لمجرد التفكير والتأمل، في وضع الصحافة العربية اليوم، يشعر المرء بأن صداعاً بدأ يضرب أعصاب رأسه، فيؤجل تأملاته بشأن مستقبل الصحافة، ويعاود عملية محاولة كتابة مقال رأي، أو تقرير صحافي أو تحقيق عن قضية أو فكرة تشغله، ويحمّل مادته قدراً من الشجاعة على قول حقيقة ما يراه أو يؤمن به، وما يمليه عليه ضميره، لا ما تريده الجريدة أو الموقع، حيث يكتب. والجرائد والمواقع الصحافية العربية التي تتمتع بصدقية، ومهنية، وضمير إنساني، ومساحة من الحرية على قول ما يريد المرء أن يقوله، بعيداً من أي انحياز سياسي أو ديني أو اجتماعي، تكاد تكون قليلة جداً. وحتى هذه القليلة جداً تواجه تحديات كثيرة للاستمرار. هذا عدا الخطر الذي قد يتعرض له كاتب صحافي، بسبب مقال يقول فيه رأيه بحرية تامة، في حال كان ينتقد الوضع السياسي في بلده على سبيل المثال.
الكلام أعلاه ينطبق أيضاً على المراسلين الحربيين. بالطبع ليس كل المراسلين الحربيين، متشابهين، فهناك مراسلون حربيون، لا ينقلون في تقاريرهم، حقيقة ما يرونه، بل ينقلون وجهة النظر السياسية، التي تدعم المؤسسة الصحفية التي يعملون فيها، وربما لا تنشر جريدتهم سوى الأخبار والآراء التي تدعم نظاماً سياسياً ما. أما الذين قرروا نقل حقيقة ما يرون من أهوال الحروب، بمهنية، موضوعية، من دون انحياز سياسي أو إيديولوجي – قدر الإمكان – لأي جهة من الجهات المتصارعة، فهم قلة.
ماري كولفين، الصحافية الأميركية، التي كانت تعمل في صحيفة “صنداي تايمز” البريطانية مراسلة حربية، هي من هؤلاء القلة، الذين أمضوا حياتهم، على الخطوط الأمامية لجبهات القتال الرئيسية، في أكثر من منطقة، بدءاً من العراق، إلى أفغانستان، وصولاً إلى سوريا، في حي بابا عمرو في حمص، حيث قتلت في 22 شباط/ فبراير 2012.
منذ فترة قصيرة عاد الجدل حول السيرة المهنية للكاتبة، ومقتلها في سوريا، بعدما أُنتج فيلم سينمائي بعنوان «حرب خاصة»، يتناول محطات مهمة في مسيرة ماري المهنية، والتي يبدأها الفيلم من سريلانكا، حيث فقدت عينها اليمنى، أثناء تغطيتها معركة بين الجيش النظامي، وحركة نمور التاميل الانفصالية.
تعددت الكتابات التي تناولت سيرة كولفين والفيلم الذي انتج عن حياتها لكن اركز هنا على بداية المقالات التي تناولتها، أعني ما نشر في جريدة الأخبار عند بداية عرض الفيلم في بيروت الخريف الماضي، كتب سعيد محمد مقالا بعنوان: «حرب شخصيّة» في حمص: ماري كولفين ماتت في خدمة الإمبراطوريّة.
يفتتح الكاتب مقاله بهذه الفقرة: «فيلم هزيل دراميّاً يستلهم وقائع حقيقيّة ليحتفي بحياة مراسلة الحرب الأميركية ماري كولفين (1956 ــ 2012) التي كانت تهرب من تعاستها وخيباتها الشخصيّة إلى الجبهات عبر العالم. تنقل وجهة نظر غربيّة محض عن مسارات حروب الإمبراطوريّة خدمةً لبيوتات الإعلام المتخصص في تصنيع الأخبار الكاذبة، قبل أن تقضي في قصف عرضي أثناء المعارك العنيفة لتحرير حي باب عمرو في حمص السوريّة عام 2012».
من هذه المقدمة الهجومية، التي تنسف على الفور سيرة ماري كولفين المهنية، وتشوهها، وتربطها بكل بساطة بحروب «الإمبراطورية» الأميركية؛ يستمر الكاتب في التنقيب عن الثغرات الفنية للفيلم «بعين الناقد» تارة، وتارة أخرى من خلال تذكيرنا بأن ماري كولفين لا تتمتع بأي موهبة «كولفين لم تكن تتمتع بموهبة كتابة استثنائيّة أو بقدرة على التفكير المستقل. فشلت مرات عدة في تقديم ولو مسودات لكتب اتفقت مع ناشرين على تأليفها. تتسم تقاريرها المنشورة بالانحياز التام لمنطق الإمبراطوريّة، ولا يمكن التثبت من مصداقية معظمها. لكنّها مع ذلك اكتسبت سمعة أسطوريّة في أجواء الصحافة اللندنيّة حيث كانت تقيم، بسبب تهورها في العمل الميداني عبر الجبهات المشتعلة في العالم».
بالطبع لا ينتهي هجوم، ولا اتهامات الكاتب سعيد محمد، بحق ماري كولفين، إلا بانتهاء آخر سطر في مقاله المشار إليه أعلاه. لكن الردّ على اقتباسين من مقاله يكفي، مع مناقشة مجمل ما جاء في مقاله.
بالنسبة إلى تقييم فيلم سينمائي ما، من زاوية نقدية سينمائية، هناك دائماً اختلاف في الآراء حول ذلك. فهناك نقاد سينما يصرون دائماً على الحكم على فيلم سينمائي، بأنه ليس جيداً، لأن اللقطات السينمائية، والزوايا التي أخذتها الكاميرا للقطات، لم تعجبهم، وحسب، أو من وجهة نظرهم، تختلف عن اللقطات التي درسوها في المعاهد والجامعات، أو أن الفكرة مبتذلة، أو أن الفيلم يعتمد على حبكة كلاسيكية. حتى أكبر المخرجين السينمائيين يختلفون دائماً في تقييم ما يشاهدونه من أفلام. في إحدى دورات مهرجان كان السينمائي، كان المخرج الإيراني عباس كياروستامي أحد أعضاء لجنة التحكيم، وتناقش حينها مع ناقد فرنسي كان هو الآخر عضواً في لجنة التحكيم، حول فيلم رآه مستحقاً الفوز بجائزة، قال له الناقد الفرنسي إن الفيلم لا يستحق الفوز بالجائزة، عندها أستغرب كياروستامي، وسأله عن السبب، فأجابه الناقد: “ليس في هذا الفيلم غلطة واحدة، كل شيء فيه مدروس بدقة متناهية، من التصوير، إلى السيناريو والإخراج”. وبذلك أراد الناقد الفرنسي التوضيح لكياروستامي؛ أن الفيلم الجيد، فيه تفاصيل أخرى يمكن التقييم على أساسها، غير العوامل التقنية.
فيلم “حرب خاصة”، ليس فقط سيرة ذاتية عن حياة ماري كولفين، ولا يقتصر على توثيق محطات من حياة كولفين المهنية كمراسلة حربية بل يشمل مقاربة حقيقية للمأساة السورية. لكن من أهم التفاصيل التي أظهرت جانباً شديد الخصوصية بماري كولفين كمراسلة حربية، هو إصرارها دائماً على كتابة ما تريده هي، وما تراه مهماً أن يصل إلى العالم عبر مقالاتها وتقاريرها. والفيلم ركز على إيصال هذه النقطة. فمثلًا عندما ذهبت كولفين إلى العراق، كان رئيس تحرير جريدة “صنداي تايمز” يريد منها تقديم تقرير عن علاقة نظام صدام حسين بالقاعدة، وبالطبع هذا التقرير يصب في مصلحة «الامبراطورية» لتبرير غزوها العراق، لكن كولفين رفضت هذه المهمة، وذهبت للتنقيب عن مقبرة جماعية، لمجزرة ارتكبها صدام حسين عام 1991 وتم دفن جثث الضحايا على بعد 60 ميلًا غرب بغداد. وهناك مشهد آخر، حيث تلتقي كولفين مجموعة صحافيين ومراسلين في العراق، بينهم صحافيون تابعون لصحف أميركية يتلقون توجيهات من ضباط أميركيين، مع تهديدهم في حال رفضوا تعليماتهم بأنه سيتم فصلهم، ونشاهد كي تنظر كولفين إلى الضباط من بعيد بسخرية، غير مكترثة بتهديداتهم. وقبلها عندما كانت في سيريلانكا، وطلب منها زعيم حركة التاميل، أن تقول في تقاريرها إنهم لا يرغبون سوى بتسويات سياسية مع الحكومة، تقول له: «انظر، كل ذلك يعود سببه إلى الحكم الاستعماري البريطاني، لا يمكنني إصلاح ذلك، على كل لست هنا لهذا السبب» عندها يسألها زعيم حركة التاميل: «إذاً ما الذي ستكتبينه؟” لتجيبه كولفين: «نصف الناس الذين يعيشون هنا، يتضورون جوعاً، والنصف الآخر مرضى» وتقول له إن جيشه، جيش نمور التاميل يقوم بسرقة المساعدات القليلة التي تصل إلى الناس. وعندما تدخل إلى خيمة فيها أناس مرضى، وتشاهد حجم الخوف والمعاناة الذي يعيشونه، تكتب في دفتر ملاحظاتها:
«في مناطق الحرب، يذهب الآباء إلى السرير في الليل، غير عالمين ما إذا كان أطفالهم سيبصرون النهار. هذا هو مقياس الخوف الذي لا يمكنني الشعور به. لكن عندما تقوم بتغطية حرب، عليك الذهاب إلى أماكن قد تعرضك للقتل، أو حيث يتم قتل الآخرين».
عندما قررت ماري كولفين البقاء في بابا عمرو مدة أطول، كان القصف على المنطقة يزداد وحشية، وهذا ما أدى إلى خروج مراسلين ومصورين أجانب كثيرين، كانوا هناك. لكن كولفين أصرت على البقاء، لأنها شعرت بأن ما فعلته في الأيام القليلة التي أمضتها في بابا عمرو لا تكفي. وكان الثمن التخطيط من قبل النظام السوري بقصف المكتب الإعلامي الذي كانت تختبئ فيه مع المصور بول كونري، والمصور الفرنسي ريمي أوتشليك، بعدما تم تحديد موقعهم. ولم يكن قصفاً «عرضياً»! وأدى القصف العنيف على المركز إلى مقتل ماري كولفين وريمي، وإصابة بول كونري بقدمه إصابة بليغة.
بالطبع مقال الكاتب سعيد محمد، الذي يصف فيه ماري كولفين بعميلة الإمبراطورية الأميركية، ويعتبر أنها تهرب من «تعاستها وخيباتها الشخصية إلى الجبهات عبر العالم»، ليس سوى تماهٍ مع رواية النظام السوري عن ماري كولفين، ووصفها بأفظع العبارت؛ فأحد ضباط مخابرات النظام وصفهابـ«الكلبة العمياء»، فقط لأنها كانت تفضح انتهاكاته وقصفه الوحشي على حي باب عمرو، عبر الصحف والقنوات الغربية. كما أن السائد في عالمنا العربي، أن أي إنسان، ينتقد نظاماً دكتاتورياً عربياً، تُوجّه، وتُلفّق له على الفور، قائمة اتهامات، مثل كونه إرهابياً، أو عميلاً أو… إلخ.