تعكسُ الحفرة في الأرض الهيمنة السيادية على اليوميّ والبديهي، كونها، أي السلطة، المسؤولة عن بسط التراب/ شق الطرقات لتسهيل الحركة، و”تركها” للحفر عمداً يُهدد أمن الأفراد، وقدرتهم على الانتقال، ما يحوّل الطرقات إلى حلبة للنجاة من “أفخاخ/حفر” التقصير والفساد والعنف السياسيّ.
ضمن المتغيرات السابقة “حفرة-سلطة- مواطن”، تتضح الهزيمة السياسيّة، القوى الشعبيّة التي أرادت إزاحة السلطة، وفشلت، وجدت نفسها وباقي “المواطنين” يسعون الى مناورة السقوط في الحفر، عوضاً عن المواجهة واستمرار “الصراع” مع السلطة القائمة.
الخوض في سياسيّة الحفر، خصوصاً في ظل سؤال “هل نعلن هزيمة الربيع العربي؟”، يكشف أثر الصراع بين السلطة والمواطنين على سيادة الأرض، خصوصاً أن السؤال مريب وإشكاليّ، إن قرأنا تاريخ المنطقة ومآلاتها خلال السنوات العشر الماضية، عبر رصد بعض الحفر بمعناها الماديّ، الحفر التي نتجت إثر العنف السياسيّ المطبق على التراب، الذي أنتج حفراً سواء للبناء أو الهدم والتدمير.
اللافت في سياق الحديث عن الحفر في المنطقة، أن الدول التي لم يمسّها الربيع العربيّ مباشرةً، ذات حفر من طراز غريب، إذ تحوي إمارة دبيّ مثلاً، “حفرة” للغطس بعمق 60 متراً. بصورة ما، نحن أمام “عالم” مغمور، يتيح الاكتشاف، والتحرك ضمنه بحريّة. الحفرة/ المغطس هنا، علامة على قرار سياسي بخلق حفرة آمنة، حدودها الاسمنت وكمية الهواء في الرئتين.
الدول التي لم يمسّها الربيع العربي، تزحزح التراب للعمران وتمنحُ زوار أرضها إقامات ذهبية (الإمارات)، وإقامات مواطنة رقميّة (السعوديّة)، وتستقطب كل ممثل وكاتب وأنفلونسر هرب من مصر وسوريا ولبنان وتونس والعراق، الأرض التي تتالت عليها موجات الربيع العربيّ، وانتهت بديكتاتوريات عسكريّة، عدا لبنان، المحكوم بقادة ميليشات مُتقاعدين، وكارتيل مخدرات، جعل الأرض غير ثابتةً تحت سكان بيروت، المدينة التي تحوي حفرةً بعمق 43 متراً، كشاهد على انهيار المدينة.
نحن أمام ما يشبه أرضاً مجوّفة في سوريا، كل مساحة تحوي حفرةً تعيد نوستالجيا لحظات الرقص والتظاهر، لكن بعد “الهزيمة” أصبح المشي أثقل، وكأن الخسارة هي العجز عن المشي بثبات على أرض ترابها أصوات من قضوا.
سوريا: حُفر الموت صدفةً وعمداً
لا يمكن عد الحفر التي ثقبت سوريا منذ عام 2011، سواء جراء القصف أو حفر الخنادق أو انهيار الأبنية، لكن أكثرها دلالةً على “لا سلطة” النظام القائم على الأرض، والفشل في إزاحته، هي إحدى حفر الصرف الصحيّ في مدينة اللاذقيّة، التي سقطت فيها فتاة وفارقت الحياة، للعجز عن تأمين حبل لانتشالها.
تعكس هذه الحادثة هزيمة شديدة على المستوى المحلي واليومي، سيلٌ جرف فتاة وقادها إلى أسفل حفرة. سوء الخدمات وعدم عناية الدولة بالصرف الصحي في المدينة لا يمكن إنكارهما، الحادث اليومي قد يبدو بريئاً بداية، لكنها ليست الحفرة الوحيدة، النظام في سوريا جعل الأرصف فخاً ومقبرةً لكل من حاول الوقوف بوجهه، وتركها هشّة تأسر من يمشي عليها حذراً.
“حفرة التضامن” علامةٌ أخرى على استمرار الجريمة في الزمن، وذكرى هزيمة الحشود التي هُجّرت وقُتلت، ورُميت في الحفر، هي مقبرة في الهواء الطلق، تحبس أرواح من فيها. “حفرة الهوتة” في ريف الرقة، مقبرة جماعيّة لضحايا “داعش”. أنفاق ريف دمشق، حفر لضحايا لا نعرف أسماءهم. حُفر أسفل أفرع المخابرات لمعتقلين غمرهم الدم والأشلاء والملح.
نحن أمام ما يشبه أرضاً مجوّفة في سوريا، كل مساحة تحوي حفرةً تعيد نوستالجيا لحظات الرقص والتظاهر، لكن بعد “الهزيمة” أصبح المشي أثقل، وكأن الخسارة هي العجز عن المشي بثبات على أرض ترابها أصوات من قضوا.
ترك الحفرة على حالها شأن سياسيّ، الحفرة المفتوحة فخّ بانتظار أن يقع فيها أحد، وأطياف من قضوا فيها تزرع الرعب بمن يمشي على الأرض، احتمالات السقوط إذاً لا نهائيّة، الأرض ذاتها، كما في حالة فتاة اللاذقية، عاجزة عن حمل من يقف عليها، الحفرة في سوريا تبتلع الجميع، لا حدود تحتويها، وحرفياً يخاطر السوريون هرباً إلى بحر ذي سطح يهددهم بالغرق، نحو “أرض جديدة” أشد ثباتاً وأكثر قدرة على ضبط الحفر.
تونس: حفرة الديمقراطيّة الهشّة
شهدت مدينة القيروان التونسيّة عام 2020، وقوع أحدهم في حفرة ظهرت فجأة، بينما كان الشاب يمشي على الرصيف، “خسفت” فيه الأرض ووقع في الحفرة، لكن تم إنقاذه. هذه ليست الحفرة التي تحدث عنها الصافي سعيد مجازاً، حين قال “أحنا طحنا في الحفرة مع قيس سعيّد… و الثورة أصبحت لعنة”، فحفرة القيروان واقعيّة، تهدد كغيرها كل من يمشي على الأرض.
المفارقة أن سلطة الدولة، وخصوصاً في عهد سعيّد الذي ركز بيده السلطات، تقع بدايةً على الأرض، ثم الأجساد، كون الأخيرة يمكن التضحية بها وسجنها في سبيل الأرض نفسها. الأرض التي يعلق الدستور لأجلها في حال لم تكن صالحة لتنفيذه، حسب أحد المقاربات النظريّة لتفسير قانون الطوارئ وسلطات الاستثناء.
ضمن المنطق السابق، هبوط الأرض بمواطن، شأن سيادي، الأرض “غير ثابتة” ولا تصلح للمشي، وهنا يمكن قراءة “الاستثناء التونسيّ” بنوع من السخرية، ديمقراطيّة تونس التي وعد بها قيس سعيد، كالرصيف ذاته، يقع في حفرتها من يمشي، هي ديمقراطيّة غير صالحة للانتقال إذاً، تلتهم المواطنين بمجرد محاولتهم “الحركة”.
إقرأوا أيضاً:
مصر: حفرة بحجم منزل
العمران في مصر مهزلة عسكريّة في عهد السيسي، الكباري والمدن الجديدة والحفر في الأرض لإرضاء غرور العسكر، تعكس العجز عن إدارة الأرض، لتظهر الحفر كعلامات على جهود السيادة الفاسدة. في الوقت ذاته، تختزن الحفر مآسي لا نذكرها إلا في أخبار “الحوادث”. عام 2022، سقط الشاب العشريني خالد محمد شوشة راشد، في حفرة بعمق 18 متراً، والسبب الإهمال، وفي التقرير الذي يصف الحادثة نقرأ العبارة التالية: “وعرضها يصل إلى مساحة منزل بالتمام”.
حفرة بمساحة منزل، ومن دون أي علامة على وجودها في الشارع، من يذكر ميدان التحرير، الأرض التي حملت الثورة المصريّة إلى حد نوم المتظاهرين فيها، يقف متأملاً في الحفرة التي يتمت ابنة خالد، هالة ذات الأربعة أشهر، بينما “تنتصر” الديكتاتورية العسكريّة لنظام السيسي، الذي يبني جسوراً، ويترك الحفر، داعياً المواطنين إلى أن يغلوا أرجل الدجاج لغلاء ثمن “الفرخة”.
الحفرة التي وقع فيها خالد علامة إشكالية لا على الهزيمة فقط، بل على الفشل في النجاة أحياناً، أن تتحول الشوارع إلى حلبة مسابقات، ينجو فيها من لا يسقط في الحفرة، هزيمة تتجاوز الإهمال، نحو تعمّد التخريب، أن تترك أفخاخاً في المدن يعني أن تسحب الأمان من سكانها، إلى حد أن توصف حفرة بـ”المنزل”، لكن عوضاً عن الأمان والاستقرار، هي مساحة للموت في الظلام، إهمال للسيادة على الأرض، خلق قبراً بمساحة منزل.
العراق: حفرة “الخفسة” والحداد المعلق
ما زالت حفرة “الخفسة” القريبة من الموصل شاهداً على فظائع “داعش”، الحفرة التي لا نعلم عدد الذين أُلقوا بها إعداماً من قبل التنظيم، شاهد على ما اختبره العراق، وفي الوقت ذاته، هي مزار للنحيب، آلاف الضحايا في عمق الحفرة لا نعلم أسماءهم، ما زالت أطيافهم تحوم حولها.
كشف “داعش” عن اسم 2070 شخصاً “رُميوا فيها”، واستمر استخدامها بعد دحره، نحن إذاً أمام فتحة للحداد المعلق، كل ميليشيا ترمي ضحاياها فيها، داعيةً إلى حداد معلّق لم ينتهِ حد الآن.
هناك إشكالية سياسية تتعلق بالحداد حول هذه الحفرة، إذ تكررت محاولات ردمها من التنظيم ومن السلطات العراقيّة، لكن ماذا عن الجثث دخلها؟. عدم انتشال الأشلاء والجثث جريمة مستمرة وإمعان في النسيان وتعليق للعدلة، وهنا تعود إشكالية الحفرة، كيف نتعامل مع العنف السياسي المحيط بها؟ هل تردم نهائياً و”تبسط” الأرض وتطبع الحياة حولها؟ أم تُترك مفتوحة لحداد لن ينتهِ؟
وصف فتح الحفرة واستخراج ما فيها بأنه بحاجة إلى “جهد دوليّ”، أي بصورة ما، هي عطب في نظام “العالم” كونها محاطة بألغام أيضاً، نحن أمام فخ لا تنجو منه إلا الأشباح ولا يصله إلا البكاء، وكأن الحفرة ستبقى مفتوحة، إلى حين عودة الأرض وما حولها إلى الحالة التي تجعلها صالحةً للحياة. عدا ذلك، الهزيمة مستمرة طالما لم تُغلق قبور من رحلوا.