تثبيت شاشة تلفزيونية عملاقة في ساحة تروكاديرو الباريسية، يكون عادةً بغرض بثّ حدث على قدر كبير من الأهمية. يوم الاثنين 4 آذار/ مارس، نظمت جمعيات نسوية عدة تجمعاً لمتابعة الجلسة البرلمانية الخاصة بإدراج حق “الإجهاض الطوعي” في الدستور الفرنسي، ما يشير إلى أهمية الحدث.
بعد 18 شهراً من المداولات البرلمانية وتقديم مشاريع قوانين، وبعد معركة سياسية وإعلامية، وافق البرلمان الفرنسي في جلسة مشتركة جمعت غرفتيه (مجلس الشيوخ والجمعية الوطنية)، على إضافة فقرة دستورية تنصّ على ما يلي: “يحدد القانون الشروط التي تمارس بموجبها النساء حريتهن المكفولة في اللجوء إلى الإجهاض الطوعي”.
البرلمان الفرنسي أقرّ النص بغالبية 780 صوتاً ومعارضة 72 وامتناع 50. اعتماد عبارة “حريتهن” عوضاً عن “حقهن” كان بغرض كسب أصوات اليمين المحافظ الذي يرفض الإجهاض. السؤال التلقائي الذي يُطرح: ما القيمة المضافة من استحداث هذه الفقرة الدستورية؟
في الواقع، لن تغير شيئاً من شروط الاستفادة من الإجهاض الطوعي، التي نصّ عليها قانون العام 1975، فالمرأة الحامل ستبقى الوحيدة المؤهلة طلب الإجهاض، بعبارة أخرى ما من أحد سواها يملك “سيادة على جسدها”. وعملية الإجهاض ستظلّ ممكنة حتى الأسبوع السادس عشر من الحمل، كما يتكفّل الضمان الصحي بالنفقات كافة، وبإمكان الحامل عدم الإفصاح عن هويتها في المعاملات الإدارية.
حصانة دستوريّة لحق الإجهاض
الإشارة إلى هذا القانون في نص دستوري تعني تحصينه: مستقبلاً، لو أمسك حزب جديد بالغالبية النيابية، واضعاً نصب عينيه إلغاء القانون المذكور، فلن تكون مهمّته يسيرة. سيتوجب عليه خوض معركة تعديل دستوري، والتي تستوجب موافقة ثلثي أعضاء البرلمان الفرنسي أو الدعوة إلى استفتاء شعبي. ولو حاولت هذه الغالبية المفترضة الانتقاص من “حق النساء في الإجهاض”، سيكون المجلس الدستوري “بالمرصاد”.
وزير العدل الفرنسي أكد وظيفة هذه الفقرة الدستورية المستحدثة في تحصين قانون العام 1975. في نظر إريك دوبون موريتي، هناك خلل يتوجب تصحيحه: يرتكز قانون العام 1975 إلى ثلاثة مبادئ: حرية المعتقد (أي حق الكادر الطبي في رفض إجراء عملية إجهاض)، الحفاظ على الكرامة الإنسانية وحرية النساء في اللجوء إلى الإجهاض الطوعي. يتابع دوبون موريتي أن الدستور الفرنسي يكفل أول مبدئين، ما يفرض إدراج المبدأ الثالث بشكل مباشر.
هذه الحجة تشرّع الباب أمام سؤال آخر: هل هناك توجّه في فرنسا الى إلغاء قانون 1975، ما دفع إلى هذه الخطوة الاستباقية؟
في الحقيقة، ليس هناك من خطر ملموس سيسلب النساء قدرتهن على اللجوء إلى الإجهاض الطوعي في فرنسا. لكن قرار المحكمة الأميركية العليا، في حزيران/ يونيو 2022 ، بإلغاء الحق الدستوري للمرأة بالإجهاض، وصلت ارتداداته إلى فرنسا، قرار ما كان ممكناً لولا تعيين دونالد ترامب قضاة موالين لخطّه السياسي.
بالإضافة إلى الولايات المتحدة، أقدمت المحكمة الدستورية البولندية في العام 2020، على تقييد الإجهاض، ولم يعد مسموحاً به إلا في حالة الاغتصاب. وفي هنغاريا، صدر في العام نفسه مرسوماً عن حكومة فيكتور أوربان، اليميني المتطرف، يفرض على الحوامل الاستماع إلى نبضات الجنين قبل الشروع بالإجهاض.
الجمعيات النسوية الفرنسية إلى جانب عدد من الكتل البرلمانية، باتت تخشى من تعرّض فرنسا إلى سيناريو مشابه، لا سيما وأن وصول اليمين المتطرف إلى السلطة لم يعد مستبعداً. بالتالي، لا بد من تحصين حقوق النساء قدر الإمكان باعتبارهن إحدى الحلقات الضعيفة، ما يسهل التضييق عليهن من هذه الأحزاب المحافظة اجتماعياً.
الخلاصة، أن فرنسا باتت الدولة الأولى في العالم التي يحصن دستورها الإجهاض على هذا النحو المباشر. إذ نصت دساتير بعض البلدان على حق الاجهاض إنما بصورة غير مباشرة: على سبيل المثال، يحمي الدستور الكوبي “حق الإنجاب للنساء”، أما في الإكوادور فتضمن الدستور “الحق في تحديد عدد الأبناء”.
البرلمان الفرنسي أقرّ النص بغالبية 780 صوتاً ومعارضة 72 وامتناع 50. اعتماد عبارة “حريتهن” عوضاً عن “حقهن” كان بغرض كسب أصوات اليمين المحافظ الذي يرفض الإجهاض.
الصوم والصلاة احتجاجاً على القانون
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، دعا إلى احتفال في اليوم العالمي لحقوق النساء، أي في 8 آذار، واصفاً ما جرى بالفخر الفرنسي وبرسالة الى العالمية. ورأى رئيس الوزراء أن فرنسا بعثت برسالة تاريخية الى العالم أجمع، مفادها: جسد المرأة ملك لها فقط.
تسجيل البرلمان الفرنسي هذه السابقة أشعل حماسة بعض القيادات السياسية لاتخاذ خطوات إضافية: ماتيلد بانو، رئيسة كتلة حركة فرنسا الأبية وإحدى المبادِرات لطرح مشروع القانون، تقدمت مع زملائها باقتراح يحثّ الحكومة الفرنسية على العمل لإدراج حق الإجهاض في ميثاق الحقوق الأساسية للاتحاد الأوروبي.
في المقابل، هناك من غرّد خارج السرب، إذ دعا تجمّع أساقفة فرنسا إلى الصوم والصلاة بالتوازي مع انعقاد الجلسة البرلمانية، واصفاً الإجهاض “بالتعدي على الحياة ولا يمكن اختزاله بحقوق النساء”، مضيفاً أن معتقداتهم الدينية تدفعهم الى أن يكونوا في خدمة “حياة كل فرد منذ تشكّلها حتى ساعة الوفاة”.
لكن آراء أخرى عبرت عن اعتراضها بصورة غير مباشرة، كتغريدة النائبة السابقة ماريون مارشال (ابنة شقيقة مارين لوبان)، التي اعتبرت أن الحكومة لا تعالج الأزمات الفعلية.
ثمة اعتراضات أخذت منحى قانونياً، فالسيناتور عن حزب الجمهوريين فيليب باه، سجل اعتراضه على عبارة “المكفولة”. برأيه، قد تتحول إلى حجة قانونية تتيح للنساء الحوامل الحصول على تعويضات لمجرد عدم تمكنهن من إجراء عملية إجهاض لأي سبب كان (نقص الموارد، رفض الأطباء…). في المقابل، دافع بعض الحقوقيين عن العبارة المذكورة، معتبرين أن عدم إدراجها يفقد النص فحواه ويجعل الباب مشرعاً أمام احتمال إلغاء قانون 1975.
الإجهاض والأرض المسطّحة
وصفت أستاذة القانون آن ماري لوبورييه، كل ما جرى بالحملة الإعلامية ،إذ “انعقد البرلمان للتصويت على نص عديم الفائدة”. في مقابلة لها مع الموقع الإلكتروني لصحيفة Le Figaro ، استهزأت بما أُقرّ: “من زاوية قانونية، مجرد ضمان ثلثي أصوات البرلمانيين يسمح للمشرع بإضافة ما يشاء على النص الدستوري، كالقول إن الأرض مسطحة”.
لوبورييه انتقدت “النسويات اللواتي يطالبن بحقوق مطلقة”، مضيفة أن المادة 4 من إعلان حقوق الإنسان فرضت قيوداً على الحريات، وبموجبها لا يجوز التصرف على نحو يضرّ بالآخر.
لكن الأخطر في نظر أستاذة القانون، هو الخفة في التعامل مع الدستور. تعود بالذاكرة إلى العام 2015، وتحديداً إلى الفترة التي تلت الاعتداءات الإرهابية، عندما اقترح فرنسوا هولاند إدراج حالة الطوارئ وسحب الجنسية الفرنسية في الدستور. برأيها، كان ذلك مقترحاً من دون جدوى لوجود نصوص قانونية. وفقاً للوبورييه، مع التصويت على “دسترة الإجهاض” تم “تطويع الدستور من رئيس الجمهورية وتحويله إلى أداة دعائية، ما يعكس انعداماً في الثقافة القانونية لحكامنا، وهو أمر مقلق”.
لم تكن لوبورييه الوحيدة التي تطرقت إلى مسألة الحملة الإعلامية. إذ تساءلت صحيفة Le Monde عن الغايات السياسية للرئيس الفرنسي، بخاصة أنه لم يكن المبادر، كما لم ينخرط في هذا المسار في بدايته خشية من رفضه وتآكل رصيده. بالتالي، هل تبنّيه من ماكرون في وقت لاحق، هو لتحسين صورته في الأوساط النسوية بعد المديح الذي كاله بحق الممثل جيرار دوبارديو، متجاهلاً تهم الاغتصاب والاعتداءات الجنسية التي تلاحقه؟.