المعطي الصراعات القبلية قائلاً، إن النزاع يبدأ بين شخصين في فصيلين مختلفين، ثم ما يلبث أن يتطور الى نزاع عشائري قبلي، تستخدم فيه كل قبيلة أو عشيرة أسلحة تسلمتها من فصائل المعارضة أصلاً، فيما من المفروض أن تكون موجودة على نقاط التماس وجبهات القتال مع قوات النظام، ما ينتج منه وقوع قتلى وجرحى، ودائماً ما ينتهي الاقتتال بوليمة طعام لإتمام الصلح بين الأطراف المتقاتلة بعيداً من المحاكم والقضاء في المنطقة، إذ يكون الحل بيد ما يسمى ائتلاف العشائر والقبائل بالمنطقة، الذي يعمل على توفيق الأطراف المتقاتلة بالديّة المالية.
وعلى رغم وجود عدد من المحاكم المدنيّة والعسكرية في مناطق عفرين وجنديرس وأعزاز وجرابلس والباب والراعي، إلا أن سلطة تلك المحاكم محدودة جداً في خلافات العشائر، وهي تقتصر على المدنيين غير المدعومين من العشيرة ولا من الفصائل. ولا تملك المحاكم ولاية تنفيذية سوى على جهاز الشرطة، الذي لا يقوى أن يلاحق حاملي السلاح في المناطق المذكورة، ويبقى اختصاصه محصوراً في المشاكل المدنية الصغيرة.
العشيرة كدرع للفصيل المسلّح
يستخدم قادة فصائل المعارضة المسلّحة العشائر كدرع لهم من خلال منح شيوخ العشائر مزايا معنوية بالمنطقة وإعطائهم مبالغ مالية، فيصبح شيخ العشيرة كالبيدق بيد قائد الفصيل، ودائماً ما تتحرك أرتال كبيرة من العشائر للوقوف بجانب قادة فصائل بحال حدوث اشتباكات مسلّحة بينها.
وأبرز الحوادث التي تعكس أشكال العلاقة بين العشيرة والفصيل، حصل عام 2022 عندما أصدرت لجنة رد المظالم قراراً يقضي بحلّ فصيل العمشات واعتقال قائده محمد الجاسم أبو عمشة، لتتحرك حينها أرتال من العشائر شمال حلب باتجاه مناطق سيطرة أبو عمشة حاملين السلاح مع عناصره، ما أفضى الى سحب قرار لجنة رد المظالم واستمرار أبو عمشة في قيادة الفصيل.
الملاذ بالانتساب الى عشيرة
يقول ناشطون في مناطق شمال حلب رفضوا الكشف عن أسمائهم، إن الاقتتال بين العشائر يخلّف سنوياً أكثر من 50 قتيلاً وعشرات المصابين، ودائماً ما تُستخدم خلاله أسلحة ثقيلة حصل أبناء العشائر عليها من فصائل المعارضة المسلّحة.
وفي السنوات الأخيرة، لم تعد الأسلحة المستخدمة تقتصر على الكلاشنكوف، إذ تنامت قوة العشائر داخل فصائل المعارضة لتمتدّ الى استخدام أنواع الأسلحة كافة، مثل الصواريخ ومدافع الـ23 المتخصصة بالرمي على الطائرات.
ومن أعزاز إلى عفرين وجرابلس وجنديرس، يسقط قتلى شهرياً بسلاح الاشتباكات العشائرية، والتي تتركز أكثرها في عفرين ومحيطها، وتعود أسبابها الى السيطرة على منازل الأكراد المهجّرين عن المنطقة وأراضيهم.
أنتجت السطوة الكبيرة للعشائر في مناطق شمال حلب وتحكّمها بأسلحة الفصائل واستخدامها في نزاعاتها، حالة من البحث عن قوة للاحتماء بها من أبناء مناطق ريف حلب الشمالي، والذين باتوا ينسبون أنفسهم الى عشائر مختلفة حتى يجدوا من يحميهم في ظل الخلافات المستمرة بالمنطقة وحوادث الاعتداء والقتل، بحسب خيرو الدهنين ابن منطقة أعزاز.
يؤكد الدهنين في شهادته لـ”درج”، أن أعزاز كانت تغلب عليها الصفة الحضرية ولم يكن أبناؤها يبالون بانتمائهم الى عشيرة أو قبيلة. لكن منذ العام 2021 ومع تمدّد العشائر وسطوتها في فصائل المعارضة وتحكّمها بالسلاح، وجد أبناء المنطقة أنفسهم مُلزمين بالبحث عن عشائر تحميهم، مقابل أن يكون أصلهم من تلك العشائر، إذ باتوا يحضرون اجتماعاتها ويناصرونها بهدف البقاء آمنين من الاعتداءات والانتهاكات المستمرّة في المنطقة.
العشائر وهيئة تحرير الشام
لا يختلف الوضع في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام عن مثيله في مناطق سيطرة فصائل الجيش الوطني بحسب الناشط عثمان الحلو، إذ تمكّنت قيادة تحرير الشام من “تدجين” عدد من شيوخ العشائر تحت لوائها عن طريق منحهم بعض الميزات في إدلب، إلا أن هذه الميزات تبقى دون انتهاكات جهاز الأمن العام فيما يعود الى شيوخ العشائر الدور في حل بعض الخلافات الشخصية وقضايا الثأر وغيرها من المشاكل المجتمعية.
في العام 2018، شكّلت هيئة تحرير الشام عبر حكومة الإنقاذ ما يمسى “مجلس القبائل والعشائر السورية في إدلب”، والذي ضم عشائر عدة أمثال النعيم والبكارة وطي والدليم والبوشعبان وبني خالد وقيس، وبعدد مقاعد 125 عُيِّن الشيخ عبد المنعم الناصيف رئيساً للمجلس منذ التأسيس وحتى اليوم.
انبثق من مجلس القبائل والعشائر في إدلب ما يعرف اليوم باسم مجلس الصلح العام، والذي يناط دوره بحل القضايا الصغيرة مثل حوادث السير والمشاجرات وقضايا الدين والنصب والاحتيال.
يُعتبر مجلس العشائر إحدى واجهات تحرير الشام الدعائية بحسب المحامي أنور السموع، إذ يلبي شيوخ القبائل في المجلس دعوات تحرير الشام ويحضرون مناسباتها كافة، ويحملون لافتات تمجّدها وقائدها.
في المقابل، يحصل شيوخ العشائر على ميزات مثل قسائم مازوت لسياراتهم وإعفاء من بعض الضرائب، وفرض شخصيتهم على الدوائر العامة لتحرير الشام، في حين تبقى القضايا الأمنية والانتهاكات خارج صلاحيات المجلس، ولا يستطيع أي شيخ في المجلس كبح تصرفات أو مساءلة أي عنصر أمني في الهيئة.
كذلك، شارك المجلس في مسيرات مؤيدة لقيادة تحرير الشام، لا سيما في أعقاب التظاهرات التي حدثت في إدلب وبنش وجسر الشغور، وما رافقها من استخدام هيئة تحرير الشام القوة المفرطة ضد المتظاهرين، إذ نظّم مجلس القبائل والعشائر في يوم الجمعة الذي شهد أحداثاً دامية بفعل جهاز الأمن العام، مسيرة لدعم هيئة تحرير الشام وتمجيدها في مدن سرمدا وجسر الشغور، معلناً وقوفه الى جانبها للقضاء على ما أسماه بالفوضى وإعادة الأمن الى المدن والبلدات.
شكّلت هيئة تحرير الشام في العام 2022 ما يُعرف باسم سرايا المقاومة الشعبية، والتي كانت تتلقى مبالغ مالية من تجار وصناعيين تفرض عليهم الهيئة دفع أتاوات لها بحجة أن تلك السرايا شُكِّلت للدفاع عن المناطق المحررة، ولم يكن مجلس العشائر بمعزل عن ذلك، إذ قدّم لها 100 بندقية كلاشنكوف في صيف العام 2022، في حين أن هدف المجلس هو التقرب أكثر من السلطة في تحرير الشام بحسب د.ج، أحد وجهاء العشائر في شمال غربي سوريا.
يقول د.ج، إن ما يميز ولاء عشائر إدلب للجولاني عن ولاء عشائر شمال حلب لقادة الفصائل، هو أن الجولاني لم يسلّح العشائر أو يسمح لها بامتلاك أسلحة ثقيلة، وعند حصول مشاجرة داخل كيانات الفصائل في هيئة تحرير الشام، كان يتم تحويل أطراف المشاجرة إلى القضاء العسكري بعيداً من انتمائهم العشائري، فيما يحتفظ الجولاني بولاء العشائر له ليثبت نفسه اجتماعياً بين السكان.
ويلفت إلى أن انتهاج الجولاني وفصائل الجيش الوطني شمال حلب سياسة تمكين وجهاء بعض العشائر، أدى خلال السنوات الماضية الى انتشار العنصرية العشائرية، حتى بات أهالي المدن أو المدنيون يبحثون عن أصولهم العشائرية ويعقدون اجتماعات وجلسات، والهدف من ذلك كله وجود السكان ضمن بوتقة تحميهم من يد القوة شمال حلب وتمكّنهم اجتماعياً في إدلب.
إقرأوا أيضاً: