fbpx

هل كانت مصر “ولا حاجة” عندما تسلم عبد الفتاح السيسي السلطة؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

أثناء احتفالية “يوم الشهيد”، تحدث السيسي عن الانتقادات الموجهة لنظام حكمه والتحديات التي تواجهها مصر والأزمة الاقتصادية التي تعيشها، وأكثر ما لفت الانتباه خلال حديثه قوله “أنا ما لقيتش بلد لقيت أي حاجة وقالوا لي: خد دي”.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

هذه ليست المرة الأولى التي يُشير فيها الرئيس المصري إلى ضعف الدولة والاقتصاد قبل توليه الحكم، مع التأكيد على أنه هو من لعب دور المنقذ من الانهيار.

يأتي حديث السيسي بعد توقيع مصر لأكبر اتفاقية استثمار في تاريخها، التي استحوذ بموجبها صندوق أبوظبي السيادي “القابضة” (ADQ) على حقوق تطوير مشروع “رأس الحكمة” مقابل 24 مليار دولار، بالإضافة إلى تحويل 11 مليار دولار من الودائع لاستثمارات في مشاريع رئيسية بمصر. 

الاتفاقية السابقة ساعدت الحكومة المصرية على مواجهة أصعب أزمة اقتصادية عرفتها البلاد، إذ وفرت “الصفقة” سيولة مالية ضخمة، سمحت لمصر بتحرير سعر صرف العملة للمرة الخامسة منذ توقيع اتفاقية الإصلاح الاقتصادي عام 2016. 

تبع ذلك الإعلان عن الاتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولي على زيادة قيمة القرض من 3 إلى 8 مليارات دولار. مع إمكانية الحصول على حزمة تمويلات تتخطى 20 مليار دولار من مؤسسات دولية. منها 6 مليارات دولار من البنك الدولي.

 تعهد الاتحاد الأوروبي أيضاً بتقديم حزمة مساعدات بقيمة 8 مليارات دولار، وذلك خلال مؤتمر صحفي في القاهرة حضرته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وزعماء أوروبيون من إيطاليا واليونان وقبرص. وعلى الرغم من توفر هذه السيولة المالية الضخمة، ما زال الخبراء قلقين من استمرار الحكومة على نفس المسار القديم.

هل التغيير حقيقي؟

عبر رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولي السابق، زياد بهاء الدين، في مقاله بصحيفة المصري اليوم عن قلقه، إذ كتب “ما يقلقني أن ما شاهدته وسمعته خلال الأسابيع القليلة الماضية لا ينم عن تغيير حقيقي في المسار، بل أراه، معبراً بشكل ضمني عن استمرار ذات المنطق القديم”. 

التعليق السابق يتضح أيضاً من تصريحات السيسي نفسه، التي قلل فيها من وضع الاقتصاد المصري قبل توليه السلطة، ودافع عن سياساته الاقتصادية، إذ جاءت التعليقات بعد شعوره بالانتصار والارتياح نتيجة خروج مصر من الأزمة التي كانت تعانيها. 

نحاول في هذا التقرير الإجابة عن سؤال: “هل كانت مصر بالفعل (ولا حاجة) قبل السيسي؟، عبر استعراض الأرقام وتطور المؤشرات الاقتصادية خلال عشر سنوات من تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر. 

تكشف لنا المؤشرات الاقتصادية المتوافرة مدى تدهور العملة المصرية، وارتفاع معدلات التضخم، ووصول الفقر إلى مستويات قياسية، وتراجع قيمة الأجور الحقيقية، إضافة إلى فشل السياسة الاقتصادية التي اتبعتها الدولة في تحسين الوضع على مستوى الاقتصاد الكلي.

عشر سنوات من إدمان القروض والمساعدات

خلال السنوات الأولى من عهد السيسي، اعتمدت مصر على المساعدات المالية من حلفائها في الخليج، والتي تمثلت بمنح مالية استثنائية من المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت.

تضمنت هذه المساعدات أيضاً قروضاً وودائع لدى البنك المركزي المصري، وبعضها كان ودائع بدون عائد، ما ساهم في انتعاش الاقتصاد المصري، ويُقدر حجم الدعم من دول الخليج، بداية عام 2011، بنحو 100 مليار دولار. 

عبرت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراُ وتكراراً، عن امتنان مصر للدعم الخليجي في تلك الفترة، إذ قال “لولا دعم دول الخليج الدولة دي مكنتش هتكمل في طريقها”.

ولكن منذ عام 2016 بدأت الدول الخليجية تتململ من “إدمان” مصر المساعدات والمطالب الرسميّة بمنح مجانية طوال الوقت، بسبب عدم قدرة النظام على خلق اقتصاد مُنتج وغير اعتمادي، وعبرت بعض دول الخليج عن رغبتها في عدم تقديم المزيد من الدعم المجاني والتحول إلى سياسة الاستثمار والاستحواذ المباشر.

اتجهت الحكومة المصريّة تنفيذاً لمطالب الرئيس نحو الإنفاق على عشرات المشروعات الكبرى، بما في ذلك حفر تفريعة لقناة السويس عام 2015، ومن أجل تحقيق رغبة الرئيس بالانتهاء من المشروع في عام واحد فقط عوضا عن ثلاثة، زادت التكلفة من 2.5 مليار دولار إلى 3.8 مليار دولار.

اعترف حينها محافظ البنك المركزي هشام رامز بأن السبب في أزمة نقص الدولار عام 2016 هو الإنفاق على مشروع القناة. 

بسبب أزمة الدولار الناتجة عن استنزاف سيولة ضخمة في مشاريع لم تعوض العائد على المدى القصير، وأمام امتناع الحلفاء في الخليج عن تقديم منح مجانية، لجأت مصر إلى قروض صندوق النقد المشروطة، وذلك بعد نحو 26 عاماً على آخر اتفاق.

 حصلت مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار مقابل شروط قاسية، من بينها إلغاء الدعم العيني والحد من الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب وتخفيض قيمة العملة، لتبدأ رحلة العملة المصرية في الانهيار خلال السنوات التالية للاتفاق.

وعود الإصلاح الاقتصادي الزائفة

بعد توقيع الاتفاق مع الصندوق، حصلت مصر على ثقة المؤسسات المالية الدولية، وبدأت بالاقتراض باستخدام الوسائل كلها ما أدى إلى تضاعف حجم الدين الخارجي أربع مرات.

 أصدرت الحكومة سندات بالعملة الأجنبية في الأسواق الدولية، وباعت أذون خزانة بالعملة المصرية، ومنحت عائداً مرتفع هو الأعلى في الأسواق الناشئة.

توسعت مصر في الاقتراض من أجل الإنفاق على إنشاء مشاريع البنية التحتية، وبحسب تصريحات الرئيس المصري، أنفقت مصر نحو 10 تريليون جنيه على هذه المشاريع، أي ما يعادل نحو 300 مليار دولار بسعر الصرف في ذلك الحين.

 اتجه هذا الإنفاق في معظمه إلى قطاعِات التشييد والبناء والعقارات، وجرى تنفيذ هذه المشاريع مع إهمال دراسات الجدوى، إذ يرى الرئيس السيسي أنها “تُعيق تنفيذ المشاريع”، ليستمر القطار في المواصلة.

لم تتحقق وعود الإصلاح الاقتصادي التي روجت لها الدولة طويلاً، ومع اشتغال الحرب الروسية الأوكرانية، سرعان ما انكشفت هشاشة الاقتصاد المصري، نتيجة خروج نحو 25 مليار دولار من الأموال الساخنة، ما وضع الحكومة المصرية في ورطة كبيرة، لتلجأ إلى أكثر شيء تعرفه “طلب المساعدة من الدول الخليجية”. 

سارعت الدول الخليجية بدورها لنجدة الاقتصاد المصري، ولكن هذه المرة لم تكن منحاً مالية مثل السابق، وكان الدعم عبارة عن استثمار مباشر في ودائع ذات عائد في البنك المركزي المصري، إضافة إلى الاستحواذ على مجموعة من الأصول المصرية في قطاعات حيوية ورابحة. 

دخلت مصر في سلسلة من التخفيضات المتتالية لسعر صرف الجنيه، ما جعل العملة المصرية  الأسوأ أداءً في العالم، وفقد الجنيه المصري نحو 200% من قيمته في عامين. وارتفع معدل التضخم إلى مستويات قياسية، ما أدى إلى تآكل قيمة الأجور والمدخرات، وتفاقم سوء الأوضاع المعيشية لغالبية المصريين من الطبقات الفقيرة.

نتيجة السياسات الاقتصادية للرئيس 

لا يُمكن للأرقام وحدها التعبير عن معاناة المصريين نتيجة الأزمة الاقتصادية الحالية، فوفقاً لبيانات البنك الدولي، كانت مصر الدولة صاحبة التضخم الأعلى عالمياً في أسعار الغذاء خلال العام 2023، حيث سجل نسبة 60.5% على أساس سنوي. 

ما سبق دفع 74% من الأسر المصرية لتخفيض استهلاك السلع الغذائية، وذلك وفق بيانات أغسطس/ آب عام 2022، ومن المتوقع أن يكون الوضع قد ازداد سوءاً مع تضاعف أسعار معظم السلع الغذائية. 

ما زلنا بانتظار نشر “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” بيانات محدثة، تكشف لنا تأثير أزمة ارتفاع الأسعار على استهلاك المواطنين للغذاء، والأهم، نشر تحديثات حول أعداد الفقراء ونسبتهم.

 كان من المفترض أن يصدر التقرير في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبحسب آخر تقرير الصادر منذ أربع سنوات، فإن أعداد الفقراء وصلت نحو 30 مليون فقير بنسبة 29.7% من عدد السكان.

وبحسب دراسة مستقلة لمستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء هبة الليثي، فقد ارتفعت نسبة الفقر إلى 35.7% بما يقدر بنحو 37 مليون فقير في مصر، والجدير بالذكر أن نسبة الفقر في مصر عام 2014 كان 27%، ونحو 22.8 مليون فقير.

نلاحظ على مستوى الاقتصاد الكلي أنه على الرغم من تضاعف حجم الدين الخارجي أربع مرات، وحصول مصر على 100 مليار دولار من المساعدات خلال العشر سنوات الأخيرة، لم تنجح كل هذه التدفقات في تحسين الوضع على مستوى الاقتصاد الكلي.

نلاحظ أيضاً أن قيمة الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد المصري كانت 305 مليارات دولار بداية حكم الرئيس المصري عام 2014، من المتوقع أن ينكمش الناتج الإجمالي ليصل إلى 220 مليار دولار خلال العام الحالي، وذلك نتيجة التعويم وانخفاض قيمة العملة. 

ما سبق يعني أن الاقتصاد المصري فقد معدلات النمو المرتفعة التي حققها خلال السنوات الماضية، وعاد حجم الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات ما قبل 2010، كأن مئات المليارات التي جرى ضخها في الاقتصاد طوال كل هذه السنوات قد تبخرت وذهبت أدراج الرياح.

الحظ وحده هو سبب الخروج من الأزمة

بعد أن تدفقت مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة، لا يوجد ضمان بأن الحكومة المصرية ستتجه نحو تنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية، وهو ما أكدته نشرة “حوار البحر المتوسط” التابعة للخارجية الإيطالية.

تقول النشرة أن التفاؤل بشأن تحقيق الاقتصاد المصري تقدماً ملموساً لا يزال شأناً لا بد من توخي الحذر تجاهه، بسبب تاريخ البلاد في الفشل في الوفاء بتعهدات الإصلاح، وإبعاد مؤسسات الدولة عن الاقتصاد، وطرح رؤية وسياسة متماسكة لتحسين سبل عيش المواطنين في المستقبل. 

يرى الباحث المتخصص في برامج الاقتصاد العالمي دايفيد لوبين في مقاله المنشور في أحد أكبر مراكز الأبحاث البريطانية، إن الحظ هو من ساعد مصر على تأمين مثل هذه التدفقات المالية الهائلة، وذلك نتيجة قربها من جيران أثرياء مستعدين لدعمها ومنعها من الانهيار، وامتلاكها موقع استراتيجياً في جزء هش من العالم.

يضيف لوبين أن مصر تعوّل أيضاً على دورها في تحقيق الاستقرار في قطاع غزة، وأهميتها السياسية بالنسبة للولايات المتحدة، مشيراً إلى أن أي بلد حصل على مثل هذه الفرصة، كان ليصبح وضعه أفضل إذا كان يمتلك صناع سياسات يتمتعون بالمهارة، ولا يراهنون فقط على الحظ.

يستمر لوبين في التشكيك في إمكانية إجراء الحكومة المصرية لإصلاحات تُساهم في حل أزمة العملة، وتخفيض مستويات التضخم وخروج الدولة من الاقتصاد، يكتب: “من الصعب تخيل كيف يمكن للرئيس السيسي أن يقلل من دور الجيش في الاقتصاد دون تقويض حكمه”.

29.03.2024
زمن القراءة: 7 minutes

أثناء احتفالية “يوم الشهيد”، تحدث السيسي عن الانتقادات الموجهة لنظام حكمه والتحديات التي تواجهها مصر والأزمة الاقتصادية التي تعيشها، وأكثر ما لفت الانتباه خلال حديثه قوله “أنا ما لقيتش بلد لقيت أي حاجة وقالوا لي: خد دي”.

هذه ليست المرة الأولى التي يُشير فيها الرئيس المصري إلى ضعف الدولة والاقتصاد قبل توليه الحكم، مع التأكيد على أنه هو من لعب دور المنقذ من الانهيار.

يأتي حديث السيسي بعد توقيع مصر لأكبر اتفاقية استثمار في تاريخها، التي استحوذ بموجبها صندوق أبوظبي السيادي “القابضة” (ADQ) على حقوق تطوير مشروع “رأس الحكمة” مقابل 24 مليار دولار، بالإضافة إلى تحويل 11 مليار دولار من الودائع لاستثمارات في مشاريع رئيسية بمصر. 

الاتفاقية السابقة ساعدت الحكومة المصرية على مواجهة أصعب أزمة اقتصادية عرفتها البلاد، إذ وفرت “الصفقة” سيولة مالية ضخمة، سمحت لمصر بتحرير سعر صرف العملة للمرة الخامسة منذ توقيع اتفاقية الإصلاح الاقتصادي عام 2016. 

تبع ذلك الإعلان عن الاتفاق بين مصر وصندوق النقد الدولي على زيادة قيمة القرض من 3 إلى 8 مليارات دولار. مع إمكانية الحصول على حزمة تمويلات تتخطى 20 مليار دولار من مؤسسات دولية. منها 6 مليارات دولار من البنك الدولي.

 تعهد الاتحاد الأوروبي أيضاً بتقديم حزمة مساعدات بقيمة 8 مليارات دولار، وذلك خلال مؤتمر صحفي في القاهرة حضرته رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وزعماء أوروبيون من إيطاليا واليونان وقبرص. وعلى الرغم من توفر هذه السيولة المالية الضخمة، ما زال الخبراء قلقين من استمرار الحكومة على نفس المسار القديم.

هل التغيير حقيقي؟

عبر رئيس الوزراء ووزير التعاون الدولي السابق، زياد بهاء الدين، في مقاله بصحيفة المصري اليوم عن قلقه، إذ كتب “ما يقلقني أن ما شاهدته وسمعته خلال الأسابيع القليلة الماضية لا ينم عن تغيير حقيقي في المسار، بل أراه، معبراً بشكل ضمني عن استمرار ذات المنطق القديم”. 

التعليق السابق يتضح أيضاً من تصريحات السيسي نفسه، التي قلل فيها من وضع الاقتصاد المصري قبل توليه السلطة، ودافع عن سياساته الاقتصادية، إذ جاءت التعليقات بعد شعوره بالانتصار والارتياح نتيجة خروج مصر من الأزمة التي كانت تعانيها. 

نحاول في هذا التقرير الإجابة عن سؤال: “هل كانت مصر بالفعل (ولا حاجة) قبل السيسي؟، عبر استعراض الأرقام وتطور المؤشرات الاقتصادية خلال عشر سنوات من تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي حكم مصر. 

تكشف لنا المؤشرات الاقتصادية المتوافرة مدى تدهور العملة المصرية، وارتفاع معدلات التضخم، ووصول الفقر إلى مستويات قياسية، وتراجع قيمة الأجور الحقيقية، إضافة إلى فشل السياسة الاقتصادية التي اتبعتها الدولة في تحسين الوضع على مستوى الاقتصاد الكلي.

عشر سنوات من إدمان القروض والمساعدات

خلال السنوات الأولى من عهد السيسي، اعتمدت مصر على المساعدات المالية من حلفائها في الخليج، والتي تمثلت بمنح مالية استثنائية من المملكة العربية السعودية والإمارات والكويت.

تضمنت هذه المساعدات أيضاً قروضاً وودائع لدى البنك المركزي المصري، وبعضها كان ودائع بدون عائد، ما ساهم في انتعاش الاقتصاد المصري، ويُقدر حجم الدعم من دول الخليج، بداية عام 2011، بنحو 100 مليار دولار. 

عبرت تصريحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مراراُ وتكراراً، عن امتنان مصر للدعم الخليجي في تلك الفترة، إذ قال “لولا دعم دول الخليج الدولة دي مكنتش هتكمل في طريقها”.

ولكن منذ عام 2016 بدأت الدول الخليجية تتململ من “إدمان” مصر المساعدات والمطالب الرسميّة بمنح مجانية طوال الوقت، بسبب عدم قدرة النظام على خلق اقتصاد مُنتج وغير اعتمادي، وعبرت بعض دول الخليج عن رغبتها في عدم تقديم المزيد من الدعم المجاني والتحول إلى سياسة الاستثمار والاستحواذ المباشر.

اتجهت الحكومة المصريّة تنفيذاً لمطالب الرئيس نحو الإنفاق على عشرات المشروعات الكبرى، بما في ذلك حفر تفريعة لقناة السويس عام 2015، ومن أجل تحقيق رغبة الرئيس بالانتهاء من المشروع في عام واحد فقط عوضا عن ثلاثة، زادت التكلفة من 2.5 مليار دولار إلى 3.8 مليار دولار.

اعترف حينها محافظ البنك المركزي هشام رامز بأن السبب في أزمة نقص الدولار عام 2016 هو الإنفاق على مشروع القناة. 

بسبب أزمة الدولار الناتجة عن استنزاف سيولة ضخمة في مشاريع لم تعوض العائد على المدى القصير، وأمام امتناع الحلفاء في الخليج عن تقديم منح مجانية، لجأت مصر إلى قروض صندوق النقد المشروطة، وذلك بعد نحو 26 عاماً على آخر اتفاق.

 حصلت مصر على قرض بقيمة 12 مليار دولار مقابل شروط قاسية، من بينها إلغاء الدعم العيني والحد من الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب وتخفيض قيمة العملة، لتبدأ رحلة العملة المصرية في الانهيار خلال السنوات التالية للاتفاق.

وعود الإصلاح الاقتصادي الزائفة

بعد توقيع الاتفاق مع الصندوق، حصلت مصر على ثقة المؤسسات المالية الدولية، وبدأت بالاقتراض باستخدام الوسائل كلها ما أدى إلى تضاعف حجم الدين الخارجي أربع مرات.

 أصدرت الحكومة سندات بالعملة الأجنبية في الأسواق الدولية، وباعت أذون خزانة بالعملة المصرية، ومنحت عائداً مرتفع هو الأعلى في الأسواق الناشئة.

توسعت مصر في الاقتراض من أجل الإنفاق على إنشاء مشاريع البنية التحتية، وبحسب تصريحات الرئيس المصري، أنفقت مصر نحو 10 تريليون جنيه على هذه المشاريع، أي ما يعادل نحو 300 مليار دولار بسعر الصرف في ذلك الحين.

 اتجه هذا الإنفاق في معظمه إلى قطاعِات التشييد والبناء والعقارات، وجرى تنفيذ هذه المشاريع مع إهمال دراسات الجدوى، إذ يرى الرئيس السيسي أنها “تُعيق تنفيذ المشاريع”، ليستمر القطار في المواصلة.

لم تتحقق وعود الإصلاح الاقتصادي التي روجت لها الدولة طويلاً، ومع اشتغال الحرب الروسية الأوكرانية، سرعان ما انكشفت هشاشة الاقتصاد المصري، نتيجة خروج نحو 25 مليار دولار من الأموال الساخنة، ما وضع الحكومة المصرية في ورطة كبيرة، لتلجأ إلى أكثر شيء تعرفه “طلب المساعدة من الدول الخليجية”. 

سارعت الدول الخليجية بدورها لنجدة الاقتصاد المصري، ولكن هذه المرة لم تكن منحاً مالية مثل السابق، وكان الدعم عبارة عن استثمار مباشر في ودائع ذات عائد في البنك المركزي المصري، إضافة إلى الاستحواذ على مجموعة من الأصول المصرية في قطاعات حيوية ورابحة. 

دخلت مصر في سلسلة من التخفيضات المتتالية لسعر صرف الجنيه، ما جعل العملة المصرية  الأسوأ أداءً في العالم، وفقد الجنيه المصري نحو 200% من قيمته في عامين. وارتفع معدل التضخم إلى مستويات قياسية، ما أدى إلى تآكل قيمة الأجور والمدخرات، وتفاقم سوء الأوضاع المعيشية لغالبية المصريين من الطبقات الفقيرة.

نتيجة السياسات الاقتصادية للرئيس 

لا يُمكن للأرقام وحدها التعبير عن معاناة المصريين نتيجة الأزمة الاقتصادية الحالية، فوفقاً لبيانات البنك الدولي، كانت مصر الدولة صاحبة التضخم الأعلى عالمياً في أسعار الغذاء خلال العام 2023، حيث سجل نسبة 60.5% على أساس سنوي. 

ما سبق دفع 74% من الأسر المصرية لتخفيض استهلاك السلع الغذائية، وذلك وفق بيانات أغسطس/ آب عام 2022، ومن المتوقع أن يكون الوضع قد ازداد سوءاً مع تضاعف أسعار معظم السلع الغذائية. 

ما زلنا بانتظار نشر “الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء” بيانات محدثة، تكشف لنا تأثير أزمة ارتفاع الأسعار على استهلاك المواطنين للغذاء، والأهم، نشر تحديثات حول أعداد الفقراء ونسبتهم.

 كان من المفترض أن يصدر التقرير في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبحسب آخر تقرير الصادر منذ أربع سنوات، فإن أعداد الفقراء وصلت نحو 30 مليون فقير بنسبة 29.7% من عدد السكان.

وبحسب دراسة مستقلة لمستشارة الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء هبة الليثي، فقد ارتفعت نسبة الفقر إلى 35.7% بما يقدر بنحو 37 مليون فقير في مصر، والجدير بالذكر أن نسبة الفقر في مصر عام 2014 كان 27%، ونحو 22.8 مليون فقير.

نلاحظ على مستوى الاقتصاد الكلي أنه على الرغم من تضاعف حجم الدين الخارجي أربع مرات، وحصول مصر على 100 مليار دولار من المساعدات خلال العشر سنوات الأخيرة، لم تنجح كل هذه التدفقات في تحسين الوضع على مستوى الاقتصاد الكلي.

نلاحظ أيضاً أن قيمة الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد المصري كانت 305 مليارات دولار بداية حكم الرئيس المصري عام 2014، من المتوقع أن ينكمش الناتج الإجمالي ليصل إلى 220 مليار دولار خلال العام الحالي، وذلك نتيجة التعويم وانخفاض قيمة العملة. 

ما سبق يعني أن الاقتصاد المصري فقد معدلات النمو المرتفعة التي حققها خلال السنوات الماضية، وعاد حجم الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات ما قبل 2010، كأن مئات المليارات التي جرى ضخها في الاقتصاد طوال كل هذه السنوات قد تبخرت وذهبت أدراج الرياح.

الحظ وحده هو سبب الخروج من الأزمة

بعد أن تدفقت مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة، لا يوجد ضمان بأن الحكومة المصرية ستتجه نحو تنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية، وهو ما أكدته نشرة “حوار البحر المتوسط” التابعة للخارجية الإيطالية.

تقول النشرة أن التفاؤل بشأن تحقيق الاقتصاد المصري تقدماً ملموساً لا يزال شأناً لا بد من توخي الحذر تجاهه، بسبب تاريخ البلاد في الفشل في الوفاء بتعهدات الإصلاح، وإبعاد مؤسسات الدولة عن الاقتصاد، وطرح رؤية وسياسة متماسكة لتحسين سبل عيش المواطنين في المستقبل. 

يرى الباحث المتخصص في برامج الاقتصاد العالمي دايفيد لوبين في مقاله المنشور في أحد أكبر مراكز الأبحاث البريطانية، إن الحظ هو من ساعد مصر على تأمين مثل هذه التدفقات المالية الهائلة، وذلك نتيجة قربها من جيران أثرياء مستعدين لدعمها ومنعها من الانهيار، وامتلاكها موقع استراتيجياً في جزء هش من العالم.

يضيف لوبين أن مصر تعوّل أيضاً على دورها في تحقيق الاستقرار في قطاع غزة، وأهميتها السياسية بالنسبة للولايات المتحدة، مشيراً إلى أن أي بلد حصل على مثل هذه الفرصة، كان ليصبح وضعه أفضل إذا كان يمتلك صناع سياسات يتمتعون بالمهارة، ولا يراهنون فقط على الحظ.

يستمر لوبين في التشكيك في إمكانية إجراء الحكومة المصرية لإصلاحات تُساهم في حل أزمة العملة، وتخفيض مستويات التضخم وخروج الدولة من الاقتصاد، يكتب: “من الصعب تخيل كيف يمكن للرئيس السيسي أن يقلل من دور الجيش في الاقتصاد دون تقويض حكمه”.