ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

هل ماتت السينما المستقلّة في مصر؟ 

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

إن أزمة محمود يحيى لم تكن حدثاً عابراً، بل جرس إنذار لجيل كامل. حين يختار مخرج شابّ الاعتصام والإضراب عن الطعام من أجل أن يعرض فيلمه، فهذا يعني أن كلّ الطرق التقليدية باتت مسدودة، وأنه حتى البدائل مثل “زاوية”، لم تعد تملك القدرة أو الرغبة في أن تكون سنداً حقيقياً. والأخطر أن الخلافات بين صنّاع السينما المستقلّة أنفسهم تحوّلت إلى ثغرة تتسرّب منها كلّ أشكال الإحباط، بدلاً من أن تُبنى شبكات تضامن تحمي هذا التيّار.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

لم يكن المشهد عابراً حين جلس المخرج الشابّ محمود يحيى على رصيف أمام سينما “زاوية” في وسط القاهرة. شابّ ترك بلدته الصغيرة في إحدى مدن محافظة المنيا، مهرولاً إلى القاهرة، حيث الأحلام هنا ممكنة، كما تخيّل! وبعد سنوات أنهى دراسته في معهد السينما، قرّر أن يخوض تجربته الأولى بصناعة أوّل أفلامه الطويلة “اختيار مريم”. لم ينتظر دعماً من مؤسّسات أو جهات مانحة، بل جمع مدخّراته وأنفقها على مشروعه، مدفوعاً بالشغف وحده، وبإيمان أن السينما تُصنع أيضاً خارج حسابات السوق. 

النتيجة كانت مشهداً استثنائياً: مخرج شابّ يعتصم على الرصيف أمام دار عرض، رافعاً لافتة تقول “عايز أعرض فيلمي”. اعتصام بسيط، لكنّه أطلق جدلاً واسعاً في الوسط المستقلّ. وبينما تعاطف معه البعض، صبّ عليه كثير من زملائه غضباً وسخرية. المفارقة أن هؤلاء، الذين يعانون مثله من انسداد المسارات، وقفوا ضدّه بحجّة أن وراءه موزعاً كبيراً مثل شركة “ماد سوليوشنز”، وأن وجود شركة بهذا الحجم يفترض أن يفتح له أبواباً لا تتاح لغيره. 

لكنّ هذا التبرير كشف هشاشة الوسط المستقلّ أكثر مما فسّر الموقف. فبدل أن يتحوّل احتجاج يحيى إلى لحظة تضامن، صار مناسبة للتجريح الشخصي باتّهامه بخلل في صحّته العقلية والتشكيك في نواياه، وكأن الخروج عن “قواعد اللعبة” جريمة. لقد صار الشابّ الغريب عن “الشِلل” هدفاً للتهم، بدلاً من أن يكون رمزاً لمعاناة مشتركة. 

اعتصام المخرج محمود يحيى لم يغيّر مصير فيلمه، لكنّه نجح في فضح مأزق جيل كامل: جيل يصنع أفلاماً بجهده، ويصل أحياناً إلى مهرجانات دولية، ثم يعود ليكتشف أن لا مكان لعمله في بلده. وإذا كان خرّيج معهد السينما، صنع فيلماً بماله الخاصّ، ومعه موزّع معروف، لا يجد منفذاً للعرض، فكيف تكون حال من هم أقلّ حظاً؟

الفيلم، الذي كان بالنسبة إلى يحيى مشروع عمر، اصطدم بعقبة بدت كجدار صلب: سينما “زاوية” التي رفضت برمجة الفيلم، كانت صدمته قاسية: كيف تُغلق في وجهه آخر نافذة أمل كان يظنّها ملاذاً طبيعياً لأمثاله؟ بينما كان واضعاً ثقته في أن “زاوية” التي عُرفت لسنوات كملاذ أخير لصنّاع السينما المستقلّة، ستفتح له باب العرض. لكنّ الصدمة جاءت حين اصطدم بالرفض المتكرّر، وبالصمت، ثم ببيان رسمي من إدارة “زاوية”، قالت فيه إنها “دار عرض وليست موزّعاً”، وإنها غير ملزمة ببرمجة كلّ فيلم.

لكنّ قواعد اللعبة انقلبت تماماً، فبعد أيّام من التوتّر، أصدرت “زاوية” بياناً جديداً أكّدت فيه أنها عرضت على شركة توزيع الفيلم “ماد سوليوشنز” تنظيم عرض في القاعة، البيان أوضح أنها سوف تعرض الفيلم فقط “حرصاً على حياة المخرج”، لا لاعتبارات تتعلّق بالفيلم نفسه، وهو ما زاد الموقف تعقيداً، لكنّ يحيى رفض هذا الحلّ، معتبراً أن العرض يفقد قيمته إن لم يأتِ عبر مخاطبة رسمية من الموزّع إلى دار العرض. 

بهذا الموقف، بدا وكأن الأزمة دخلت مرحلة أكثر التباساً: دار العرض تقول إنها ليست مسؤولة عن التوزيع، وشركة التوزيع تلتزم الصمت، والمخرج يرفض أي حلول وسطية. 

هذا التشابك فتح نقاشاً محتدماً داخل الوسط السينمائي: فهناك من رأى أن يحيى دافع بشجاعة عن حقّه في عرض فيلمه بشكل كامل ورسمي، وفضح هشاشة المنظومة التي تدّعي دعم الاستقلالية، بينما تتنصّل من مسؤوليّاتها. لكن في المقابل، وُجّهت له انتقادات واسعة من زملاء له، بعضهم، لأنه رفض فرصة عرض قد لا يحلم بها كثيرون، وبعضهم اعتبر أن الإضراب عن الطعام ابتزاز، ووسيلة قصوى لا تليق بجوهر العمل السينمائي. 

قال هؤلاء: “كم من أفلام رُفضت ولم تعرض، ولم يدفع صنّاعها هذا الثمن الشخصي القاسي؟”، ومع ذلك ظلّ يحيى مصرّاً على أن معركته ليست شخصية بل مبدئية، وأن الحلول الترقيعية لا تصنع تيّاراً سينمائياً مستقلاً.

اليوم، لا يبدو أن هناك طاقة أمل كافية لمواجهة هذا الانسداد. الأبواب شبه مغلقة أمام التمويل، الرقابة مستمرّة في تضييقها، وشركات الإنتاج الكبرى ماضية في ضخّ أفلام تجارية سريعة الزوال، بينما يتناقص جمهور السينما يوماً بعد يوم مع إغلاق القاعات. السينما المستقلّة التي وُلدت كفعل مقاومة، لم تعد تملك حتى فضاءً صغيراً لتتنفّس فيه. في النهاية، قد تبقى بعض المحاولات الفردية تلمع هنا وهناك، لكنّ التيّار الذي حلم محمّد خان بإنشائه، وسعى ابراهيم البطّوط لتوسيعه، وخاض جيل جديد معاركه من أجله، يبدو اليوم على وشك أن يُكتب على قبره: “هنا ترقد السينما المستقلّة في مصر”.

ومع ذلك، يبقى من المهم الذكر أن التواصل مع يحيى نفسه تعذّر، فقد فضّل عدم الحديث عبر الصحافة أو التلفزيون، مكتفياً بما يدوّنه على صفحته الشخصية. ربما كان ذلك رفضاً قاطعاً لأن تُختزل أزمته في تصريحات متناثرة، وربما كان تعبيراً عن موقف شخصي أعمق، في كلّ الأحوال، هو قرار أحترمه وأتفهّمه. 

من البدايات الرقمية إلى محاولات البقاء…

عن خان والبطّوط… الاستقلال المحفوف بالمخاطر

عندما ظهرت كاميرات الديجيتال (الرقمية) في أوائل الألفية، فتحت باباً لم يكن موجوداً من قبل. فجأة أصبح بالإمكان تصوير فيلم بميزانية محدودة، من دون الحاجة إلى معدّات السينما الثقيلة. هذا التحوّل لم يكن تقنياً فقط، بل ثقافي أيضاً: وُلدت موجة جديدة حملت اسم “السينما المستقلّة”، منحت شباباً من دون سند إنتاجي فرصة لحفر مكان لأنفسهم. 

الموجة ارتبطت منذ بداياتها بروح التمرّد. فالأفلام التي ظهرت لم تكن مجرّد محاولات إنتاج رخيصة، بل تحدّيات جمالية وفكرية للسائد. في التسعينيات، قدّم أسامة فوزي فيلم “عفاريت الأسفلت”، ويسري نصر الله فيلم “المدينة”، كخطوات أولى نحو كسر النموذج التجاري. لكنّ اللحظة الفارقة جاءت مع محمّد خان، الذي قرّر تصوير فيلم “كليفتي” بكاميرا ديجيتال. خطوة بدت جريئة من مخرج كبير في زمن كان فيه “الفورمات” الرقمي يُعتبر أدنى منزلة وبديلاً للخام الذي كان يصوّر به الفيلم السينمائي التقليدي. 

حين يُذكر اسم محمّد خان في سياق الحديث عن السينما المستقلّة في مصر، يتبادر إلى الذهن دائماً أنه كان “المؤسّس غير المعلن” لهذا التيّار. خان لم يكن مجرّد مخرج بارز من جيل الواقعية الجديدة في الثمانينيات، بل كان صاحب موقف فنّي وشخصي ثابت: السينما بالنسبة إليه مرآة للناس الحقيقيين، لحياتهم اليومية بأفراحها وانكساراتها، بعيداً عن الصيغ الاستهلاكية التي سادت في السوق.

 لم ينتظر خان دعماً مؤسّسياً ليصنع أفلامه، منذ بداياته وأوّل أفلامه “ضربة شمس” (١٩٧٨)، ثم في الثمانينيات سعى إلى تصوير الشارع المصري كما هو، بعيداً عن الاستوديوهات والديكورات المصطنعة. أفلام مثل “أحلام هند وكاميليا” (1988) و”الحريف” (1983) قدّمت لأوّل مرّة صورة الناس البسطاء وعلاقتهم بالمدينة، بميزانيات محدودة وأسلوب بصري قريب من الوثيقة. 

لكنّ اللحظة الفاصلة جاءت في عام 2003 مع فيلمه “كليفتي”، حين كان أوّل مخرج مصري معروف، يغامر باستخدام كاميرا ديجيتال صغيرة لتصوير فيلم روائي طويل. تجربة بدت أقرب إلى “تمرين مبكر” على الاستقلالية التقنية، حيث سمحت له التقنية بتقليص التكاليف والتحرّر من بعض القيود، هذه المغامرة لم تكن مجرّد اختيار تقني، بل إعلان صريح بأن السينما يمكن أن تتحقّق بأدوات جديدة، خفيفة ورخيصة، تتيح حرّية حركة وتحرّرا من قبضة شركات الإنتاج التقليدية. 

ورغم أن خان عاد لاحقاً ليعمل مع شركات إنتاج في أفلام مثل “في شقّة مصر الجديدة” ثم “فتاة المصنع”، فإن هذه العودة لم تكن تنازلاً بقدر ما كانت محاولة لإيجاد مساحة وسطية: فيلم يُنتج بشكل رسمي لكنّه يحتفظ بروح الاستقلال والجرأة في طرح قضايا الطبقة العاملة والنساء المهمّشات. 

لكنّ فيلمه الأخير “فتاة المصنع” هو الذي كرّس صورته كأب روحي للسينما المستقلّة في زمن جديد. الفيلم تمّ تصويره بتمويل محدود، وخاض رحلة شاقّة حتى خرج إلى النور، ورغم صعوبة التوزيع واشتراطات السوق، جاب مهرجانات دولية وحصد جوائز، وأكّد أن خان لم يكن فقط من جيل الكبار، بل أيضاً من الآباء المؤسّسين لسينما مختلفة، منحازة لليومي والهامشي والمهمّش.

مشروعه الأخير غير المكتمل “نسمة”، الذي كتبته وسام سليمان، ظلّ شاهداً على الصعوبات التي تواجه صانع مستقّل حتى لو كان اسمه محمّد خان. المشروع توقّف ولم يرَ النور، في دلالة مُرّة على أن السينما المستقلّة في مصر لا تنجو فقط بالموهبة أو بالتاريخ، بل تحتاج إلى منظومة كاملة لم تتشكّل بعد. 

إذا كان خان قد مثّل الجسر بين السينما التقليدية ومحاولات الاستقلال، فإن ابراهيم البطّوط هو الذي دشّن التجربة الأكثر صداماً ووضوحاً مع السوق والسلطة في آن واحد. البطّوط بدأ حياته صانعاً للأفلام الوثائقية، متنقّلاً بين مناطق الحرب والصراع في البلقان والخليج وأفريقيا. تلك الخلفية منحت أعماله حساسية خاصّة: الكاميرا عنده ليست أداة جمالية فقط، بل عين شاهدة على المأساة الإنسانية. 

حين عاد إلى القاهرة منتصف العقد الأوّل من الألفية، قرّر أن يصنع فيلماً روائياً بميزانية شبه معدومة، مستخدماً خبراته الوثائقية في التقاط الحياة كما هي. هكذا وُلد فيلم “عين شمس” (2008). صوّر الفيلم في الشوارع بحركة كاميرا قريبة من الناس، وبأداء ممثّلين غير محترفين أحياناً، ليحكي قصّة طفلة تبحث عن معنى الحياة وسط قسوة المدينة.

لكنّ المعركة الحقيقية لم تكن في التصوير، بل في العرض. لم يحصل “عين شمس” على تصريح رقابي في البداية، وواجه تعنّتاً طويلاً من جهاز الرقابة، قبل أن يُعرض في مساحة محدودة ثم يسافر إلى مهرجانات دولية. هذه التجربة كشفت بوضوح مأزق السينما المستقلّة: صانع أفلام يغامر بكلّ ما يملك ليصنع عملاً شديد الصدق، ثم يجد نفسه محاصراً بين بيروقراطية الدولة واحتكار دور العرض. ومع ذلك، تحوّل الفيلم إلى أيقونة مبكرة لتيّار جديد في السينما المصرية، تيّار يصرّ على أن يجد له مكاناً ولو في أضيق المساحات.

تجارب ذاتية جعلت من الحلم كابوساً

السينما المستقلّة لم تقتصر على خان والبطّوط. فهناك أسماء أخرى رسمت ملامحها: تامر السعيد بـ”آخر أيّام المدينة”، الذي صُور على مدار عشر سنوات وكان بمثابة يوميات شخصية للمدينة في لحظة تحوّلات سياسية واجتماعية، أو عمر الزهيري بفيلمه “ريش”، الذي أثار جدلاً واسعاً محلّياً ودولياً، تلاه أحمد عبد الله السيّد بفيلمه “ميكروفون” 2010، الذي التقط روح مدينة الإسكندرية عبر موسيقاها البديلة وشبابها المختلف. 

هذه الأعمال لم تكن مجرّد أفلام مستقلّة، بل كانت إعلاناً عن ظهور تيّار بديل يراهن على الحرّية، لكنّها مع مرور الوقت، ظلّت تجارب فردية أكثر منها حركة متماسكة. 

وسط هذا السياق الذي رسمه محمّد خان وابراهيم البطّوط، جاءت تجربتي الشخصية كواحدة من بنات جيل آمن بأن السينما ليست مجرّد صناعة، بل وسيلة مقاومة وبحث عن الذات. 

في عام 2006 بدأت أولى محاولاتي لصناعة الأفلام (عنبر ٦)، وكنت أظنّ أن الطريق سيكون مفتوحاً، وأن رياح “السينما المستقلّة” التي هبّت في ذلك الوقت ستفتح لنا أبواباً جديدة، لكن سرعان ما اصطدمت بواقع شديد القسوة: الرقابة التي تطارد كلّ فكرة خارج المألوف، ضعف الإمكانيات الإنتاجية، وضيق شبكة الدعم، 

من رحم هذه الظروف وُلد فيلمي الوثائقي الطويل الأول ” ع السلم”2020.

 لاحقاً، تحوّلت هذه التجربة إلى رحلة استمرّت ثمانية أعوام لصناعة فيلم “ع السلم”. تلك الرحلة كشفت لي قسوة الاستقلال: أن تتحوّل المخرجة إلى مصوّرة، مهندسة صوت، مديرة إنتاج، مونتيرة، لأن المنتج لا يملك ميزانية كافية. تجربة شخصية لكنّها تمثّل بدقّة معاناة صنّاع السينما المستقلّة في مصر. 

 كان مشروعا شخصياً، بعيد عن مقاييس السوق، وشديد التواضع من حيث الميزانية، لكنّ طموحي كان أكبر من كلّ القيود. صوّرت بإمكانيّات محدودة، من دون فريق عمل، رغم وجود جهة إنتاج، ودعم لا بأس به.  حلمت أن تصل الحكاية إلى جمهور يشبه شخصيّات الفيلم، جمهور يعيش على السلالم وضفاف المدن المهملة. لكن حين انتهيت، واجهت الجدار نفسه الذي اصطدم به البطّوط قبلي: أين يمكن لهذا الفيلم أن يُعرض؟ من سيغامر باستقبال فيلم مستقلّ لا ينتمي إلى “شلة” بعينها، ولا يملك قوّة دفع من مؤسّسات الدولة أو شركات الإنتاج الكبرى؟

كتبت عن التجربة لاحقاً في مقال نشر في مجلة “المرايا”، ضمن ملفّ عن السينما المستقلّة. حاولت أن أضع كلماتي كوثيقة، لا فقط لسرد المعاناة، بل لرسم صورة لرحلة كاملة من الحلم إلى الصدام. ما أدركته وقتها أن صناعة فيلم مستقلّ في مصر ليست مجرّد تجربة فنّية، بل معركة مفتوحة على أكثر من جبهة: ضدّ الرقابة، ضدّ السوق، ضدّ العزلة التي تفرضها المنظومة على كلّ من يحاول أن يخرج عن السياق السائد. 

حين ننظر إلى هذه الحكايات المتفرّقة، محمّد خان الذي أنهى مسيرته بمشروع متعثّر رغم تاريخه الطويل، إبراهيم البطّوط الذي صنع “عين شمس” خارج أيّ حسابات إنتاجية وواجه جدار الرقابة، تجربتي الشخصية مع “ع السلم” وما حملته من صدام مع السوق والانعزال، وأخيراً مشهد محمود يحيى المعتصم أمام سينما “زاوية”، نجد أنها ليست مجرّد وقائع فردية، بل فصول من رواية واحدة تقول إن السينما المستقلّة في مصر لم تمت بالمعنى الحرفي، لكنّها محاصرة، تُحرم من أوكسجينها الأساسي: فضاء العرض والتواصل مع الجمهور. 

اليوم، تبدو السينما المستقلّة في مصر كأنها تُصارع في غرفة ضيّقة لا نوافذ فيها. لم تعد هناك طاقة أمل تُغذّي أحلام الشباب، ولا مساحات عرض تكفي لتجاربهم. السوق منغلق على نفسه، والرقابة أكثر تشدّداً، حتى المساحات البديلة التي نشأت لدعم هذا التيّار، سرعان ما وقعت في شراك السياسة أو السوق أو الحسابات الداخلية. 

في لحظة كهذه، يصبح السؤال مشروعاً ومؤلماً في آن واحد: هل ماتت السينما المستقلّة في مصر بالفعل؟ أم أنها فقط تنتظر جيلاً جديداً يبتكر لغة ومنافذ أخرى للنجاة؟ 

وإذا كان العالم قد قدّم نماذج بديلة، فإن مصر لم تستفد منها. في كوبا، مثلاً، سمحت الحكومة قبل سنوات بفتح المجال أمام القطاع الخاصّ للمشاركة في صناعة السينما، مما خلق أشكالاً جديدة من الدعم والإنتاج والتوزيع، وأعاد الحياة إلى قاعات كانت مغلقة. في تونس والمغرب أيضاً، ظهرت مبادرات مؤسّساتية لدعم الأفلام المستقلّة باعتبارها جزءاً من القوّة الناعمة للبلد، لا عبئاً عليه. 

على مدار عقدين، كان الحلم أن يتحوّل التيّار المستقلّ إلى تيّار مؤثّر، يغيّر الذائقة ويخلق جمهوراً جديداً. لكن اليوم، يواجه المخرجون المستقلّون عزلة خانقة: شركات الإنتاج الكبرى ترفض المغامرة، مؤسّسات الدولة لا ترى في هذه السينما إلا عبئاً، والمبادرات الفردية تنهك أصحابها. 

المفارقة أن هذا الجيل، الذي صنع أفلامه بالكاميرات الرقمية وبميزانيات هزيلة، قدّم لمصر صوراً مختلفة عن المدينة والريف والإنسان المهمّش، لكنّه لم يجد لنفسه مكاناً مستقرّاً في خريطة العرض أو التوزيع. 

إن أزمة محمود يحيى لم تكن حدثاً عابراً، بل جرس إنذار لجيل كامل. حين يختار مخرج شابّ الاعتصام والإضراب عن الطعام من أجل أن يعرض فيلمه، فهذا يعني أن كلّ الطرق التقليدية باتت مسدودة، وأنه حتى البدائل مثل “زاوية”، لم تعد تملك القدرة أو الرغبة في أن تكون سنداً حقيقياً. والأخطر أن الخلافات بين صنّاع السينما المستقلّة أنفسهم تحوّلت إلى ثغرة تتسرّب منها كلّ أشكال الإحباط، بدلاً من أن تُبنى شبكات تضامن تحمي هذا التيّار. 

انسداد الطريق وغياب الأمل

اليوم، وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على بداية موجة السينما المستقلّة، نجد أنفسنا أمام مشهد مرتبك. الدعم الأوروبي والعربي بات أقلّ سخاءً وأكثر انتقائية. القاعات التجارية ترفض المغامرة، و”زاوية” لا تكفي وحدها. الرقابة لا تزال تفرض سيفها، بل ازدادت شراسة مع تصاعد موجات المحافظة على القيم الاجتماعية والأسرية في السينما. 

في هذا السياق، يصبح احتجاج محمود يحيى على الرصيف رمزاً لحقيقة مريرة، الطريق مسدود، والأحلام الفردية لا تجد من يحتضنها. لا طاقة مؤسّسية، لا دعم حكومي، ولا حتى تضامن حقيقي داخل الوسط نفسه.

لقد انطلقت السينما المستقلّة بوعد كبير، لكنّها اليوم تواجه سؤال البقاء. وربما الجواب الأقرب أن ما يحدث ليس تيّاراً مستمرّاً، بل ومضات فردية لامعة، تظهر وتختفي سريعاً، تترك أثراً عاطفياً عميقاً، لكنّها لا تصنع حركة متماسكة.

وهكذا يبقى السؤال مفتوحاً: هل ماتت السينما المستقلّة في مصر؟

ربما لم تمت تماماً، لكنّها بالتأكيد تعيش على أجهزة الإنعاش، تنتظر معجزة قد لا تأتي!

جنى بركات - صحافية لبنانية | 14.11.2025

“ستارلينك” لبنان: ما علاقتها بوزير الاتّصالات وبالشبهات المرتبطة بمعاقَب أميركياً؟ 

مع دخول "ستارلينك" إلى لبنان، برزت إشكالية حول مساعي الشركة الأميركية للتعاقد مع "Connect Services Liberia" كموزّع لخدمات "ستارلينك" في لبنان، من دون فتح باب المنافسة بين الشركات الأخرى، وهي الشركة التي سبق أن ترأّسها وزير الاتّصالات الحالي شارل الحاج. 
01.11.2025
زمن القراءة: 11 minutes

إن أزمة محمود يحيى لم تكن حدثاً عابراً، بل جرس إنذار لجيل كامل. حين يختار مخرج شابّ الاعتصام والإضراب عن الطعام من أجل أن يعرض فيلمه، فهذا يعني أن كلّ الطرق التقليدية باتت مسدودة، وأنه حتى البدائل مثل “زاوية”، لم تعد تملك القدرة أو الرغبة في أن تكون سنداً حقيقياً. والأخطر أن الخلافات بين صنّاع السينما المستقلّة أنفسهم تحوّلت إلى ثغرة تتسرّب منها كلّ أشكال الإحباط، بدلاً من أن تُبنى شبكات تضامن تحمي هذا التيّار.

لم يكن المشهد عابراً حين جلس المخرج الشابّ محمود يحيى على رصيف أمام سينما “زاوية” في وسط القاهرة. شابّ ترك بلدته الصغيرة في إحدى مدن محافظة المنيا، مهرولاً إلى القاهرة، حيث الأحلام هنا ممكنة، كما تخيّل! وبعد سنوات أنهى دراسته في معهد السينما، قرّر أن يخوض تجربته الأولى بصناعة أوّل أفلامه الطويلة “اختيار مريم”. لم ينتظر دعماً من مؤسّسات أو جهات مانحة، بل جمع مدخّراته وأنفقها على مشروعه، مدفوعاً بالشغف وحده، وبإيمان أن السينما تُصنع أيضاً خارج حسابات السوق. 

النتيجة كانت مشهداً استثنائياً: مخرج شابّ يعتصم على الرصيف أمام دار عرض، رافعاً لافتة تقول “عايز أعرض فيلمي”. اعتصام بسيط، لكنّه أطلق جدلاً واسعاً في الوسط المستقلّ. وبينما تعاطف معه البعض، صبّ عليه كثير من زملائه غضباً وسخرية. المفارقة أن هؤلاء، الذين يعانون مثله من انسداد المسارات، وقفوا ضدّه بحجّة أن وراءه موزعاً كبيراً مثل شركة “ماد سوليوشنز”، وأن وجود شركة بهذا الحجم يفترض أن يفتح له أبواباً لا تتاح لغيره. 

لكنّ هذا التبرير كشف هشاشة الوسط المستقلّ أكثر مما فسّر الموقف. فبدل أن يتحوّل احتجاج يحيى إلى لحظة تضامن، صار مناسبة للتجريح الشخصي باتّهامه بخلل في صحّته العقلية والتشكيك في نواياه، وكأن الخروج عن “قواعد اللعبة” جريمة. لقد صار الشابّ الغريب عن “الشِلل” هدفاً للتهم، بدلاً من أن يكون رمزاً لمعاناة مشتركة. 

اعتصام المخرج محمود يحيى لم يغيّر مصير فيلمه، لكنّه نجح في فضح مأزق جيل كامل: جيل يصنع أفلاماً بجهده، ويصل أحياناً إلى مهرجانات دولية، ثم يعود ليكتشف أن لا مكان لعمله في بلده. وإذا كان خرّيج معهد السينما، صنع فيلماً بماله الخاصّ، ومعه موزّع معروف، لا يجد منفذاً للعرض، فكيف تكون حال من هم أقلّ حظاً؟

الفيلم، الذي كان بالنسبة إلى يحيى مشروع عمر، اصطدم بعقبة بدت كجدار صلب: سينما “زاوية” التي رفضت برمجة الفيلم، كانت صدمته قاسية: كيف تُغلق في وجهه آخر نافذة أمل كان يظنّها ملاذاً طبيعياً لأمثاله؟ بينما كان واضعاً ثقته في أن “زاوية” التي عُرفت لسنوات كملاذ أخير لصنّاع السينما المستقلّة، ستفتح له باب العرض. لكنّ الصدمة جاءت حين اصطدم بالرفض المتكرّر، وبالصمت، ثم ببيان رسمي من إدارة “زاوية”، قالت فيه إنها “دار عرض وليست موزّعاً”، وإنها غير ملزمة ببرمجة كلّ فيلم.

لكنّ قواعد اللعبة انقلبت تماماً، فبعد أيّام من التوتّر، أصدرت “زاوية” بياناً جديداً أكّدت فيه أنها عرضت على شركة توزيع الفيلم “ماد سوليوشنز” تنظيم عرض في القاعة، البيان أوضح أنها سوف تعرض الفيلم فقط “حرصاً على حياة المخرج”، لا لاعتبارات تتعلّق بالفيلم نفسه، وهو ما زاد الموقف تعقيداً، لكنّ يحيى رفض هذا الحلّ، معتبراً أن العرض يفقد قيمته إن لم يأتِ عبر مخاطبة رسمية من الموزّع إلى دار العرض. 

بهذا الموقف، بدا وكأن الأزمة دخلت مرحلة أكثر التباساً: دار العرض تقول إنها ليست مسؤولة عن التوزيع، وشركة التوزيع تلتزم الصمت، والمخرج يرفض أي حلول وسطية. 

هذا التشابك فتح نقاشاً محتدماً داخل الوسط السينمائي: فهناك من رأى أن يحيى دافع بشجاعة عن حقّه في عرض فيلمه بشكل كامل ورسمي، وفضح هشاشة المنظومة التي تدّعي دعم الاستقلالية، بينما تتنصّل من مسؤوليّاتها. لكن في المقابل، وُجّهت له انتقادات واسعة من زملاء له، بعضهم، لأنه رفض فرصة عرض قد لا يحلم بها كثيرون، وبعضهم اعتبر أن الإضراب عن الطعام ابتزاز، ووسيلة قصوى لا تليق بجوهر العمل السينمائي. 

قال هؤلاء: “كم من أفلام رُفضت ولم تعرض، ولم يدفع صنّاعها هذا الثمن الشخصي القاسي؟”، ومع ذلك ظلّ يحيى مصرّاً على أن معركته ليست شخصية بل مبدئية، وأن الحلول الترقيعية لا تصنع تيّاراً سينمائياً مستقلاً.

اليوم، لا يبدو أن هناك طاقة أمل كافية لمواجهة هذا الانسداد. الأبواب شبه مغلقة أمام التمويل، الرقابة مستمرّة في تضييقها، وشركات الإنتاج الكبرى ماضية في ضخّ أفلام تجارية سريعة الزوال، بينما يتناقص جمهور السينما يوماً بعد يوم مع إغلاق القاعات. السينما المستقلّة التي وُلدت كفعل مقاومة، لم تعد تملك حتى فضاءً صغيراً لتتنفّس فيه. في النهاية، قد تبقى بعض المحاولات الفردية تلمع هنا وهناك، لكنّ التيّار الذي حلم محمّد خان بإنشائه، وسعى ابراهيم البطّوط لتوسيعه، وخاض جيل جديد معاركه من أجله، يبدو اليوم على وشك أن يُكتب على قبره: “هنا ترقد السينما المستقلّة في مصر”.

ومع ذلك، يبقى من المهم الذكر أن التواصل مع يحيى نفسه تعذّر، فقد فضّل عدم الحديث عبر الصحافة أو التلفزيون، مكتفياً بما يدوّنه على صفحته الشخصية. ربما كان ذلك رفضاً قاطعاً لأن تُختزل أزمته في تصريحات متناثرة، وربما كان تعبيراً عن موقف شخصي أعمق، في كلّ الأحوال، هو قرار أحترمه وأتفهّمه. 

من البدايات الرقمية إلى محاولات البقاء…

عن خان والبطّوط… الاستقلال المحفوف بالمخاطر

عندما ظهرت كاميرات الديجيتال (الرقمية) في أوائل الألفية، فتحت باباً لم يكن موجوداً من قبل. فجأة أصبح بالإمكان تصوير فيلم بميزانية محدودة، من دون الحاجة إلى معدّات السينما الثقيلة. هذا التحوّل لم يكن تقنياً فقط، بل ثقافي أيضاً: وُلدت موجة جديدة حملت اسم “السينما المستقلّة”، منحت شباباً من دون سند إنتاجي فرصة لحفر مكان لأنفسهم. 

الموجة ارتبطت منذ بداياتها بروح التمرّد. فالأفلام التي ظهرت لم تكن مجرّد محاولات إنتاج رخيصة، بل تحدّيات جمالية وفكرية للسائد. في التسعينيات، قدّم أسامة فوزي فيلم “عفاريت الأسفلت”، ويسري نصر الله فيلم “المدينة”، كخطوات أولى نحو كسر النموذج التجاري. لكنّ اللحظة الفارقة جاءت مع محمّد خان، الذي قرّر تصوير فيلم “كليفتي” بكاميرا ديجيتال. خطوة بدت جريئة من مخرج كبير في زمن كان فيه “الفورمات” الرقمي يُعتبر أدنى منزلة وبديلاً للخام الذي كان يصوّر به الفيلم السينمائي التقليدي. 

حين يُذكر اسم محمّد خان في سياق الحديث عن السينما المستقلّة في مصر، يتبادر إلى الذهن دائماً أنه كان “المؤسّس غير المعلن” لهذا التيّار. خان لم يكن مجرّد مخرج بارز من جيل الواقعية الجديدة في الثمانينيات، بل كان صاحب موقف فنّي وشخصي ثابت: السينما بالنسبة إليه مرآة للناس الحقيقيين، لحياتهم اليومية بأفراحها وانكساراتها، بعيداً عن الصيغ الاستهلاكية التي سادت في السوق.

 لم ينتظر خان دعماً مؤسّسياً ليصنع أفلامه، منذ بداياته وأوّل أفلامه “ضربة شمس” (١٩٧٨)، ثم في الثمانينيات سعى إلى تصوير الشارع المصري كما هو، بعيداً عن الاستوديوهات والديكورات المصطنعة. أفلام مثل “أحلام هند وكاميليا” (1988) و”الحريف” (1983) قدّمت لأوّل مرّة صورة الناس البسطاء وعلاقتهم بالمدينة، بميزانيات محدودة وأسلوب بصري قريب من الوثيقة. 

لكنّ اللحظة الفاصلة جاءت في عام 2003 مع فيلمه “كليفتي”، حين كان أوّل مخرج مصري معروف، يغامر باستخدام كاميرا ديجيتال صغيرة لتصوير فيلم روائي طويل. تجربة بدت أقرب إلى “تمرين مبكر” على الاستقلالية التقنية، حيث سمحت له التقنية بتقليص التكاليف والتحرّر من بعض القيود، هذه المغامرة لم تكن مجرّد اختيار تقني، بل إعلان صريح بأن السينما يمكن أن تتحقّق بأدوات جديدة، خفيفة ورخيصة، تتيح حرّية حركة وتحرّرا من قبضة شركات الإنتاج التقليدية. 

ورغم أن خان عاد لاحقاً ليعمل مع شركات إنتاج في أفلام مثل “في شقّة مصر الجديدة” ثم “فتاة المصنع”، فإن هذه العودة لم تكن تنازلاً بقدر ما كانت محاولة لإيجاد مساحة وسطية: فيلم يُنتج بشكل رسمي لكنّه يحتفظ بروح الاستقلال والجرأة في طرح قضايا الطبقة العاملة والنساء المهمّشات. 

لكنّ فيلمه الأخير “فتاة المصنع” هو الذي كرّس صورته كأب روحي للسينما المستقلّة في زمن جديد. الفيلم تمّ تصويره بتمويل محدود، وخاض رحلة شاقّة حتى خرج إلى النور، ورغم صعوبة التوزيع واشتراطات السوق، جاب مهرجانات دولية وحصد جوائز، وأكّد أن خان لم يكن فقط من جيل الكبار، بل أيضاً من الآباء المؤسّسين لسينما مختلفة، منحازة لليومي والهامشي والمهمّش.

مشروعه الأخير غير المكتمل “نسمة”، الذي كتبته وسام سليمان، ظلّ شاهداً على الصعوبات التي تواجه صانع مستقّل حتى لو كان اسمه محمّد خان. المشروع توقّف ولم يرَ النور، في دلالة مُرّة على أن السينما المستقلّة في مصر لا تنجو فقط بالموهبة أو بالتاريخ، بل تحتاج إلى منظومة كاملة لم تتشكّل بعد. 

إذا كان خان قد مثّل الجسر بين السينما التقليدية ومحاولات الاستقلال، فإن ابراهيم البطّوط هو الذي دشّن التجربة الأكثر صداماً ووضوحاً مع السوق والسلطة في آن واحد. البطّوط بدأ حياته صانعاً للأفلام الوثائقية، متنقّلاً بين مناطق الحرب والصراع في البلقان والخليج وأفريقيا. تلك الخلفية منحت أعماله حساسية خاصّة: الكاميرا عنده ليست أداة جمالية فقط، بل عين شاهدة على المأساة الإنسانية. 

حين عاد إلى القاهرة منتصف العقد الأوّل من الألفية، قرّر أن يصنع فيلماً روائياً بميزانية شبه معدومة، مستخدماً خبراته الوثائقية في التقاط الحياة كما هي. هكذا وُلد فيلم “عين شمس” (2008). صوّر الفيلم في الشوارع بحركة كاميرا قريبة من الناس، وبأداء ممثّلين غير محترفين أحياناً، ليحكي قصّة طفلة تبحث عن معنى الحياة وسط قسوة المدينة.

لكنّ المعركة الحقيقية لم تكن في التصوير، بل في العرض. لم يحصل “عين شمس” على تصريح رقابي في البداية، وواجه تعنّتاً طويلاً من جهاز الرقابة، قبل أن يُعرض في مساحة محدودة ثم يسافر إلى مهرجانات دولية. هذه التجربة كشفت بوضوح مأزق السينما المستقلّة: صانع أفلام يغامر بكلّ ما يملك ليصنع عملاً شديد الصدق، ثم يجد نفسه محاصراً بين بيروقراطية الدولة واحتكار دور العرض. ومع ذلك، تحوّل الفيلم إلى أيقونة مبكرة لتيّار جديد في السينما المصرية، تيّار يصرّ على أن يجد له مكاناً ولو في أضيق المساحات.

تجارب ذاتية جعلت من الحلم كابوساً

السينما المستقلّة لم تقتصر على خان والبطّوط. فهناك أسماء أخرى رسمت ملامحها: تامر السعيد بـ”آخر أيّام المدينة”، الذي صُور على مدار عشر سنوات وكان بمثابة يوميات شخصية للمدينة في لحظة تحوّلات سياسية واجتماعية، أو عمر الزهيري بفيلمه “ريش”، الذي أثار جدلاً واسعاً محلّياً ودولياً، تلاه أحمد عبد الله السيّد بفيلمه “ميكروفون” 2010، الذي التقط روح مدينة الإسكندرية عبر موسيقاها البديلة وشبابها المختلف. 

هذه الأعمال لم تكن مجرّد أفلام مستقلّة، بل كانت إعلاناً عن ظهور تيّار بديل يراهن على الحرّية، لكنّها مع مرور الوقت، ظلّت تجارب فردية أكثر منها حركة متماسكة. 

وسط هذا السياق الذي رسمه محمّد خان وابراهيم البطّوط، جاءت تجربتي الشخصية كواحدة من بنات جيل آمن بأن السينما ليست مجرّد صناعة، بل وسيلة مقاومة وبحث عن الذات. 

في عام 2006 بدأت أولى محاولاتي لصناعة الأفلام (عنبر ٦)، وكنت أظنّ أن الطريق سيكون مفتوحاً، وأن رياح “السينما المستقلّة” التي هبّت في ذلك الوقت ستفتح لنا أبواباً جديدة، لكن سرعان ما اصطدمت بواقع شديد القسوة: الرقابة التي تطارد كلّ فكرة خارج المألوف، ضعف الإمكانيات الإنتاجية، وضيق شبكة الدعم، 

من رحم هذه الظروف وُلد فيلمي الوثائقي الطويل الأول ” ع السلم”2020.

 لاحقاً، تحوّلت هذه التجربة إلى رحلة استمرّت ثمانية أعوام لصناعة فيلم “ع السلم”. تلك الرحلة كشفت لي قسوة الاستقلال: أن تتحوّل المخرجة إلى مصوّرة، مهندسة صوت، مديرة إنتاج، مونتيرة، لأن المنتج لا يملك ميزانية كافية. تجربة شخصية لكنّها تمثّل بدقّة معاناة صنّاع السينما المستقلّة في مصر. 

 كان مشروعا شخصياً، بعيد عن مقاييس السوق، وشديد التواضع من حيث الميزانية، لكنّ طموحي كان أكبر من كلّ القيود. صوّرت بإمكانيّات محدودة، من دون فريق عمل، رغم وجود جهة إنتاج، ودعم لا بأس به.  حلمت أن تصل الحكاية إلى جمهور يشبه شخصيّات الفيلم، جمهور يعيش على السلالم وضفاف المدن المهملة. لكن حين انتهيت، واجهت الجدار نفسه الذي اصطدم به البطّوط قبلي: أين يمكن لهذا الفيلم أن يُعرض؟ من سيغامر باستقبال فيلم مستقلّ لا ينتمي إلى “شلة” بعينها، ولا يملك قوّة دفع من مؤسّسات الدولة أو شركات الإنتاج الكبرى؟

كتبت عن التجربة لاحقاً في مقال نشر في مجلة “المرايا”، ضمن ملفّ عن السينما المستقلّة. حاولت أن أضع كلماتي كوثيقة، لا فقط لسرد المعاناة، بل لرسم صورة لرحلة كاملة من الحلم إلى الصدام. ما أدركته وقتها أن صناعة فيلم مستقلّ في مصر ليست مجرّد تجربة فنّية، بل معركة مفتوحة على أكثر من جبهة: ضدّ الرقابة، ضدّ السوق، ضدّ العزلة التي تفرضها المنظومة على كلّ من يحاول أن يخرج عن السياق السائد. 

حين ننظر إلى هذه الحكايات المتفرّقة، محمّد خان الذي أنهى مسيرته بمشروع متعثّر رغم تاريخه الطويل، إبراهيم البطّوط الذي صنع “عين شمس” خارج أيّ حسابات إنتاجية وواجه جدار الرقابة، تجربتي الشخصية مع “ع السلم” وما حملته من صدام مع السوق والانعزال، وأخيراً مشهد محمود يحيى المعتصم أمام سينما “زاوية”، نجد أنها ليست مجرّد وقائع فردية، بل فصول من رواية واحدة تقول إن السينما المستقلّة في مصر لم تمت بالمعنى الحرفي، لكنّها محاصرة، تُحرم من أوكسجينها الأساسي: فضاء العرض والتواصل مع الجمهور. 

اليوم، تبدو السينما المستقلّة في مصر كأنها تُصارع في غرفة ضيّقة لا نوافذ فيها. لم تعد هناك طاقة أمل تُغذّي أحلام الشباب، ولا مساحات عرض تكفي لتجاربهم. السوق منغلق على نفسه، والرقابة أكثر تشدّداً، حتى المساحات البديلة التي نشأت لدعم هذا التيّار، سرعان ما وقعت في شراك السياسة أو السوق أو الحسابات الداخلية. 

في لحظة كهذه، يصبح السؤال مشروعاً ومؤلماً في آن واحد: هل ماتت السينما المستقلّة في مصر بالفعل؟ أم أنها فقط تنتظر جيلاً جديداً يبتكر لغة ومنافذ أخرى للنجاة؟ 

وإذا كان العالم قد قدّم نماذج بديلة، فإن مصر لم تستفد منها. في كوبا، مثلاً، سمحت الحكومة قبل سنوات بفتح المجال أمام القطاع الخاصّ للمشاركة في صناعة السينما، مما خلق أشكالاً جديدة من الدعم والإنتاج والتوزيع، وأعاد الحياة إلى قاعات كانت مغلقة. في تونس والمغرب أيضاً، ظهرت مبادرات مؤسّساتية لدعم الأفلام المستقلّة باعتبارها جزءاً من القوّة الناعمة للبلد، لا عبئاً عليه. 

على مدار عقدين، كان الحلم أن يتحوّل التيّار المستقلّ إلى تيّار مؤثّر، يغيّر الذائقة ويخلق جمهوراً جديداً. لكن اليوم، يواجه المخرجون المستقلّون عزلة خانقة: شركات الإنتاج الكبرى ترفض المغامرة، مؤسّسات الدولة لا ترى في هذه السينما إلا عبئاً، والمبادرات الفردية تنهك أصحابها. 

المفارقة أن هذا الجيل، الذي صنع أفلامه بالكاميرات الرقمية وبميزانيات هزيلة، قدّم لمصر صوراً مختلفة عن المدينة والريف والإنسان المهمّش، لكنّه لم يجد لنفسه مكاناً مستقرّاً في خريطة العرض أو التوزيع. 

إن أزمة محمود يحيى لم تكن حدثاً عابراً، بل جرس إنذار لجيل كامل. حين يختار مخرج شابّ الاعتصام والإضراب عن الطعام من أجل أن يعرض فيلمه، فهذا يعني أن كلّ الطرق التقليدية باتت مسدودة، وأنه حتى البدائل مثل “زاوية”، لم تعد تملك القدرة أو الرغبة في أن تكون سنداً حقيقياً. والأخطر أن الخلافات بين صنّاع السينما المستقلّة أنفسهم تحوّلت إلى ثغرة تتسرّب منها كلّ أشكال الإحباط، بدلاً من أن تُبنى شبكات تضامن تحمي هذا التيّار. 

انسداد الطريق وغياب الأمل

اليوم، وبعد مرور أكثر من عشرين عاماً على بداية موجة السينما المستقلّة، نجد أنفسنا أمام مشهد مرتبك. الدعم الأوروبي والعربي بات أقلّ سخاءً وأكثر انتقائية. القاعات التجارية ترفض المغامرة، و”زاوية” لا تكفي وحدها. الرقابة لا تزال تفرض سيفها، بل ازدادت شراسة مع تصاعد موجات المحافظة على القيم الاجتماعية والأسرية في السينما. 

في هذا السياق، يصبح احتجاج محمود يحيى على الرصيف رمزاً لحقيقة مريرة، الطريق مسدود، والأحلام الفردية لا تجد من يحتضنها. لا طاقة مؤسّسية، لا دعم حكومي، ولا حتى تضامن حقيقي داخل الوسط نفسه.

لقد انطلقت السينما المستقلّة بوعد كبير، لكنّها اليوم تواجه سؤال البقاء. وربما الجواب الأقرب أن ما يحدث ليس تيّاراً مستمرّاً، بل ومضات فردية لامعة، تظهر وتختفي سريعاً، تترك أثراً عاطفياً عميقاً، لكنّها لا تصنع حركة متماسكة.

وهكذا يبقى السؤال مفتوحاً: هل ماتت السينما المستقلّة في مصر؟

ربما لم تمت تماماً، لكنّها بالتأكيد تعيش على أجهزة الإنعاش، تنتظر معجزة قد لا تأتي!

01.11.2025
زمن القراءة: 11 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية