fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

هل يحتاج السوريون إلى خطاب من أحمد الشرع؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

مرّ أكثر من شهر على هروب الأسد، وتنصيب أبو محمد الجولاني نفسه قائداً للمرحلة المؤقتة، معتمداً تسمية أحمد الشرع. لكن يبدو أن أحمد الشرع لم ينقلب على نهج أبو محمد الجولاني في التعامل مع الشعب السوري. نهجٌ يتسم بالتجاهل المتعمد للتواصل المباشر مع السوريين والسوريات، يكتفي بتحركات سياسية وإدارية لا يقدم عنها أي تفسير أو مبرر، ما يثير أسئلة عن طبيعة العلاقة التي يبنيها مع الجمهور الذي يفترض أنه يمثله أو يحكمه. 

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

فجر هروب الأسد، تحلّقنا حول طاولة في العاصمة الفرنسية، نصغي إلى البيان رقم 1، بهدوء يعاكس الهرج والرقص والنشوة الاحتفالية التي سبقت جلستنا، وتابعنا البيان الأول، واليوم أتابع على هاتفي مقطعاً سجله صديقنا توثيقاً لما ظنناه لحظة تاريخية. كانت لحظة سوريالية، مجموعة وجدت مبنى التلفزيون فارغاً، فملأت الفراغ بقراءة بيان مرتجل. 

الخطاب السياسي الموجّه للشعب هو حجر الزاوية لأي قيادة في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى، الجسر الذي يربط بين تطلعات الناس ورؤية القيادة، وبين المخاوف الجماعية والحلول المقترحة. في خضم الأحداث التي أعادت تشكيل وجه سوريا منذ اندلاع الثورة عام 2011، تكشّفت هشاشة الخطابات السياسية أمام تطلعات الشعب وآلامه. من وعود بشار الأسد التي اتسمت بالغموض والمراوغة، إلى سياسات أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) التي افتقدت الشفافية والتواصل، بدا غياب الخطاب الصادق والمباشر عاملاً جوهرياً في تعميق جراح السوريين. وعلى رغم محاولات “الجولاني” تلميع صورته دولياً، يبقى السؤال مفتوحاً: كيف بإمكان قيادة أن تبني شرعية حقيقية بينما تتجاهل الشعب؟

خطابات الأسد: بين المراوغة والتشخيص النظري للأزمة

عكس خطاب بشار الأسد الأول بعد بدء الاحتجاجات السورية في آذار/ مارس 2011 توجهاً يغلب عليه التشخيص العام للأحداث بدلاً من التركيز على معالجة المطالب الشعبية الملحّة. فعلى الرغم من الإشارة إلى أهمية الإصلاح، ظل الحديث عن الخطط المستقبلية، مثل إعداد قانون الأحزاب ومكافحة الفساد، غامضاً وغير مصحوب بجدول زمني واضح أو خطوات تنفيذية محددة. هذا النهج أعطى انطباعاً بالتأجيل وأثار تساؤلات حول جدية الاستجابة للمطالب التي رفعتها الاحتجاجات. كما حمل الخطاب تركيزاً كبيراً على نظرية “المؤامرة” لتفسير الأحداث، ما طغى على الاعتراف بالاحتياجات الحقيقية للشعب السوري. بدلاً من تقديم رؤية شاملة تعالج جذور الأزمة، ركز الأسد على خطر الفتنة والضغوط الخارجية، ما أدى إلى إضعاف الإحساس بأن القيادة تسعى فعلاً إلى الاستماع للمطالب الشعبية أو تقديم حلول فورية. بالإضافة إلى ذلك، افتقر الخطاب إلى لغة تطمئن الشارع أو تهدئ التوترات، وبدت الرسائل موجهة لتعزيز دعم النظام أكثر من كونها دعوة إلى الحوار أو الإصلاح.

في خطابه الثاني بتاريخ 16 نيسان/ إبريل 2011، وعد بشار الأسد بإلغاء قانون الطوارئ الساري منذ عام 1963 ومحكمة أمن الدولة، وحث الحكومة الجديدة على اتخاذ خطوات إصلاحية ملموسة. ولكن هذا جاء من دون سياق عملي يضمن تنفيذ هذه الإصلاحات على أرض الواقع. يبدو أن الهدف كان تهدئة الضغط الشعبي والدولي، إلا أن هذه الوعود لم تحمل طابع الإلحاح أو الجدية المطلوبة للتعامل مع أزمة متصاعدة.

ألقى بشار الأسد خطابه الثالث في 20 حزيران/ يونيو 2011، ساعياً فيه إلى تعزيز الدعم الروسي والصيني الرافض فرض عقوبات أممية على نظامه، ما يتيح له المزيد من الوقت لمحاولة احتواء الأزمة المتفاقمة. كما أعلن عن تشكيل لجنة للحوار الوطني، وأشار إلى خطط لانتخاب مجلس شعب جديد في آب/ أغسطس 2011. جاء الخطاب فيما ازدادت الضغوط الدولية، لكنه كشف عن تركيز أكبر على الحفاظ على دعم حلفاء النظام، خصوصاً روسيا والصين. 

إعلان الأسد عن لجنة الحوار الوطني والانتخابات البرلمانية الجديدة عكس رغبة في إظهار نية للإصلاح أمام المجتمع الدولي، لكنها خطوات كانت أقرب إلى المناورة السياسية منها إلى معالجة المطالب الشعبية. تزامن ذلك مع تركيزه على تعزيز موقف النظام خارجياً أكثر من التركيز على الداخل السوري، ما عمق الفجوة بين الخطاب الرسمي ومطالب الشارع.

تعكس هذه الخطابات مزيجاً من المراوغة والتشخيص النظري للأحداث، مع غياب الإرادة السياسية لتقديم حلول فعلية. هذه الاستراتيجية ساهمت في إطالة أمد الأزمة وتعميق التوترات، بدلًا من احتوائها أو الاستجابة لمسبباتها الرئيسية.

الجولاني وحكومة الإنقاذ: شرعية غائبة وخطاب مغيب

لم يكن الحال مختلفاً في إدلب بعد سنوات من الثورة السورية. كانت سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب نتيجة لهيمنة الجولاني الذي لم يكتفِ بالتغلّب على القوى المنافسة، بل ابتلعها واحدة تلو الأخرى، مكرساً نفسه زعيماً بلا منافس. تمكن الجولاني من فرض هيمنته عبر القضاء على الفصائل المعارضة، مثل فصائل الجيش الحر المكونة من ضباط منشقين وثوار مدنيين حملوا السلاح دفاعاً عن الشعب، وأحرار الشام الذين كانوا يمثلون إلى حد كبير الإسلام السياسي الجهادي في سوريا وكانوا المشروع المواجه لمشروع الجولاني، وإخضاع الفصائل الأخرى من خلال إنشاء غرفة عمليات “الفتح المبين”، التي جعلت جميع الأطراف تعمل تحت مظلته. 

مع ذلك، افتقرت هذه السيطرة إلى أي شرعية مجتمعية حقيقية، إذ اعتمدت الهيئة بشكل أساسي على القوة والإقصاء، مع قمع أي احتجاجات شعبية ضد حكمها، كما حدث في مدن مثل بنش وجسر الشغور. هذه السيطرة لم تأتِ من شرعية مجتمعية حقيقية، بل من استراتيجيات الإقصاء والقوة، لتضع الجولاني في قلب مشهد يفتقر الى أي عقد اجتماعي يُعطيه الحق في تمثيل المنطقة.

كان تشكيل حكومة الإنقاذ محاولة لتقديم هيئة تحرير الشام كسلطة حاكمة قادرة على إدارة شؤون المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلا أن الواقع على الأرض يكشف عن صورة مختلفة. فعلى مدار السنوات الماضية، اعتمدت الهيئة بشكل أساسي على الموارد المالية التي تجنيها من المعابر والضرائب المفروضة على السكان، لكنها لم توظف هذه الموارد بشكل فعلي لدعم مشاريع تنموية أو خدماتية تخدم المجتمع المحلي. 

في المقابل، كان العمل الخدمي والتنموي الفعلي تديره بشكل شبه كامل المنظمات والجمعيات الدولية والمحلية. تحملت هذه الهيئات، على رغم التحديات والقيود المفروضة عليها، العبء الأكبر في توفير الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة وإغاثة، بينما انحصر دور الهيئة في مهام مجلس محلي فعلياً، من دون تقديم أي خطط مستدامة لتحسين واقع السكان أو تلبية احتياجاتهم المتزايدة.

منذ ظهوره كزعيم لهيئة تحرير الشام، بدا الجولاني وكأنه يضع الشعب خارج معادلة خطابه. سواء في لحظات الصراع أو الاحتجاج، ظل غائباً عن تقديم رؤية واضحة أو تفسير مقنع لسياساته. على سبيل المثال، عندما تصاعدت الاحتجاجات في المناطق الخاضعة لسيطرته، لم يخرج الجولاني ليشرح أو يناقش أو حتى يستمع. بدلًا من ذلك، استمر في تنفيذ قراراته وسياساته من دون التفات إلى الرأي العام المحلي. قرارات مثل فرض سياسات أمنية صارمة أو إدارة موارد المناطق بطريقة مثيرة للجدل أثرت على حياة الناس بشكل مباشر، من دون أن تحظى بأي تبرير أو تفسير رسمي. 

وعلى الرغم من أن “هيئة تحرير الشام” لم تتبنّ الديمقراطية أو السيادة الشعبية، سعى زعيمها، أبو محمد الجولاني، إلى تقديم مشروع بناء الدولة كجهد يشمل جميع السكان عبر اجتماعات عدة مع وجهاء دينيين ومدنيين على امتداد 2021، 2022، 2023. خاطب في إدلب من كانوا يعتبرون قادة مجتمعيين وأعياناً، ولم يكونوا في غالبيتهم محضر توافق الجميع. بحسب صحيفة الغد، أكد الجولاني في خطابه أمام وجهاء إدلب في آب/ أغسطس 2022: “نحن جميعًا مؤسسة واحدة، كلنا لدينا سلطة، نحن كل الشعب”.

حاول أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، عبر اجتماعاته مع وجهاء المناطق والناشطين في إدلب، تقديم نفسه كقائد يعمل على بناء دولة مكتفية ذاتياً ومجتمع قادر على حماية ذاته. سعى إلى تأطير هذه الاجتماعات على أنها منصة للنقاش المفتوح والتفاعل مع قضايا السكان المحليين. تحدث الجولاني عن مشاريع تنموية تشمل تحسين الزراعة عبر خطط متكاملة، تطوير الصناعة بتبسيط القوانين وتسهيل التراخيص، وتحسين الخدمات العامة كالكهرباء والمياه. من خلال هذه اللقاءات، يُظهر رغبة في تعزيز الاكتفاء الذاتي والتخلص من الاعتماد على المساعدات الدولية، معتبراً أن الاعتماد الكلي على الدعم الخارجي يشكل إهانة للشعب السوري.

مع ذلك، تعكس طبيعة هذه الاجتماعات صورة مزدوجة؛ فمن جهة، أتاح الجولاني للنقاشات المتعلقة بالخدمات العامة والاحتياجات المحلية أن تبرز كوسيلة لتصحيح المسار وتعزيز شرعية هيئة تحرير الشام كسلطة حاكمة. ومن جهة أخرى، تشير التقارير إلى أن هذه الاجتماعات لا تتسع للنقد السياسي أو القضايا الحساسة التي قد تهدد سلطته. كانت الانتقادات التي تُطرح عبر القنوات الرسمية تُعتبر مقبولة، بينما يُقمع أي نقد علني أو تناول مواضيع تُعتبر “مخلّة بالأمن العام”. بهذا الشكل، تبدو الاجتماعات محاولة لترويج صورة منفتحة على الحوار، لكنها في الوقت ذاته تعمل على ضبط حدود النقاش ضمن إطار يخدم مشروع الهيئة السياسي.

الجولاني بين استعراض القيادة وتجاهل المسؤولية

مرّ أكثر من شهر على هروب الأسد، وتنصيب أبو محمد الجولاني نفسه قائداً للمرحلة المؤقتة، معتمداً تسمية أحمد الشرع. لكن يبدو أن أحمد الشرع لم ينقلب على نهج أبو محمد الجولاني في التعامل مع الشعب السوري. نهجٌ يتسم بالتجاهل المتعمد للتواصل المباشر مع السوريين والسوريات، يكتفي بتحركات سياسية وإدارية لا يقدم عنها أي تفسير أو مبرر، ما يثير أسئلة عن طبيعة العلاقة التي يبنيها مع الجمهور الذي يفترض أنه يمثله أو يحكمه. 

لا أُطالب الحكومة المؤقتة هنا بمضاهاة دول العالم الأول، لكنني أرى أن الخروج بخطاب واحد للشعب، ولنسمه “خطاب النصر”، هو مطلب شرعي وقابل للتنفيذ، إذا ما توافرت النية السياسية للشفافية. 

في أعقاب سقوط الأسد، زاد الجولاني من نشاطه في عقد لقاءات مع فئات محددة مثل رجال الأعمال والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، والوجهاء الدينيين من مختلف الطوائف. إلا أن اللافت في هذه التحركات هو امتناعه المستمر عن لقاء أسر المفقودين والمغيبين قسراً، الذين يمثلون شريحة مجتمعية تحمل ألماً كبيراً وتساؤلات مشروعة حول مصير أبنائهم، وتشكل فاعلاً رئيساً في مسار العدالة الانتقالية. هذا الامتناع يعكس فجوة عميقة في خطاب الجولاني، الذي يبدو انتقائياً في تحديد الفئات التي يخاطبها، متجنباً مواجهة القضايا الإنسانية الحساسة التي تمس عمق الأزمة السورية.

ما يلفت الانتباه هو الانفتاح الذي يظهره الجولاني على المجتمع الدولي والإعلام الأجنبي. فقد شاهدناه يطل في مقابلات صحافية يرتدي الملابس المدنية، محاولًا تلميع صورته كزعيم سياسي معتدل. يمكن تفسير هذه الخطوة بأنها محاولة لإعادة صياغة صورته أمام القوى الدولية. إلا أن هذا السلوك يثير تساؤلات: كيف بإمكان زعيم أن يسعى الى الحصول على اعتراف دولي بينما يفشل في التواصل مع شعبه؟

هل هذا التجاهل تعبير عن استعلاء سياسي، يرى فيه الجولاني أن مخاطبة الشعب ليست ضرورية؟ أم أنه تكتيك لتجنب الاعتراف بمسؤولياته أمام جمهور يرفض سياساته؟ قد يكون السبب مزيجاً من الاثنين، إذ يفضل الجولاني البقاء في منطقة الظل بدلاً من مواجهة الواقع الذي يتطلب الشفافية والوضوح. قد يكون غياب الخطاب الموجه للشعب جزءاً من استراتيجية تجنب المواجهة مع أسئلة يصعب الإجابة عنها. مثلًا، كيف يمكن تبرير السياسات التي فرضتها هيئة تحرير الشام على المناطق التي تسيطر عليها؟ وكيف يمكن تفسير العلاقات المتشابكة مع القوى الإقليمية والدولية؟

تشبه هذه الحالة السورية في جانبها المأساوي عبثية مسرحية “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت، حيث يبقى الأمل معلقاً بوعد لا يتحقق. لكن هنا، الانتظار لا ينتمي إلى عالم العبث، بل ينبع من حاجة مشروعة وأصيلة لدى السوريين لرؤية قيادة تخاطبهم بوضوح وتشاركهم رؤيتها للمستقبل. إنه انتظار يعبر عن مطلب جماعي لا يتوقف عند الوعود المبهمة، بل يتجاوزها إلى المطالبة بإجابات دقيقة وخطط ملموسة تعكس احتراماً لوعي الناس ومأساتهم. وبصفتي مواطنة سورية، أجد نفسي في قلب هذا الانتظار، أطالب بمطلب محدد وواضح:

الخروج بخطاب موجه للشعب السوري، يشرح فيه الجولاني رؤيته عن مهام الحكومة المؤقتة، خطة الأشهر الثلاثة التي مضى منها شهر بالفعل، علاقة الحكومة بتنظيم المؤتمر الوطني، واستعداده للانخراط في مسار عدالة انتقالية لا يستثني جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام.

هذا المطلب ليس رفاهية سياسية، إنما هو حق أساسي. الشعب السوري الذي عاش معاناة الحرب والتهميش لسنوات يستحق أن يسمع رؤية صادقة وخطة عملية. 

ولهذا التجاهل تداعيات خطيرة. فبينما يسعى الجولاني الى تلميع صورته دولياً، تتآكل شرعيته محلياً. الهوة تتسع، وصورة القيادة تتحول إلى نموذج يعتمد على القوة أكثر من التفاهم. السؤال الذي يجب أن يطرحه الجولاني على نفسه: إلى متى يمكن لأي قوة أن تبقى بمعزل عن شعبها؟ هل يمكنه إدراك أن الشرعية الحقيقية تبدأ من الداخل، من خطاب صادق ومباشر يعترف بالشعب كشريك في صياغة المستقبل؟ أم أن رهانه سيبقى على الخارج فقط، معتمداً على صورة مصقولة لا تعكس واقع الأرض؟

الإجابة قد تكون في المستقبل القريب، لكن الشعب السوري الذي أثبت صبره ووعيه لا يمكن أن يُبقي على انتظار طويل. هذا الشعب يستحق خطاباً يليق بوعيه ونضاله، خطاباً يعترف بوجوده ودوره المحوري في أي معادلة سياسية. وفي غياب هذا الخطاب، يبقى الجولاني أسير معادلة مختلّة لا يمكن أن تدوم طويلاً.

مرّ أكثر من شهر على هروب الأسد، وتنصيب أبو محمد الجولاني نفسه قائداً للمرحلة المؤقتة، معتمداً تسمية أحمد الشرع. لكن يبدو أن أحمد الشرع لم ينقلب على نهج أبو محمد الجولاني في التعامل مع الشعب السوري. نهجٌ يتسم بالتجاهل المتعمد للتواصل المباشر مع السوريين والسوريات، يكتفي بتحركات سياسية وإدارية لا يقدم عنها أي تفسير أو مبرر، ما يثير أسئلة عن طبيعة العلاقة التي يبنيها مع الجمهور الذي يفترض أنه يمثله أو يحكمه. 

فجر هروب الأسد، تحلّقنا حول طاولة في العاصمة الفرنسية، نصغي إلى البيان رقم 1، بهدوء يعاكس الهرج والرقص والنشوة الاحتفالية التي سبقت جلستنا، وتابعنا البيان الأول، واليوم أتابع على هاتفي مقطعاً سجله صديقنا توثيقاً لما ظنناه لحظة تاريخية. كانت لحظة سوريالية، مجموعة وجدت مبنى التلفزيون فارغاً، فملأت الفراغ بقراءة بيان مرتجل. 

الخطاب السياسي الموجّه للشعب هو حجر الزاوية لأي قيادة في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى، الجسر الذي يربط بين تطلعات الناس ورؤية القيادة، وبين المخاوف الجماعية والحلول المقترحة. في خضم الأحداث التي أعادت تشكيل وجه سوريا منذ اندلاع الثورة عام 2011، تكشّفت هشاشة الخطابات السياسية أمام تطلعات الشعب وآلامه. من وعود بشار الأسد التي اتسمت بالغموض والمراوغة، إلى سياسات أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) التي افتقدت الشفافية والتواصل، بدا غياب الخطاب الصادق والمباشر عاملاً جوهرياً في تعميق جراح السوريين. وعلى رغم محاولات “الجولاني” تلميع صورته دولياً، يبقى السؤال مفتوحاً: كيف بإمكان قيادة أن تبني شرعية حقيقية بينما تتجاهل الشعب؟

خطابات الأسد: بين المراوغة والتشخيص النظري للأزمة

عكس خطاب بشار الأسد الأول بعد بدء الاحتجاجات السورية في آذار/ مارس 2011 توجهاً يغلب عليه التشخيص العام للأحداث بدلاً من التركيز على معالجة المطالب الشعبية الملحّة. فعلى الرغم من الإشارة إلى أهمية الإصلاح، ظل الحديث عن الخطط المستقبلية، مثل إعداد قانون الأحزاب ومكافحة الفساد، غامضاً وغير مصحوب بجدول زمني واضح أو خطوات تنفيذية محددة. هذا النهج أعطى انطباعاً بالتأجيل وأثار تساؤلات حول جدية الاستجابة للمطالب التي رفعتها الاحتجاجات. كما حمل الخطاب تركيزاً كبيراً على نظرية “المؤامرة” لتفسير الأحداث، ما طغى على الاعتراف بالاحتياجات الحقيقية للشعب السوري. بدلاً من تقديم رؤية شاملة تعالج جذور الأزمة، ركز الأسد على خطر الفتنة والضغوط الخارجية، ما أدى إلى إضعاف الإحساس بأن القيادة تسعى فعلاً إلى الاستماع للمطالب الشعبية أو تقديم حلول فورية. بالإضافة إلى ذلك، افتقر الخطاب إلى لغة تطمئن الشارع أو تهدئ التوترات، وبدت الرسائل موجهة لتعزيز دعم النظام أكثر من كونها دعوة إلى الحوار أو الإصلاح.

في خطابه الثاني بتاريخ 16 نيسان/ إبريل 2011، وعد بشار الأسد بإلغاء قانون الطوارئ الساري منذ عام 1963 ومحكمة أمن الدولة، وحث الحكومة الجديدة على اتخاذ خطوات إصلاحية ملموسة. ولكن هذا جاء من دون سياق عملي يضمن تنفيذ هذه الإصلاحات على أرض الواقع. يبدو أن الهدف كان تهدئة الضغط الشعبي والدولي، إلا أن هذه الوعود لم تحمل طابع الإلحاح أو الجدية المطلوبة للتعامل مع أزمة متصاعدة.

ألقى بشار الأسد خطابه الثالث في 20 حزيران/ يونيو 2011، ساعياً فيه إلى تعزيز الدعم الروسي والصيني الرافض فرض عقوبات أممية على نظامه، ما يتيح له المزيد من الوقت لمحاولة احتواء الأزمة المتفاقمة. كما أعلن عن تشكيل لجنة للحوار الوطني، وأشار إلى خطط لانتخاب مجلس شعب جديد في آب/ أغسطس 2011. جاء الخطاب فيما ازدادت الضغوط الدولية، لكنه كشف عن تركيز أكبر على الحفاظ على دعم حلفاء النظام، خصوصاً روسيا والصين. 

إعلان الأسد عن لجنة الحوار الوطني والانتخابات البرلمانية الجديدة عكس رغبة في إظهار نية للإصلاح أمام المجتمع الدولي، لكنها خطوات كانت أقرب إلى المناورة السياسية منها إلى معالجة المطالب الشعبية. تزامن ذلك مع تركيزه على تعزيز موقف النظام خارجياً أكثر من التركيز على الداخل السوري، ما عمق الفجوة بين الخطاب الرسمي ومطالب الشارع.

تعكس هذه الخطابات مزيجاً من المراوغة والتشخيص النظري للأحداث، مع غياب الإرادة السياسية لتقديم حلول فعلية. هذه الاستراتيجية ساهمت في إطالة أمد الأزمة وتعميق التوترات، بدلًا من احتوائها أو الاستجابة لمسبباتها الرئيسية.

الجولاني وحكومة الإنقاذ: شرعية غائبة وخطاب مغيب

لم يكن الحال مختلفاً في إدلب بعد سنوات من الثورة السورية. كانت سيطرة هيئة تحرير الشام في إدلب نتيجة لهيمنة الجولاني الذي لم يكتفِ بالتغلّب على القوى المنافسة، بل ابتلعها واحدة تلو الأخرى، مكرساً نفسه زعيماً بلا منافس. تمكن الجولاني من فرض هيمنته عبر القضاء على الفصائل المعارضة، مثل فصائل الجيش الحر المكونة من ضباط منشقين وثوار مدنيين حملوا السلاح دفاعاً عن الشعب، وأحرار الشام الذين كانوا يمثلون إلى حد كبير الإسلام السياسي الجهادي في سوريا وكانوا المشروع المواجه لمشروع الجولاني، وإخضاع الفصائل الأخرى من خلال إنشاء غرفة عمليات “الفتح المبين”، التي جعلت جميع الأطراف تعمل تحت مظلته. 

مع ذلك، افتقرت هذه السيطرة إلى أي شرعية مجتمعية حقيقية، إذ اعتمدت الهيئة بشكل أساسي على القوة والإقصاء، مع قمع أي احتجاجات شعبية ضد حكمها، كما حدث في مدن مثل بنش وجسر الشغور. هذه السيطرة لم تأتِ من شرعية مجتمعية حقيقية، بل من استراتيجيات الإقصاء والقوة، لتضع الجولاني في قلب مشهد يفتقر الى أي عقد اجتماعي يُعطيه الحق في تمثيل المنطقة.

كان تشكيل حكومة الإنقاذ محاولة لتقديم هيئة تحرير الشام كسلطة حاكمة قادرة على إدارة شؤون المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلا أن الواقع على الأرض يكشف عن صورة مختلفة. فعلى مدار السنوات الماضية، اعتمدت الهيئة بشكل أساسي على الموارد المالية التي تجنيها من المعابر والضرائب المفروضة على السكان، لكنها لم توظف هذه الموارد بشكل فعلي لدعم مشاريع تنموية أو خدماتية تخدم المجتمع المحلي. 

في المقابل، كان العمل الخدمي والتنموي الفعلي تديره بشكل شبه كامل المنظمات والجمعيات الدولية والمحلية. تحملت هذه الهيئات، على رغم التحديات والقيود المفروضة عليها، العبء الأكبر في توفير الخدمات الأساسية، من تعليم وصحة وإغاثة، بينما انحصر دور الهيئة في مهام مجلس محلي فعلياً، من دون تقديم أي خطط مستدامة لتحسين واقع السكان أو تلبية احتياجاتهم المتزايدة.

منذ ظهوره كزعيم لهيئة تحرير الشام، بدا الجولاني وكأنه يضع الشعب خارج معادلة خطابه. سواء في لحظات الصراع أو الاحتجاج، ظل غائباً عن تقديم رؤية واضحة أو تفسير مقنع لسياساته. على سبيل المثال، عندما تصاعدت الاحتجاجات في المناطق الخاضعة لسيطرته، لم يخرج الجولاني ليشرح أو يناقش أو حتى يستمع. بدلًا من ذلك، استمر في تنفيذ قراراته وسياساته من دون التفات إلى الرأي العام المحلي. قرارات مثل فرض سياسات أمنية صارمة أو إدارة موارد المناطق بطريقة مثيرة للجدل أثرت على حياة الناس بشكل مباشر، من دون أن تحظى بأي تبرير أو تفسير رسمي. 

وعلى الرغم من أن “هيئة تحرير الشام” لم تتبنّ الديمقراطية أو السيادة الشعبية، سعى زعيمها، أبو محمد الجولاني، إلى تقديم مشروع بناء الدولة كجهد يشمل جميع السكان عبر اجتماعات عدة مع وجهاء دينيين ومدنيين على امتداد 2021، 2022، 2023. خاطب في إدلب من كانوا يعتبرون قادة مجتمعيين وأعياناً، ولم يكونوا في غالبيتهم محضر توافق الجميع. بحسب صحيفة الغد، أكد الجولاني في خطابه أمام وجهاء إدلب في آب/ أغسطس 2022: “نحن جميعًا مؤسسة واحدة، كلنا لدينا سلطة، نحن كل الشعب”.

حاول أبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام، عبر اجتماعاته مع وجهاء المناطق والناشطين في إدلب، تقديم نفسه كقائد يعمل على بناء دولة مكتفية ذاتياً ومجتمع قادر على حماية ذاته. سعى إلى تأطير هذه الاجتماعات على أنها منصة للنقاش المفتوح والتفاعل مع قضايا السكان المحليين. تحدث الجولاني عن مشاريع تنموية تشمل تحسين الزراعة عبر خطط متكاملة، تطوير الصناعة بتبسيط القوانين وتسهيل التراخيص، وتحسين الخدمات العامة كالكهرباء والمياه. من خلال هذه اللقاءات، يُظهر رغبة في تعزيز الاكتفاء الذاتي والتخلص من الاعتماد على المساعدات الدولية، معتبراً أن الاعتماد الكلي على الدعم الخارجي يشكل إهانة للشعب السوري.

مع ذلك، تعكس طبيعة هذه الاجتماعات صورة مزدوجة؛ فمن جهة، أتاح الجولاني للنقاشات المتعلقة بالخدمات العامة والاحتياجات المحلية أن تبرز كوسيلة لتصحيح المسار وتعزيز شرعية هيئة تحرير الشام كسلطة حاكمة. ومن جهة أخرى، تشير التقارير إلى أن هذه الاجتماعات لا تتسع للنقد السياسي أو القضايا الحساسة التي قد تهدد سلطته. كانت الانتقادات التي تُطرح عبر القنوات الرسمية تُعتبر مقبولة، بينما يُقمع أي نقد علني أو تناول مواضيع تُعتبر “مخلّة بالأمن العام”. بهذا الشكل، تبدو الاجتماعات محاولة لترويج صورة منفتحة على الحوار، لكنها في الوقت ذاته تعمل على ضبط حدود النقاش ضمن إطار يخدم مشروع الهيئة السياسي.

الجولاني بين استعراض القيادة وتجاهل المسؤولية

مرّ أكثر من شهر على هروب الأسد، وتنصيب أبو محمد الجولاني نفسه قائداً للمرحلة المؤقتة، معتمداً تسمية أحمد الشرع. لكن يبدو أن أحمد الشرع لم ينقلب على نهج أبو محمد الجولاني في التعامل مع الشعب السوري. نهجٌ يتسم بالتجاهل المتعمد للتواصل المباشر مع السوريين والسوريات، يكتفي بتحركات سياسية وإدارية لا يقدم عنها أي تفسير أو مبرر، ما يثير أسئلة عن طبيعة العلاقة التي يبنيها مع الجمهور الذي يفترض أنه يمثله أو يحكمه. 

لا أُطالب الحكومة المؤقتة هنا بمضاهاة دول العالم الأول، لكنني أرى أن الخروج بخطاب واحد للشعب، ولنسمه “خطاب النصر”، هو مطلب شرعي وقابل للتنفيذ، إذا ما توافرت النية السياسية للشفافية. 

في أعقاب سقوط الأسد، زاد الجولاني من نشاطه في عقد لقاءات مع فئات محددة مثل رجال الأعمال والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، والوجهاء الدينيين من مختلف الطوائف. إلا أن اللافت في هذه التحركات هو امتناعه المستمر عن لقاء أسر المفقودين والمغيبين قسراً، الذين يمثلون شريحة مجتمعية تحمل ألماً كبيراً وتساؤلات مشروعة حول مصير أبنائهم، وتشكل فاعلاً رئيساً في مسار العدالة الانتقالية. هذا الامتناع يعكس فجوة عميقة في خطاب الجولاني، الذي يبدو انتقائياً في تحديد الفئات التي يخاطبها، متجنباً مواجهة القضايا الإنسانية الحساسة التي تمس عمق الأزمة السورية.

ما يلفت الانتباه هو الانفتاح الذي يظهره الجولاني على المجتمع الدولي والإعلام الأجنبي. فقد شاهدناه يطل في مقابلات صحافية يرتدي الملابس المدنية، محاولًا تلميع صورته كزعيم سياسي معتدل. يمكن تفسير هذه الخطوة بأنها محاولة لإعادة صياغة صورته أمام القوى الدولية. إلا أن هذا السلوك يثير تساؤلات: كيف بإمكان زعيم أن يسعى الى الحصول على اعتراف دولي بينما يفشل في التواصل مع شعبه؟

هل هذا التجاهل تعبير عن استعلاء سياسي، يرى فيه الجولاني أن مخاطبة الشعب ليست ضرورية؟ أم أنه تكتيك لتجنب الاعتراف بمسؤولياته أمام جمهور يرفض سياساته؟ قد يكون السبب مزيجاً من الاثنين، إذ يفضل الجولاني البقاء في منطقة الظل بدلاً من مواجهة الواقع الذي يتطلب الشفافية والوضوح. قد يكون غياب الخطاب الموجه للشعب جزءاً من استراتيجية تجنب المواجهة مع أسئلة يصعب الإجابة عنها. مثلًا، كيف يمكن تبرير السياسات التي فرضتها هيئة تحرير الشام على المناطق التي تسيطر عليها؟ وكيف يمكن تفسير العلاقات المتشابكة مع القوى الإقليمية والدولية؟

تشبه هذه الحالة السورية في جانبها المأساوي عبثية مسرحية “في انتظار غودو” لصموئيل بيكيت، حيث يبقى الأمل معلقاً بوعد لا يتحقق. لكن هنا، الانتظار لا ينتمي إلى عالم العبث، بل ينبع من حاجة مشروعة وأصيلة لدى السوريين لرؤية قيادة تخاطبهم بوضوح وتشاركهم رؤيتها للمستقبل. إنه انتظار يعبر عن مطلب جماعي لا يتوقف عند الوعود المبهمة، بل يتجاوزها إلى المطالبة بإجابات دقيقة وخطط ملموسة تعكس احتراماً لوعي الناس ومأساتهم. وبصفتي مواطنة سورية، أجد نفسي في قلب هذا الانتظار، أطالب بمطلب محدد وواضح:

الخروج بخطاب موجه للشعب السوري، يشرح فيه الجولاني رؤيته عن مهام الحكومة المؤقتة، خطة الأشهر الثلاثة التي مضى منها شهر بالفعل، علاقة الحكومة بتنظيم المؤتمر الوطني، واستعداده للانخراط في مسار عدالة انتقالية لا يستثني جبهة النصرة وهيئة تحرير الشام.

هذا المطلب ليس رفاهية سياسية، إنما هو حق أساسي. الشعب السوري الذي عاش معاناة الحرب والتهميش لسنوات يستحق أن يسمع رؤية صادقة وخطة عملية. 

ولهذا التجاهل تداعيات خطيرة. فبينما يسعى الجولاني الى تلميع صورته دولياً، تتآكل شرعيته محلياً. الهوة تتسع، وصورة القيادة تتحول إلى نموذج يعتمد على القوة أكثر من التفاهم. السؤال الذي يجب أن يطرحه الجولاني على نفسه: إلى متى يمكن لأي قوة أن تبقى بمعزل عن شعبها؟ هل يمكنه إدراك أن الشرعية الحقيقية تبدأ من الداخل، من خطاب صادق ومباشر يعترف بالشعب كشريك في صياغة المستقبل؟ أم أن رهانه سيبقى على الخارج فقط، معتمداً على صورة مصقولة لا تعكس واقع الأرض؟

الإجابة قد تكون في المستقبل القريب، لكن الشعب السوري الذي أثبت صبره ووعيه لا يمكن أن يُبقي على انتظار طويل. هذا الشعب يستحق خطاباً يليق بوعيه ونضاله، خطاباً يعترف بوجوده ودوره المحوري في أي معادلة سياسية. وفي غياب هذا الخطاب، يبقى الجولاني أسير معادلة مختلّة لا يمكن أن تدوم طويلاً.