ما قبل “7 أكتوبر” ليس كما بعده. هذه جملة تتردد كثيراً، وغالباً ما تأتي بمعنى أن قيمنا السياسية اليوم لها أهمية أكثر. من قبل، الكثير منا ابتعد عن السياسة، وابتعد عن النقاش السياسي، واختار الحياد، وكان الحياد خياراً اكتشف الكثير أنه ليس الأفضل. أتى كل هذا نتيجة ما يسمّى بالتنافر المعرفي، وهو حالة من التوتّر النفسي، أو عدم الارتياح التي يشعر بها الشخص، عندما يحمل معتقدات أو قيماً متناقضة، أو عندما تتعارض أفعاله مع قناعاته. يحدث هذا التنافر عندما يواجه الشخص معلومات جديدة تتناقض مع ما يؤمن به، مما يدفعه إلى محاولة تقليل هذا التوتّر من خلال تبرير سلوكه، تغيير معتقداته، أو تجاهل المعلومات المتضاربة.
أدّت الحرب على غزة ولبنان بعد “7 أكتوبر” إلى تفاقم التنافر المعرفي على مستوى العالم. يجد الأفراد والحكومات ووسائل الإعلام أنفسهم، مجبرين على التوفيق بين معتقدات متناقضة، مما يؤدّي إلى تبريرات، وعدم ارتياح أخلاقي، أو تناقضات في السياسات. لقد كشف هذا الصراع عن نفاق في الاستجابات الدولية، والسرديات الإعلامية، والتحالفات السياسية، مما جعل الكثيرين يكافحون لمواءمة أفعالهم مع قيمهم المعلنة. أدّى هذا النفاق ورؤية جرائم إسرائيل على التلفاز، إلى أن يلجأ الأشخاص إلى تغيير المعتقدات بالكامل، واختيار الراديكالية لأنها الوسيلة الأوضح، حينما نريد أن نناقش أي موضوع متعلّق بكيان مجرم مثل إسرائيل.
سأبدأ بنفسي لأنني أفضّل أن يكون هذا المقال نوعاً من البلوغ، وليس تحليلاً لما يجري، فأنا لست مخوّلة أن أحلل أو أناقش. كان كل ما جرى بالنسبة إليّ مبرراً كافياً لأتخذ موقفاً راديكالياً. فالحرب أصابتني في الصميم، هددت عائلتي ودمّرت مدينتي (الضاحية الجنوبية) التي ولدت وتربيت فيها.
كانت المشاعر في الحرب فائضة، وهي مشاعر تحمل الكثير من الخوف والقلق والغضب، نوع من الغضب لم أختبره يوماً. وبينما كنت أعيش هذه الحالات، كنت أيضاً أقرأ التحليلات السياسية، التي غالباً ما كانت تبرر لإسرائيل وتضع “حزب الله” في الواجهة. كانت هذه التحليلات من أشخاص اعتبرتهم زملاء وحتى أصدقاء. أشخاص رغبت لو كان بإمكاني ضربهم بدلاً من مناقشتهم. هنا كانت الخطوة الأولى نحو الشفاء من هؤلاء الأشخاص، وهي “الميوت” وأحياناً “الأن-فولو”. وهي فقط “كبسات” وهمية لا تعني شيئاً حقيقياً، وعلى الأغلب كل من قطعت علاقتي الوهمية أو الرقمية به، لا يعلم بذلك. وهنا أتت فكرة “تركي خط الرجعة”.
بما أننا نعيش في زمن الرأسمالية، القيم مكلفة أحياناً، ولذلك علينا أن نحافظ على علاقاتنا المهنية، وألا نعزل أنفسنا عن الغير، فالسياسة تتغيّر، وسنكون يوماً من الأيام غير قادرين على الحفاظ على مشاعر الحرب، وعلينا أن ننفض هذه المشاعر، ونتّبع نهج “المسايرة” أو “الديبلوماسية” وبالفعل نترك خطاً للرجعة.
كانت “المقاومة” هي الخلاف الأساسي في الحرب وحتى اليوم، وكان حسن نصرالله جزءاً من الخلاف، وكانت النسوية أيضاً جزءاً آخر من الخلاف. كنت من أشد المعارضين لـ”حزب الله” من قبل، لكني أصبحت من المدافعين عنه في هذه الحرب، ولأنني اتّفقت معه على فكرة محاربة العدو، ووجدت أن المقاومة هي ما يشبه معتقداتي وقيمي في هذه الحرب. قد تظهر بعض الخطوط لتُطلق عليّ “labels” مثل “نيو ممانعة” و”نسوية الممانعة”، لكن الموضوع أبسط من كل هذا. لدي تجربة خاصة مع إسرائيل و”حزب الله”، ومن هنا أتى موقفي، ولن أناقش هذا الموقف أو أدافع عنه.
كنت أظن أنني كسرت “تروما الجيل السابق”، وبدلاً من أن أصنع عداوات بسبب السياسة، وصلت إلى حالة تقبّل للآراء المختلفة. فما تفرّقه السياسة، تجمعه العشرة والخبز والملح. لكن لا.
مع تشييع نصرالله، اكتشفت أنني ما زلت أحمل الكثير من الراديكالية تجاه ما يجري، وجدت نفسي أبرر لماذا يُحزنني استشهاد نصرالله، ووجدت الكثير من الزملاء يلومون أشخاصاً يحزنون على نصرالله، ويُعيبون عليهم مشاعرهم. بالطبع أتفهّم، لكن أيضاً، أنا لست هنا لأبرر لماذا يُبكيني موت نصرالله، وماذا يعني نصرالله لي. مع كل هذا، لم أفهم لماذا ما زلت صديقة مع الأشخاص الذين اختاروا يوم التشييع ليعيبوا على فرد مثلي. كان هناك تضارب كبير بين شخصٍ وآخر، هناك من اعتبر أن المواقف السياسية تحدد علاقته بالأشخاص، فتشاجر مع من يختلف معه، وكان هناك من اختار خطاً أكثر دبلوماسية، وترك أشخاصاً معارضين في دائرته الصغيرة والكبيرة.
كان هذا اليوم بمثابة ساحة معركة رقمية، أرى أشخاصاً يتشاجرون مع أشخاص، حتى أنه كان هناك خلافات في مجتمع “الميم عين”، أرى أصدقاء مثليين في التشييع، أرى مثليين آخرين يُعيبون على من حزن على نصرالله. يخبرني الكثير أنه لم يفهم “تكويعي” المفاجئ في الحرب، ولماذا قررت أن أمجّد نصرالله في يوم تشييعه رغم نسويتي. أرى “بهدلات” أونلاين، أشعر أنها موجّهة لي. وحتى اليوم لا أفهم، هل سنعود أصدقاء، ونضع ما جرى تحت السجادة، ونضحك مع بعضنا بعضاً في السهرات؟
كنت أظن أنني كسرت “تروما الجيل السابق”، وبدلاً من أن أصنع عداوات بسبب السياسة، وصلت إلى حالة تقبّل للآراء المختلفة. فما تفرّقه السياسة، تجمعه العشرة والخبز والملح. لكن لا. أظن أنني تعلمت هذا من أمي. كان نصرالله أكبر خلاف بيني وبين أمي، فهي رأته بطلاً ورجلاً لم يخذلها يوماً، وأنا لم أر به ذلك. للأسف، توفيت أمي قبل نصرالله، وكنت في تشييعه لا أبكيه فقط، بل أبكي خسارة أمي التي أعلم أنها لو عاشت في زمن موته، لما تحمّلت فراقه. مع هذا، أنا وأمي كنا مقربتين كثيراً، نتّفق على كل شيء، نضحك كثيراً، ولا تجمعنا أية علاقة سامة، كان هناك خلاف واحد بيننا وهو نصرالله والحزب، ومع هذا، اعتدت على هذا الخلاف.
أتذكّر أنه في الانتخابات النيابية الأخيرة، لم أوصّلها إلى مركز الاقتراع لأنها تريد انتخاب علي عمار، لكن وأنا أنتظر دوري، رأيتها تدخل بكل أناقة، وضحكنا كثيراً وعدنا إلى المنزل معاً. علاقتي مع أمي حضرتني لهذا ربما. لكن أتذكّرها حينما كانت تسرد لي قصص الحرب الأهلية. كان خالي وسيم منصور يملك كافيه صغير في الحيّ، وكان يلتقي به ليلاً شباب الحزب والحركة. كانت أمي تخبرني أن الرجال الذين يتقاتلون في النهار، كانوا يلتقون في الليل عند خالي، ولربما أخذت هذه الدبلوماسية من شقيقها، الذي مات صغيراً مثلها بسكتة قلبية. لربما لم أكسر “تروما الجيل السابق”، بل حملتها معي، وأصبحت مثل أم وليد كريدية وأمي وخالي، ديبلوماسية تجمع ما تفرّقه السياسة.
حتى اليوم، لا يمكن أن أرى تفسيراً واضحاً لماذا ما زلت صديقة لكثير من الأشخاص، الذين أودّ أن أتناقش معهم نقاشاً سياسياً حاداً، فيه الكثير من الصراخ والشتائم. أعلم أنني أملك قدرة على معرفة من يعبّر عن رأيه لأنه “إسلامو- فوب”، ومن يعبّر عن رأيه بطريقة عقلانية. يقول لي صديق لي أن ما يجري معنا هو ليس نضجاً كما أظن، بل هو حالة من الضياع والارتباك وضعنا فيها نصرالله، الذي مات بآلاف الأطنان دفاعاً عن كلمته وموقفه تجاه غزة. نصرالله الذي لا يحبّه السوريون ويحترمه الفلسطينيون ويقدّسه أغلب الشيعة، وأرى به منقذ أمي وحبيب جدتي وخسارة عمتي وعمي.
تخبرني صديقة أخرى أنها بعكسي “لم أعد أملك أصدقاء أختلف معهم في السياسة”، وتقول لي ثالثة “فيني اتفهّمك ولا أكرهك بل أكره نصرالله كثيراً”. وأغرب رسالة وصلتني كانت من صديقة اعترفت أنها كانت تشعر أن حبيبتها السابقة، التي تركتها بسبب السياسة ترغب أحياناً في مناداتها “يا صهيونية”، حينما يشتد النقاش السياسي بينهما، لكنها تبلع الكلمة.
أحيانا أظن أن الحل اليوم ليس في أن نضع الخلافات تحت السجادة، بل أن نحكي ونناقش، لربما نكتشف نوعاً من الحب الجديد يتخطّى اختلاف القيم والمعتقدات، ولربما نتمكن من أن نستمع من دون أن نقنع بعضنا بعضاً. وأحياناً اشعر أن طبيبتي النفسية كان معها حق حينما قالت لي “اقطعي علاقاتك مع كل من لا يتشارك معك القيم”، وأحياناً أشعر أنه عليّ أن أحمل علاقتي بأمي وأزرعها في كل مكان مع الكثير من الضحك.
إقرأوا أيضاً: