هل انتهت الحرب مع انتهاء صوت القتال؟ سنوات الموت التي مرّت، أتت على شكل دمار داخلي يبدو أقوى من دمار الأبنية وأوسع من الأحياء المنهارة كلياً حول دمشق وأبشع من الابتذال الذي مسح به الفقر مظاهرنا الخارجية، إنّه دمار معنوي سوف يبقى معنا، يذكرنا في كل لحظة حزن أو فرح بأن الأرض تحت أقدامنا هاوية لا قاع لها.
أنا اليوم لا أستطيع أن أقرأ أي تفاصيل عن الحرب. ولا عن ظروف الموت المتعددة التي أتاحها جنون الاقتتال والتعصّب. ربما تسجّل قصص الحروب لأشخاص لم يسمعوا أصوات القذائف تدوّي فجأة في آذانهم فيصيبهم الرعب من أن يكونوا هم تحديداً هدفها النهائي. لأشخاص لم يعرفوا معنى الرعب من أنباء المجازر الحقيقية التي لم تطاولهم بسبب عشوائية القدر. لشعب لم يسمع في الأخبار عن غرق سفينة مهاجرين كان يعرف أن أصدقاء له أو جيراناً ركبوها محاولين الهروب إلى الأمان ثم مشى في تشييع جنازاتهم وهو يعلم أن جثثهم قد التهمتها الأسماك.
أعجز أن أتمّ كتاباً يروي مآسي الاعتقال والتعذيب والقهر. وأنا أدري أن لي أقرباء أحياء أو شبه أموات في المعتقل. أو ينامون في قبر جماعي تحت أقدام المارة.
هذه الكتابات ربما دوّنت للتاريخ أو لأمم أخرى.

عندما قرأت قصة خالد خليفة “الموت عمل شاق” شعرت بأن إتمامها عمل شاقّ أيضاً. كنت أهرب منها وأنا أتابع حروفها. فما بين روعة كلمات الكاتب العبقري وأفكاره المتعاقبة بسرعة، لم أحتمل أن نكون نحن أبطال هذا البؤس. ويبدو أن هذه الفكرة بالذات هي التي جعلت من الكتاب قصة عالمية الأبعاد. فعندما تقرأ عن التعاسة في بلاد بعيدة وأنت في أمان محيطك اليوميّ تتعاطف معها وترضى إنسانيتك عنك وتشعر بأنك في حماية مجتمعك وتصغر في عينيك همومك أمام قسوة واقع الآخرين.
وبالمقابل تبدو أخبار الرفاهية في أعيننا تافهة وباهتة. أتابع أخبار السعادة على وجوه الآخرين بدهشة أقرب إلى عدم التصديق. وكأن الحزن قاعدة نتكّل عليها. في أعماقنا مرارة لا تزيلها صور ابتسامات المشاهير المزيفة ولا رقصات العروسين في الاحتفالات الفخمة ولا حتى صور الجبنة البيضاء مع البطيخ في الصباحات الحارة.
أشعر أحياناً بأنني شفيت تماماً من ذاكرتي المترعة بقصص الخراب والموت ولكنها تعود بلحظة حين أصادف مصاباً يصارع حفر الرصيف بقدمه الاصطناعية. أو أم شهيد تبتسم بمرارة وهي تحاول إقناعنا وإقناع نفسها بشجاعتها وعدالة قضية لا علاقة لقلب الأم فيها.
إقرأوا أيضاً:
الحرب ليست صدمة تمضي ثم نعالج آثارها بهدوء عندما تنتهي. الحرب مرض مزمن لا علاج منه. تتجاهله لتعيش لكنه لا يُشفى. تحاول استبعاد مفردات الدمار الداخلي لكنها موجودة في مكان ما تحت اللسان مباشرة. طعم مرارتها لا يزيله أي نوع من “حلاوة” الأخبار. لا حكايا الانتصارات ولا نجاحات الذين نجوا بعدما طلبوا اللجوء في البلاد البعيدة ولا ذاكرة الزمن الجميل الذي ذهب إلى غير رجعة.
وعندما أحاول ترتيب أولوياتي في زمن السلام أجد أنني أبحث حولي عن سبب يثير قلقي. الهدوء نفسه يثير قلقي. أخبر نفسي أنه من الخطأ أن أستسلم للهدوء. ومن الأفضل أن أتنبّأ بمصيبة ما قبل حدوثها حتى لا أُفاجأ بها. وهكذا أستحضر البلاء قبل وقوعه وأفكّر بحلول مختلفة وأقلق وأقلق. فهل أعتبر نفسي في حالتي هذه من “الناجين” من الحرب؟
أستذكر قضية الخوف من الموت في الثقافات البدائية وكيف أن الشامان في القبائل الأفريقية كان يحكم بالموت على المذنب فيموت الأخير من الخوف بعد الفترة التي حدّدها المشعوذ بالظبط. فيزداد المؤمنون إيماناً وتتضّخم قدرات المشعوذين وتستحوذ على مزيد من الأرواح.
أريد أن أكتب عن الحرب، في ذاكرتي قصص مروّعة. ولكنني لا أجرؤ على استعادتها. تخونني المفردات فأهرب وأفتّش عن دواء لهذه المرارة. تلعب هذه الذاكرة لعبة القط والفأر فتظهر فجأة وتختفي بعد حين.
فهل حكمت علينا الحرب بالموت قلقاً؟ وهل انتهى الخراب الكبير أم بدأ لتوّه؟
إقرأوا أيضاً: