غالباً، تسود في إطار الحديث “السببي” عن الحرب الأهلية أو مراجعتها، قراءات اختزالية ومعممة تختزل أسباب الحرب بسبب واحد جوهري. وهو عادةً سبب تحيط به كثرة من المظاهر والأعراض التي تحجب جوهره النقي، وتحيل غيره من المظاهر والأسباب إلى “عباءة” أو “قناع” تحتجب وراءه “الحقيقة الصافية” لطبيعة الصراع الذي أدى إلى الحرب الأهلية وفظاعتها. هكذا مثلاً يرد البعض الحرب كصراع طبقي أخذ سمة طائفية، وآخرون يردونه إلى محض صراع طائفي بين المسلمين والمسيحيين، أو بين جماعة من الوطنيين وجماعة من الخونة أو المشكوك في وطنيتهم. ثمة أيضاً من يرجع سبب الحرب إلى “السلاح الفلسطيني”، أو “المارونية السياسية”. لكن في ذلك كله تجاهل للبنى والطبقات المتعددة التي أنتجت الحرب وشكّلتها.
لقد اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في دولة ومجتمع تحكمهما بنى سياسية واقتصادية وثقافية تحدّد أطر الفعل وتحرّك الفاعلين. وهذه البنى، في عمقها، تعتمل فيها حيثيات طائفية وطبقية ومناطقية متداخلة ومتشابكة. وإن كان هذا الماضي بحاجة إلى مجلّدات لتحليله وفهمه، فإن الأهم اليوم هو الحاضر، حيث ما زالت رواسب الحرب حاضرة في كل نقاش عن المستقبل، وكأن الحرب ترسم أفقنا القريب والبعيد، ولا أفق لوطن يجمع بين تناقضاته. وإذا كانت الحرب ما زالت ممكنة، فلنبدأ، على الأقل، بمحاولة قراءة دروس قد تعرقل مسار الدم.
البنى السياسية والاجتماعية في لبنان غداة الاستقلال
نشأت الدولة اللبنانية بعد الاستقلال كدولة مركزية طائفية متمركزة حول بيروت وجبل لبنان، مركز النشاط السياسي والاقتصادي والثقافي، ضمن دستور طائفي شبه رئاسي، يُوزّع المقاعد النيابية والحقائب الوزارية بين المسلمين والمسيحيين على قاعدة 6/5 لصالح المسيحيين.
وكان النظام الاقتصادي الرأسمالي حينها تحت هيمنة برجوازية مسيحية وسنية ودرزية متمركزة في بيروت والجبل، تتحكم بمعظم الثروة والدخل ووسائل الإنتاج. وقد أدى ذلك إلى صراع بارد ودائم على السلطة والتمثيل والنفوذ ضمن النظام الطائفي.
ولم تعرف أي مدينة لبنانية، باستثناء بيروت وطرابلس، شروط المدينة الحديثة (من حيث السكان، الاقتصاد، العمران، الثقافة…). وبينما حظي جبل لبنان برعاية تنموية وخدماتية واضحة، تُركت عكار، الريف الموازي لطرابلس، في حالة من الإهمال. فقد خضعت لإقطاعيات زراعية، عاشت على وسائل إنتاج متخلفة وبلا بنية تحتية، من طرقات ومدارس ومستشفيات وإدارات.
وتزامن تهميش عكار مع تهميش طرابلس نفسها، لصالح بيروت وامتداداتها. وتم استغلال هذه المناطق الريفية لصالح تطوير بيروت والجبل، الخاضعين لهيمنة البرجوازيات التقليدية المتصارعة في ما بينها ضمن تركيبة النظام الطائفي للجمهورية الأولى.
في الجنوب والبقاع، اقتصرت المراكز الحضرية على صور وصيدا وبعلبك، لكنها بقيت متواضعة مقارنة ببيروت. واعتمدت هذه المناطق، ومعها عكار، على الزراعة التقليدية، ما أنتج بطالة مرتفعة وفقراً واسعاً، دفع كثيرين إلى النزوح نحو بيروت، حيث سكنوا في أطرافها الغربية في أحياء عشوائية، وعملوا بأجور زهيدة، أو التحقوا بالجيش والأجهزة الأمنية كمصدر دخل وحيد.
ما بعد 1958: تداخُل الطبقة والطائفة في شروط الحرب
في سياق الصراع بين كمال جنبلاط والزعامات المسيحية، قرأ الأخير بذكاء التحوّلات الطبقية والسياسية والاجتماعية التي طرأت في ظل المد القومي الناصري في المنطقة. فمع تصاعد خطاب العروبة وحرب 1956، تبلورت طبقة جديدة، تبنّت هذا الخطاب القومي كأداة تعبير عن مصالحها. ومن هنا، رأى جنبلاط أن تحالفه مع هذه الطبقة من خلال تبنّي “القضية الفلسطينية” و”الوحدة العربية” (بصيغتها غير الاندماجية) هو السبيل لمواجهة الهيمنة المسيحية.
مع “الحرب المصغّرة” عام 1958، انفجرت التناقضات الطائفية، قبل أن تُخمد بتسوية أميركية-مصرية أتت بفؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، وأقصت الزعامات المسيحية التقليدية عن المشهد، وفتحت المجال لتدخّل مصري فاعل في القرار اللبناني.
خلفت الإصلاحات الشهابية طبقة وسطى مسلمة جديدة في أطراف بيروت والمناطق الريفية، وحسّنت وضع الشرائح الدنيا. كما أدّت إلى نشوء برجوازية صغيرة سنية في بيروت وطبقة وسطى متعلمة في المحافظات، وجدت في القومية العربية والانتماء لليسار طريقاً إلى الترقّي.
تزامن ذلك مع صعود الأحزاب الناصرية والبعثية واليسارية، إضافة إلى المنظمات الفلسطينية، كمعبر سياسي لهذه الطبقات، في وجه البرجوازيات التقليدية والنظام الطائفي الذي يقيّد تمثيلها. لكن مع نهاية الستينات، بدأ هذا التوازن بالتفكك. فمع توقيع “اتفاق القاهرة”، اختلّ التوازن لمصلحة “المسلمين” وقضيتهم القومية، وأصبح السلاح الفلسطيني أداة حاسمة في الصراع على السلطة.
ثم عقب أحداث فردان عام 1973، التي تزامنت مع تعثّر الإصلاحات الاقتصادية مثل مكافحة الاحتكارات وغلاء الأسعار والأزمات الاجتماعية، طرحت “الحركة الوطنية” برنامجاً مرحلياً للإصلاح، شمل إلغاء الطائفية السياسية والاحتكام إلى إرادة الأكثرية، ضمن إطار قومي عربي، يعيد تعريف هوية الدولة عبر تبنّي فلسطين كقضية مركزية”.
دعمت هذه الطروحات الشرائح الإسلامية الأوسع، خصوصاً الطبقات العاملة والفلاحية، بينما تمسكت غالبية الجماهير المسيحية بالنظام القائم، خشية تهميشها تحت شعار “دولة عربية” تُلغي الخصوصية اللبنانية. فكانت الحرب، بمعنى من المعاني، صراع هويات وتمثيل، لا مجرد نتيجة لانقسامات إقليمية أو خلل في التوازن الداخلي.
إقرأوا أيضاً:
الحرب ما بعد الحرب: استمرار غياب الإجماع حول الهوية
تجاوزت الحرب الأهلية حدود الدماء، إذ خلّفت آثاراً مستدامة على شكل غياب شبه تام للإجماع الوطني. وهنا، لا نتحدث عن خلافات سياسية طبيعية، بل عن غياب اتفاق على الهوية الوطنية نفسها. والدليل الأبرز على ذلك هو غياب أي منهج تربوي يُدرّس تاريخ الحرب أو يحلل فتراتها وتداعياتها.
لقد جسّدت الحرب روايتين متناقضتين للتحرر الوطني ما زالتا تؤطران الوعي اللبناني:
(1) رواية مارونية الطابع، اعتبرت الوجود الفلسطيني المسلح والوصاية السورية-البعثية الانتهاك الأول والأخير للقرار اللبناني المستقل، وتُعتبر اتفاقية القاهرة نقطة الانطلاق الأساسية لهذا الانتهاك. على المستوى الثقافي، تنطلق الرواية من الحاجة الى ابتكار “أصالة لبنانية” منفصلة عن خلفية البلد “العروبية”، رغم القبول ب”انتماءٍ عربي” قد ينقض التوجه الناصري.
(2) رواية مسلمة-يسارية، اعتبرت “الامبريالية العالمية”، التي تتجسّد بإسرائيل والصهيونية بدعم الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، الخطر الأكبر على سيادة البلد. ولكن بالتوازي، عرّفت هذه القيادة “السيادة” بلغتها الخاصة. وهي سيادة غير منفصلة عن إرث القومية العربية ونكهة يسارية غير مهتمة بالقومية اللبنانية التقليدية، بل استُبدلت بتخيّل سياسي وانتمائي عابر للأوطان والبلدان. القضية الفلسطينية كانت مركز هذا الانتماء، و”القوى الوطنية”، في هذا السياق، هي القوى التي عمّرت بيتها الفكري واللغوي فوق “طوابق” ناصرية وماركسية سوفياتية، على رغم التباين الملحوظ بين كل هذه الطوابق في القراءة، ومن ثم الموقف والتموضع.
اليوم، لا تزال هاتان الروايتان تحكمان النقاش العام، وتعيدان إنتاج الانقسام الأهلي بطرق سلمية ظاهراً. ومع تعقّد المشهد بعد اغتيال الحريري و”تفاهم مار مخايل”، لا تزال الأسئلة الجوهرية من دون إجابات: ما هو دور الدولة؟ ما هي وظيفتها؟ ما معنى أن نكون “لبنانيين”؟
دروس لمستقبل مختلف
لا تزال عناصر الحرب الأهلية في معظمها موجودة اليوم: الدولة المركزية الطائفية، عدم تطبيق اللامركزية الموسعة، إهمال المحافظات الطرفية والتنمية الزراعية والإصلاح في الشمال والبقاع، ما يجعلها “خزاناً بشرياً” للجيش والميليشيات، ربط لبنان بمشاريع قومية عربية، إسلامية مرتبطة “بالقضية الفلسطينية”، وجود تنظيمات مسلحة خارج إطار أي شرعية قانونية أو دستورية…
حرب أيلول/ سبتمبر 2024 هي إحدى الحروب الأعنف والأقسى في الوعي الجماعي لجزء كبير من اللبنانيين اليوم. وهي حرب ترافقت مع إنتاج كتابي وثقافي ملحوظ، إنتاج يتمحور معظمه حول “المقاومة” و”التحرر”. على عكس الحرب الأهلية اللبنانية وزمن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، هيمنت وحشية الإبادة في غزة على “أدب” المرحلة، كأدب مكرّس دفاعاً عن ضحايا الحرب. ولكن الأدب ليس كافياً، وتحديداً إذا لم يترافق مع دروسٍ تنطلق من تداعيات إرث الحرب الأهلية على الساحة السياسية اليوم:
1- وجود عقيدة ترتكز على مفاهيم “المقاومة” و”التحرر الوطني” من دون إجماع وطني حول هدفها ودورها وفاعليها، هو بمثابة وصفة لكارثة وطنية مؤجلة.
2- لا حلّ مستدام لهيمنة الميليشيات من دون جهاز سياسي قادر على إعادة توزيع الموارد والقوة في بيروت وجنوب لبنان والبقاع بشكل متين وحاسم.
3- ضرورة استبدال السرديات الأحادية حول تحرير عام 2000 واستقلال عام 2005 بسردية “وحدوية” تعترف برموز تلك المراحل ضمن “قصة جامعة”، لابتكار صيغة كيانية جديدة وخلاقة.
4- يجب الاعتراف بأنّ لبنان اليوم يعاني من “ضعف” دولتي ومؤسساتي سببه شروط موضوعية عدة، وأحدها تطبيع “ملشنة” المقاومة و”خصخصة” أدوار الدولة. وقد أسست الحرب الأهلية لهذه الملشنة، ولدى اليسار، قُدّمت الملشنة كتبرير أيديولوجيّ وأخلاقي ما زال صامداً حتى اليوم.
5-من الضروري إعادة النظر في طبيعة الدولة المركزية والطائفية في لبنان، في المكوّنين معاً، وفي العلاقة البنيوية بين كل منهما، والتفكير بصيغ أخرى “أكثر علمانية” و”أقل مركزية” لهذه الدولة.
كذلك، استبدال أدب الضحية بأدب الدروس، فالنقد هو شرط من شروط نهوضنا ودفن الماضي والتأسيس لمستقبل قائم على انتهاز قوتنا المجتمعية نحو بديل إنسانوي عن الصهيونية. وذلك على عكس ثقافة تمحورت حول تمجيد رموز تمسّكت بـ”تقاليد التحرر” على حساب مسار التحرر نفسه.
إقرأوا أيضاً: