يحاول السوريون اليوم استيعاب الصدمة، السعيدة للبعض والتعيسة للبعض الآخر. حلب باتت بيد المعارضة السورية المسلحة المتشددة، والتي دخلتها في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، ثم تبعتها حماة، ومن العدل أن نظل نقول “متشددة” حتى لو أعاد عناصرها رفع شجرة الميلاد أو سمحوا للنساء المسيحيات بالخروج مكشوفات الرأس. أن نصدق ما يجري في حلب أمر يحتاج الى وقت، بدءاً من “سقوط المدينة أو تحريرها” على يد المعارضة وانسحاب جيش النظام السريع، وصولاً إلى الأصوات التي تقول “كل شيء بخير”، لكن هل حقاً كل شيء بخير؟
هل نصدق؟
أيامٌ كانت كافية لرفع علم الثورة السورية على قلعة حلب، بالإضافة الى أعلام أخرى. ساد الخوف والقلق بين أهالي المدينة، الذين لم يخشوا تشدد الفصائل وحسب، بل قصف النظام الذي سيساوي المدنيين بالمسلّحين، فهرب من هرب وبقي من لم ولا يستطيع، وبدأ فصل جديد لمدينة حلب التي خاضت معارك وقصفاً عنيفاً بين عامي 2012 و2016 انتهت بسيطرة النظام عليها.
عنوان المرحلة الأولى من سيطرة المعارضة المسلحة على حلب: هل نصدق؟ هل نصدق أن المعارضة المتشددة لم تعد متشددة وأن إسقاط شجرة الميلاد مجرد خطأ فردي؟ هل نصدق وجوه الناس المذعورين وهم يرددون أنهم بخير وأن كل الخدمات من ماء وكهرباء وخبز موجودة وأننا كلنا سوريون ولا فرق بيننا؟ هل نصدق أن النظام وحلفاءه لن يقصفوا المدينة؟
من جهة أخرى، لا يكترث النظام لحياة المدنيين، حقيقة بسيطة كررها مئات المرات خلال عقد ونصف العقد، لكن المعارضة أيضاً، وإن حاولت أن تبدو كذلك، فهي تنحاز عن سابق إصرار الى مدنيين على حساب آخرين، والأمر ذاته بالنسبة الى داعمتها تركيا. في النهاية، لا أحد يكترث لحياة المدنيين في سوريا، وهم في ما يبدو، وبعد 15 عاماً، باتوا يدركون هذه الحقيقة جيداً، ويقبلون بأقل شروط الحياة على ألا يُقصفوا ليلاً نهاراً.
النظام السوري ليس بأفضل حالاته
فيما وصلت المعارضة الى حلب ثم انتقلت إلى حماة، وهي اليوم على مشارف حمص، لم تقدم روسيا للنظام دعماً حقيقياً الى الآن، واكتفت ببعض بيانات الوعود والدعم العسكري، وكأن روسيا ليست بكامل حماستها كما السابق لأسباب جلية وأخرى غير واضحة. بوتين منهك من حرب أوكرانيا وقواته لا تتحمل إرسال جزء منها إلى سوريا. قد يقرر في مرحلة لاحقة حماية مصالحه وحسب، وهي بشكل أساسي متركّزة على الساحل السوري. وربما سيتوقف طموح المعارضة السورية وتركيا عند حدود اللاذقية وطرطوس قبل أن تصل إلى مصالح بوتين، وهنا قد نفهم الأسباب غير الجلية لبرود روسيا في حماية أسدها في حلب.
من جهة أخرى، حزب الله منهك ومنهار ولا عتيد أو عتاد لديه، وأي تحرك له داخل البلاد ستبادره إسرائيل بقصف سريع. إذاً، الأسد وحيدٌ أكثر من أي وقت مضى.
بالأحوال كافة، التكهنات السياسية كثيرة اليوم، لكن أكثرها دقة هو أن جيش النظام السوري ضعيف ومتزعزع ولا يملك دافعاً حقيقياً كما السابق، حتى الدوافع تذوي وتموت مع الوقت إن شعر صاحبها أنه مجرد أداة، ومنذ زمن بات السوريون يدركون أنهم مجرد أداة.
كيف وصلت الجماعات المسلّحة الى هذه النقطة؟
على الجانب الآخر هناك حقيقة مريبة، وهي قوة وتنظيم الجماعات المسلحة التابعة لـ “غرفة العمليات العسكرية” بقيادة أبو محمد الجولاني، ولكن كيف ومتى ومن وما الطريقة التي أُقنعت فيها هذه الفصائل بالتوافق؟ لا أحد يعلم، لكن وبما أن عقيدتهم إسلامية وجهادية، فالدافع حتماً أقوى من ذلك الذي يملكه عناصر جيش النظام الجائعون والخائفون وغير المدرّبين أصلاً بما يكفي. من دون أن ننكر أن المقاتلين هم شبانٌ هُجّروا قسراً من بلداتهم وعاشوا في الخيام تحت البرد والحرّ والجوع، ولديهم الدافع الأقوى وهو الرغبة في الحياة. فكل ما يرونه خلفهم الآن هو الخيمة والموت، وكل ما يرونه أمامهم هو الحياة، شبانٌ يريدون العودة إلى بلداتهم وعائلاتهم ومنازلهم وحسب.
الصور والفيديوهات القادمة من حلب بهية وصادمة في آن، وتثير مشاعر متناقضة، لكنها في مرحلة ما غير مقنعة، لأسباب كثيرة، منها عجزنا عن تصديق تحول جبهة النصرة إلى قائدة للبلاد بعدما تبنت قبل سنوات تفجيرات انتحارية في دمشق راح ضحيتها عشرات المدنيين، حتى وإن ارتدى أتباعها البدلات الأنيقة والتقطوا الصور وهم يلوحون للناس من قلعة حلب.
لا شكّ في أن هناك تغييراً في ممارسات الفصائل المسلحة على أرض الواقع، إذ باتت أقل تكفيراً ووحشية ربما، لكن المريب أن هذا التغيير هو على صعيد التحركات العسكرية وليس على الفكر ربما، بمعنى أن الممارسات المنفتحة نوعاً ما ضرورة عسكرية أكثر منها حقوقية أو إنسانية.
عن ورقة المسيحيين الرابحة
المسيحيون في واجهة أعمال المعارضة المسلّحة، وكأن الأخيرة دخلت حلب لتقول للعالم أنظروا نحن “إنسانيون”. بكل الأحوال، لا شك في أن الفيديوهات التي ينشرها إعلام المعارضة عن مسيحيي حلب هي رسالة قوية وذكية وإن بات مبالغاً فيها. ولا شك أيضاً في أن إعلام “ردع العدوان” متفوق بمراحل على إعلام النظام الكسول والمتردد أمام تعقيد ما يحدث.
يعود منح الأمان للمسيحيين، وهو أمر لم تعتد عليه الجماعات المتشددة، الى أمرين: أولاً، كسب الناس إلى طرف المعارضة، ليس سكان حلب وحسب بل أقليات المدن السورية الأخرى أيضاً. لا شك في أن هذه الصورة التي نُقلت بشكل مكثف على مدار الأيام الماضية، منحت طمأنينة لمسيحيي سوريا بشكل عام، ومن جهة ثانية هي صورة تصدر إلى الغرب وتظهر الجولاني كـ “بديل” للأسد. وأكثر ما قد يخيف الغرب هو التشدّد، إذ إنه قد يعترف بقائد ديكتاتوري ولكن سيرفض حتماً الاعتراف بقائد متشدد. ورغم سخرية الفكرة، لكن أبو محمد الجولاني طموح، وطموح الرجل يطبّق على الأرض بقوة وفاعلية، والساحة السورية تفاجئنا يوماً بعد آخر بتطورات لم تكن بالحسبان.
على الجانب الآخر، لا يمكن نسيان خطر داعش في البادية السورية، وهو ما زالت موجوداً، وما زال فكره ينمو في مخيمات الهول والروج، والخلايا النائمة تنتظر الفرصة لترفع رأسها وتبسط سيطرتها على ما تستطيع من البلاد. ولذلك، أعلن العراق استنفاره منذ اللحظة الأولى، ففي البداية أعلن عن استعداده الكامل لحماية حدوده ثم صعّد لهجته ولمّح الى تدخل إلى جانب النظام في وجه الجماعات “المتطرفة”.
إذاً، الخوف الأساسي يتأتى من المستقبل السوري الغامض الذي يوحي دائماً بالمفاجآت، فماذا لو كانت مفاجأة من العيار الداعشي الثقيل!
ما يحصل في سوريا اليوم ضروري حتى وإن كان مخيفاً وبخاصة للأقليات. مياه السياسة السورية الراكدة منذ أعوام كانت توحي بفشل الثورة (السلمية والمسلحة). أما الآن فهناك خلط جديد للأوراق، قد يجد من خلاله بعض السوريين الطموحين والمؤمنين طريقة لحل سياسي يحقن الدماء ويعيد اللاجئين إلى بلدهم. وفي مأساة بحجم الصراع السوري، يأتي حقن الدماء أولاً حتى يتمكن السوريون من فتح عيونهم على خطوة أو يوم آخر أو ربما حل سياسي. من يعلم!
إقرأوا أيضاً: