إذا صدّقتم أنّ ميا خليفة كانت حقّاً سعيدة خلال الأشهر الثلاثة التي عملت فيها عام 2015 في مجال تمثيل المشاهد الإباحيّة، الأرجح أنّكم أنتم أيضاً من ضحايا هذا المجال الذي غرّكم بسحره البرّاق، كما غرّ خليفة وآلاف الشابّات غيرها. فبقدر ما تُتقن صناعة “البورنو” انتقاء النساء والفتيات الأكثر عرضة لقبول عروضها الجائرة، واستقطاب الأكثر حاجة منهنّ، إمّا إلى المال والانتماء، أو إلى علامات القبول والرضا، تحترف هذه الصناعة اجتذاب المُستخدِمين إليها باتّباع الطريقة ذاتها في تظهير نفسها كمساحةٍ تتيح حريّةً مُطلقة، واحتمالاتٍ جنسيّة لا متناهية، غالباً ما تتطوّر مجرياتُها الشيّقة تحت أعين مُستهلِكين ذكور يترقّبون لحظة الذروة التي تتمّ بموافقة جميع الأطراف المعنيّة.
يدافع بعضهم عن “صناعة الوهم” هذه تحت مسمّيات كثيرة، منها حرّية الخيار، وقدرة الأفراد على التمييز، والمبادرة، والموافقة. ويدافع بعضهم الآخر عنها بحجّة تأمينها فرص عمل للراغبين/ات في أداء الأعمال الإكزوتيكيّة، وتوفيرها المعيشة لأشخاص رذلتهم المهن الأخرى. إلى ذلك، هناك من يعتقد بأنّ صناعة البورنو تتيح فرصاً ثمينة لكسر التابوهات ونشر الثقافة الجنسيّة. ومنهم من يقول إنّ الخدمة الجنسيّة يمكنها أن تكون مجرّد خدمة مدفوعة الأجر، كسائر الخدمات التي يؤدّيها العمّال والعاملات لمؤسّساتهم أو منشآتهم التجاريّة.
“البورنو”: امتهان “صناعة الوهم”
يتفاقم النقاش حول مجال إنتاج المادّة الإباحيّة، وصناعة “الجنس” عموماً، ويحتدم بين تيّارات حقوقيّة ونسويّة مختلفة في كلّ مرّة يطوف خبرٌ عن قرار “نجمة بورنو” مغادرة المجال، أو موت إحداهنّ الفجائي والمبكر، أو إنشاء شركة إنتاج إباحيّة تديرها نساء بغرض تشجيع خلق مواد مُقابِلة متحرّرة من النظرة الذكوريّة الطاغية على القطاع منذ عقود.
ولكن، لا داعي دوماً للركون إلى الأسئلة المعقّدة، وطرح الفرضيّات المبهمة، واللّجوء إلى النقاشات الأكاديميّة الصعبة، بحثاً عن بعض الإجابات أو إجلاءً لما هو اليوم بائن وواضح:
هو واضحٌ في جسم “أوغست أيمس”، ممثلّة البورنو الكنديّة التي اشتُهرت بـ”سعادتها”، وقد شُرّح بعد انتحارها العام الماضي بعمر الـ23 ربيعاً، ليُكشف ما كُشف فيه من نسبٍ عالية للمواد المُخدِّرة ومضادات الاكتئاب التي لم تكن أيمس قادرةً على تحمّل العيش من دون تناولها. وأغلب الظنّ أنّ الكثيرات غيرها يحذين حذوها الآن ليتمكّنّ من الاستمرار.
واضحٌ في شهادات “جيسيكا رودجيرز”، و”فانيسا بلموند”، و”كاميرون أدامز”، و”جيني كيتشام” والمئات غيرهنّ اللّواتي ساندهنّ الحظّ لمغادرة هذا المجال حين قرّرن ذلك، ورفع الصوت فيما بعد ضدّ ما شهدْنه في كواليس هذه الصناعة الضخمة وأخفاه امتهانُهنّ “الوهم”، أو تمثيل المتعة والرعشة أمام الكاميرا وأصحاب العمل، حين كنّ ما زلن في دهاليزها. فالممثّلات في الواقع لا يتلقّين بدلاً مقابل المتعة، بل مقابل تمثيلها وادّعائها، كما تؤكّد آلاف النساء اللواتي عشن تلك التجربة في مرحلة من الزمن.
وأخيراً، واضحٌ الجواب في مساهمات خبيرة الرياضة، “ميا خليفة”، في هذا النقاش الصعب، عبر مقابلتَين مهمّتين بُثّتا خلال شهر آب/أغسطس 2019، الأولى على قناة صديقتها ميغان أبوت، المتخصّصة في مجال الاستشارات المهنيّة والحياتيّة، والثانية عبر برنامج BBC Hard Talk.
كره الذات وقوداً “للبورنو”
في أسباب الدخول إلى مجال “البورنو”، دحضت الشابّة “ميا خليفة” كلّ الادّعاءات القائلة إنّ “البورنو” مجال من شأنه أن يحقّق للمرأة رفاهيّتها الجنسيّة المنشودة ويعزّز ثقتها بنفسها واستقلاليّتها الماديّة. وقد اتّهمت خليفة هذا القطاع بتعريضها للقتل والتهديد، ونصب الأفخاخ الاقتصاديّة والمعنويّة للنساء بفعل عقود قانونيّة ظالمة يوقّعنها تحت ضعوط آنيّة ناتجة عن أوضاعهنّ الاجتماعيّة أو النفسيّة الهشّة. وفي سياق سردها لقصّتها، أكّدت خليفة أنّ توقيعها العقد مع شركة في ميامي، أواخر عام 2014، كان مدفوعاً بحاجتها الماسّة بل عطشها للفت انتباه الرجل واهتمامه وكسب إعجابه الذي آلمها حرمانُها منه بسبب مظهرها الخارجي غير المنسجم مع المعايير الجماليّة السائدة، ووزنها الزائد الذي عانت منه طوال سنوات مراهقتها الشاقّة التي تعرّضت خلالها لشتّى أنواع التنمّر.
في تشديد خليفة على هذا السبب غير المُتداول كثيراً في الشهادات المُعلَنة للنساء الناجيات من ممارسات الاستغلال الجنسي أو التجاري، جرأةٌ وصراحة تُرفع لهما القبّعة، إذ أعادت بهما خليفة فتح النقاش حول هموم المظهر والشكل المفروضة على الفتيات بشكل خاص، والتوقّعات الجمّة الملقاة عليهنّ؛ كما أضاءت على جانبٍ آخر من النقاش جديرٌ التوقّف عنده. فقد أقرّت خليفة بأنّها كانت تبحث عمّا يُعيد إليها قيمةً “أنثويّة” مفقودة، قد يعوّض عنها إقرارٌ انتظرته طويلاً، بكونها فتاة محبوبة، ومرغوبة، ومثيرة. وحين ذاقت طعمَ ما كانت تبحث عنه، تمسّكت به كطفلةٍ بثوب أمّها، حالُها حال ملايين الفتيات اليائسات من مكابدتهنّ أزمات اختلال الثقة بالنفس الذي تؤجّجه جملة من العوامل، من ظروف شخصيّة صعبة، وإنتاجات نمطيّة وسطحيّة، وتوقّعات ذكوريّة ضيّقة ومملّة، وطاحونة اجتماعيّة مدمّرة.
تبدو استراتيجيّة “توسّل الانتباه” أقرب إلى خدعة ذكوريّة
تُداوي المرأة بالذي كان هو الداء
لكنّ الحفرة العميقة التي تُسحب إليها الكثيرات ليست حصراً هنا، ولا تسكن في مشكلة ضعف الثقة بالنفس وكره الذات وحسب، إنّما في شكل الحلّ الذي تعتمده العديد من النساء من أجل إسكات الأصوات المتطفّلة والمزعجة في محيطهنّ وداخلهنّ. والحلّ هذا يتجسّد في مثابرتهنّ على الاستحصال على تقدير الرجال لهنّ سبيلاً للنجاة، على افتراض أنّه “المَرهم” الذي سيرطّب الإصابة. بيد أن الواقع يشير إلى أنّ هذا التقدير غالباً ما يأتي منقوصاً، لأنّه، في الحقيقة، لن يطال سوى جزئيّاتهنّ التي تلائم تخيّلات الرجال. وعليه، تبدو استراتيجيّة “توسّل الانتباه” هذه أقرب إلى خدعة ذكوريّة تُداوي المرأة بالذي كان هو الداء… تُعلّقها في دوّامة الاعتماد على النظرة الذكوريّة التي سيصعب كسرها مع مرور الوقت، ومن ثمّ تحكم عليها بالتقاعد حين تنحسر “سوقها” وتنخفض أسهمها مع ظهور تجعيدة من هنا وارتخاء من هناك وصعود “نجمة” جديدة.
الحقيقة الموجعة هي أنّ الكثيرات أُرغمن، بشكلٍ أو بآخر، على تبنّي هذا المنحى من الحلول في وقت من الأوقات، وما زلن يلجأن إليه ومن خلاله إلى “البورنو”، لأسباب عديدة غالباً ما تتشابك مع عوامل أخرى شديدة التعقيد، تُصعّب عليهنّ رفض العروض المتاحة أمامهنّ. هؤلاء هنّ من يتلقّين الحصّة الأكبر من الملامة والحكم التي من الأجدى أن تُوجَّه إلى التجارة نفسها، وعناصرها المستفيدة من استغلال النساء ومن كرههنّ لذواتهنّ، والثقافة التمييزيّة والتسليعيّة من ورائها.
وخلافاً لميا، قد لا تُسنح للكثيرات من النساء المُستقطبات فرصة التعبير بحريّة عن أفكارهنّ وتجاربهنّ، بداعي الحفاظ على أمنهنّ، المهدّد في معظم الأحيان، وعلى ما تيسّر من رواتب تصل إلى حساباتهنّ المحدودة لقاء استثمارات أزليّة الأمد في أجسادهنّ، “رأس المال” الأقوى لـ”بورن هاب” وغيره من المواقع والشركات. وقد يخترن التعبير على طريقتهنّ الخاصّة، دفاعاً عن قرارٍ شخصي اتّخذنه ويحقّ لهنّ التمسّك به كيفما شئن. غير أنّ ما يهمس لنا به تاريخ قصص النساء، فهو أنّ معظمهنّ يستيقظن بعد مرور أشهر أو أعوام على ذواتٍ دمَّرها توغّلُ التسليع والعنف و”التحديق الذكوري” في أعماقها، تماماً كما أوشك، هو والتقدير المزيّف المرافق له، على تدمير ميا خليفة. ولا يُخفى على أحد كيف يعرّض هذا التوغّل النساء لأصعب أشكال الاستغلال والانتهاكات التي يضطررن إلى التمرّس على التطبيع معها كجزء عادي من العمل، ويفيض عليهنّ وابلاً من الأحكام الاجتماعيّة، ويحرمهنّ أيضاً من فرص الانطلاقات الجديدة، السلسة والآمنة، كما أكّدت خليفة في مقابلاتها.
لولو فيراري وإريك فين
“كل ذلك حصل لأنني لم أعد أحتمل الحياة. ولكن لم يتغيّر شيء. مرّت لحظات كنتُ خلالها منفصلةً تماماً عن الواقع. في تلك اللحظات، كنت قادرة على القيام بأيّ شيء. أي شيء. أبتلع الحبوب أو أرمي بنفسي من الشبّاك. فالموت حينها كان يبدو سهلاً جدّاً”.
صاحبة هذه الكلمات هي إحدى أشهر “نجمات البورنو” في العالم، “لولو فيراري”، التي ماتت بجرعة زائدة من الحبوب عام 2000، وكانت قد شاركت تجربتها قبل وفاتها مع صحيفة “غارديان” البريطانيّة. دخلت “لولو” موسوعة “غينيس” من بوّابة “الثديين الأكبر” في العالم. حُقنت بكمّيات هائلة من السيليكون والمواد الكيميائيّة السامّة في أنحاء جسمها كافّة. رَسَمَ زوجها، “إريك فين”، وهو نفسه مدير أعمالها، صورةً لمظهرها كما يرغبه هو أن يكون، وكلّف صديقه طبيب التجميل بتنفيذها على جسم “لولو”.
اليوم، لم تعد صناعة “البورنو” بحاجة إلى “إريك فين” وخربشاته. فقد نجحت أخيراً في خلق “إريك فين” صغير في ميا خليفة منذ خمسة أعوام، وفي كلّ امرأة لم تتخلّص منه بعد.