قبل نحو 60 عاماً ﺃﺳس التونسي ﺍﻟﺮﺍﺣﻞ ﺍﻟﻄﺎﻫﺮ ﺷﺮﻳﻌﺔ مهرجان قرطاج السينمائي، وقبل رحيله، كرّم شريعة عام 2010 على خشبة المسرح البلدي، وقال يومها: “معتز كل الاعتزاز باستمرار هذا المهرجان، اعتزازاً استمده من فخري بانتمائي إلى بلدي، فالفعل الإبداعي الصادق، هو فعل نضالي بامتياز، ولذلك يبقى ويستمر ويُكتب له الخلود”.
الموقف النضالي للمهرجان كان علامة فارقة، وصمد المهرجان لعقود كثيرة على مبادئه والتزم بنشرها والدفاع عنها، برغم الاغراءات العديدة، إلا أن تغير دفّة القيادة في السنوات الأخيرة أربكه، وجعله يحيد عن بعض مواقفه، خصوصاً أنه في أول دورة بعد سقوط نظام بن علي، سأل محمد المديوني مدير المهرجان حينها: “كيف لنا أن نكون في مستوى التحديات والرهانات، وهذه الدورة هي أول دورة تنظم بعد الثورة التونسية؟ وأية آفاق سيسعى إلى فتحها حتى تكون هذه الدورة في مستوى الانتظارات المشروعة للجمهور عامة، ولجمهور الشباب المتعطش للحرية والعدالة والكرامة بصفة خاصة؟”.
برغم انعقاده في مهد الثورات العربية، إلا أن صيغة المهرجان تعرضت للكثير من الانتقادات، إذ اتهم المخرج التونسي منصف بربوش عام 2014 إدارة مهرجان أيام قرطاج، بتعمد منع عرض فيلمه “صراع”، الذي يصور مشاهد تعذيب إسلاميين خلال فترة حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.
نفت إدارة المهرجان الاتهام، لكن بربوش صرّح أن إدارة المهرجان “منعت برمجته كي لا يؤثر على الجماهير قبل الانتخابات”، في إشارة إلى انتخابات الرئاسة بين رئيس حركة “نداء تونس” الباجي قايد السبسي والرئيس الانتقالي محمد المنصف المرزوقي.
تونس وسوريا بعد 2011
المواقف السياسية لتونس وعلاقتها مع برمجة أفلام المهرجان تتضح حين الحديث عن سوريا، إذ أُغلقت سفارة تونس في دمشق مطلع عام 2012، ثم قامت الحكومة التونسية عام 2015، بفتح مكتب في دمشق لإدارة شؤون التونسيين في سوريا، ومع وصول الرئيس قيس سعيّد إلى السلطة، تغير الموقف، عام 2022 التقى سعيّد وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد وطلب منه “نقل تحياته إلى بشار الأسد”، إلى حد رفع التمثيل الدبلوماسي، وإعادة فتح السفارات عام 2023.
يمكن بحث هذه العلاقة مع نظام الأسد وممثليه والأهم رجال الدعاية الخاصين به، برصد المشاركات المتكررة للمخرج السوري جود سعيد، الذي يُعتبر رجل دعاية للنظام السوري، والمسؤول عن إخراج أفلام بروباغندا لأسماء الأسد، المعاقبة دولياً، ناهيك بمساهمته الواضحة في سردية “مكافحة الإرهاب” التي روج لها النظام السوري، واستفادته من حصار حمص من قبل النظام، لتصوير فيلمه “مطر حمص-2017” مستخدماً “مسرح الجريمة” ومنازل المدنيين المدمرة كـ”ديكور”.
فتحت إدارة مهرجان قرطاج أبوابها على مصراعيها لسعيد، ففي سنة 2017 عرض المهرجان فيلم “مطر حمص” الذي وصفه المخرج السوري سامر عجوري بـ”بروباغندا مخابراتية منتجة من قبل النظام السوري، تروّج عن طريقه لفكرة المؤامرة الخارجية، وتتهم جهات إسلامية مختلفة أو غيرها، بقتل أبناء حمص وتشريدهم وتدمير بيوتهم وحرقها”.
اضطر سامر عجوري حينها للانسحاب من مهرجان قرطاج، متهماً إدارته باستغلال الفن بهدف التطبيع السياسي مع نظام بشار الأسد، على رغم كل الدلائل على ارتكابه جرائم ضد الإنسانية.
كان عجوري ينتظر أن تعتذر إدارة المهرجان عن احتضانها بروباغندا النظام، لكن حدث ما هو مخالف تماماً، ففي السنة التالية لم يوسع المهرجان دائرة اهتمامه لتطال سينمائيين مستقلين يعرضون الواقع السوري، بل استدعى المهرجان مرة ثانية المخرج السوري جود سعيد للمشاركة بفيلمه “مسافرو الحرب”.
لم تكن مشاركة “مسافرو الحرب” مشاركة عابرة، إنما تم تكريمه، حيث حظي بأربع جوائز خلال المهرجان، فعوض أن تدان ارتكابات الأسد، تم تمجيدها بأعمال فنية عنها، هتف الجمهور حينها “الله، سوريا، بشار وبس”!.
بربوباغاندا الأسد في قرطاج
لم تغب أفلام جود سعيد عن قرطاج في السنوات الأخيرة، إذ أصبحت كالملح في الطعام، حتى إنه ينتجها لتعرض في هذا المهرجان الذي واصل المسار نفسه حتى بعد سقوط نظام الأسد، ففي النسخة الأخيرة للمهرجان، التي انتهت الأسبوع الماضي، تم عرض فيلم “سلمى” للمخرج نفسه جود سعيد، برغم طلب مثقفين وفنانين سوريين من إدارة المهرجان العدول عن عرضه، لكن هذه المرة، الفيلم ليس من إنتاج المؤسسة العامة للسينما، بل وُصف بـ”المستقل”.
يضاف إلى المفارقة أيضاً، تكريم الممثلة سلاف فواخرجي المعروفة بمواقفها المؤيدة لبشار الأسد، حيث وصفته سنة 2016 بـ “رجل شريف”، وأنها “فخورة بكونه رئيساً لسوريا”، وبقيت على موقفها حتى بعد هروب بشار الأسد من دمشق، إذ كتبت: “ولن أتنكر لما كُنت عليه سابقاً، ولم أكن خائفة ولن أكون، ولا أعتقد أن الحكم الجديد بما يُظهره لنا سيكون ظالماً أو مستبداً ليخيفنا ويقمعنا، على عكس ما يروجه البعض من تهديد ووعيد وترهيب على صفحاتنا؟ طلب إليّ البعض أن أمسح صوراً لي… ولكن إن مسحتها هل ستُنسى وكأنها لم تكن؟ وهل سأتنكر أنا لها؟ إنها مرحلة من تاريخ سوريا شئنا أم أبينا… بإيجابياتها وسلبياتها… وتاريخنا معها…”.
منذ أن عُرف على الساحة الفنية السورية، لعب جود سعيد دور الناطق الفني باسم نظام الأسد، ولم يخفِ يوماً استماتته في الدفاع عنه. تمت رعايته مادياً من قبل النظام، بعد انطلاق الثورة السورية سنة 2011، وقد أشرفت المؤسسة العامة للسينما على معظم إنتاجاته، وذلك في إطار حملتها الدعائية لبشار الأسد، من خلال أفلامه كرر مقاربة أن نظام الأسد يواجه “مؤامرة كونية”، وأنه صامد يرعى مصالح الشعب، والمفارقة أن بعض هذه الأفلام صُوّرت في مناطق دمرها جيش الأسد، وهُجّر من بقي حياً من أهلها.
لم تكن أفلام جود سعيد “إلا محاولات منظمة لتزييف الحقائق وتبرير الجرائم التي ارتكبها نظام بشار الأسد بحق الشعب السوري”، وفق الفنانين والكتاب والسينمائيين السوريين الذين طالبوا إدارة مهرجان قرطاج بسحب الفيلم لأن جود “برز اسمه كواحد ممن اختاروا حمل الكاميرا لا لتوثيق الحقيقة، بل لتزييفها فوق أنقاض أحياء سكنية دمرها قصف النظام الوحشي، كما قدّم للعالم صورة مزيفة تُمعن في طعن الشعب السوري وتشويه حراكه، صورة تتجاهل وجع المدن المدمرة وتحوّل الحطام الذي شهد القتل والدمار إلى ديكور سينمائي”.
ترسيخ رواية النظام الزائل
الإشكالية في شرعنة أفلام البروباغندا السورية في مهرجان ثقافي تونسي، أنها ما زالت متمسكة برواية النظام السوري، وحجة “لم نكن نعلم” التي يرددها الكثيرون، حول جهلهم بما كان يحدث في أقبية المخابرات لم تنطل على أحد، بل كانت رسالة موجهة إلى الجمهور كي يدرك ما يراه وما وراءه، والسياق الذي تم ضمنه إنتاج الفيلم.
ناهيك أيضاً بأن شرط إنتاج الفيلم، أي فيلم، في سوريا يخضع لطبقات من الرقابة، والمشكلة هنا هي بدقة هذا الشرط السلطوي والتصوير في “مسرح جريمة”، نحن أمام خلق نسخة متخيلة من الواقع، نسخة موجّهة ومؤدلجة ملأى بالتلفيق والدعاية.
هنا نعيد سؤال محمد المديوني بعد سقوط نظام الأسد: “وأية آفاق سيسعى إلى فتحها حتى تكون هذه الدورة في مستوى الانتظارات المشروعة للجمهور عامة، ولجمهور الشباب المتعطش للحرية والعدالة والكرامة بصفة خاصة؟”.
إقرأوا أيضاً: