يهبط المساء برويّة على المدينة المترقّبة، دمشق.
أشاهد من وراء الزجاج عند مدخل المؤسسة الحكومية قبالة منزلي ثلاثة شبان مسلّحين، أكبرهم في العشرينات، رشّاش أوتوماتيكي على الكتف، يتبادلون بضع كلمات ويتّجهون نحو مدخل السوق المركزي. بضع طلقات سُمعت من بعيد وقطعت الصمت، ثم سكن الليل.
العتمة ما زالت سيدة ليالي دمشق الشتوية الطويلة. كل الوعود بإنارة الشوارع، كل أفراح سقوط نظام الإجرام، نظام الأسد، بدأت تنقشع عن بلد مهدّم، منهوب ولا يدري أحد إلى أين تتّجه به الأقدار.
وبعيداً من السياسة والطائفية وحملات التطهير ووقفات التنديد والمطالبة بالحقوق وتظاهرات التأييد، نعيش في أجواء تتشابك فيها في كل لحظة مشاعر الرعب مع الفرح العميق.
دخل الثوّار إلى دمشق وأُعلن سقوط النظام من وسيلة إعلام خارجية، لم نكن نحن في الداخل بحاجة الى انتظار لحظة السقوط، فقد سبقتها أصوات التكبير الحي من كل الشوارع وحركة توزيع المسلّحين على مرافق الدولة.
هكذا أخذتنا الهستيريا الجماعية الى حالة تتراوح بين الخوف والغبطة، سامحين لأنفسنا بالانجرار إلى تصديق حلم كان ينتظر في أعماق كل فرد منا، وها هو ينجلي أمام أعيننا بين يوم وليلة.
اختفت صور الرئيس المستفزّة، وسقطت تماثيله وتماثيل أبيه وأخيه بمشاهد متتالية متشابهة، وكأنها فيلم سينمائي في بلاد أخرى.
ها نحن نعبّر عن دواخلنا بكل صراحة من دون أي رقيب. أليس هذا الشعور وحده يستحقّ أن نتنفّس بحريّة ونحتفل؟ لكن فجأة، يخرج علينا شبيه شخصية أبي القعقاع من أعماق مسلسل تاريخي بذقنه غير المشذّبة وشاربه الحليق، بدشداشته البنية وشعره المرسل حتى الكتفين، ويعلن دمشق ولاية أموية.
شخصية أبي القعقاع مع تنوّع الألقاب، صارت مديراً وحاكماً بأمره على رأس المؤسسات والإدارات الحكومية، تفكفك هذه الشخصية الفذّة مفاصل الدولة. وإذا كانت غاية هذه المهمة محاربة الفساد، فإن ذلك يتم بشكل صبياني لا يليق بنظام بيروقراطي تمّ تطويره على مدى سنوات عمل طويلة.
وجود الفاسدين لا يعني اعتبار الجميع فاسداً حتى تثبت استقامته ، بل أن يُدان الفاسد حين يثبت فساده. لقد تعرّض قطّاع الموظفين لظلم شديد بتوقيف رواتبهم والبدء بالتحقق من وثائق تعيينهم الأصلية في عملية ماراثونية طويلة لا يحتملها وضعهم الاقتصادي الهشّ. والأخطر شريحة المتقاعدين الذين ما زالوا حتى هذه اللحظة ينتظرون صرف رواتبهم ويُطالَبون أيضاً يتقديم أوراق اعتمادهم وكل ما يخص تعييناتهم من جديد.
ما هكذا تورد الإبل يا أبا القعقاع!
نحن بصدد تغيير إيجابي، لا نريد أن نصدّق عكس ذلك، ولكن كيف تقنع مسنّاً بعمر الثمانين أن حرمانه من دخله الشهري لثلاثة أشهر متتالية، لا يعني أنه مدان ومخوّن، وأن عمله الذي أفنى شبابه فيه يتعرّض للمساءلة والانتهاك؟
فساد النظام السابق كان العنصر الأهم في تفكّكه ذاتياً في الأيام الأخيرة. ومع ذلك، فقد كان لدخول قوات جبهة تحرير الشام إلى المدن بطريقة سلمية وانضباط عناصرها، أكبر الأثر في الرضى عن السلطة الجديدة.
ترافق ذلك مع الامتنان لتخليص هذا البلد من حكم استبدادي ما زال يتربص بكوابيسنا الليلية حتى الساعة. لكننا لا نستطيع إلاّ أن نرتعب من نمطية شكل الدولة الجديدة وممثليها.
بدأت مخاوفنا تأخذ أشكالاً عدّة، بدءاً من تعيينات الحكومة المؤقتة لوزراء تربطهم صلة قرابة بالسيد أحمد الشرع أو من بطانته المقرّبة، مع الاستغناء عن أي خبرات موجودة في موقعها، مروراً بتسريح عناصر الشرطة وترك البلاد في حالة فوضى عارمة.
هذا عدا عن السرقات التي ارتبطت باقتحام ممنهج لمقرّات المنظمات وبيوت المسؤولين والضباط السابقين ومباني الأمن وتبديد وثائق مهمّة وسرّية ، وانتهاءً بما يسمّى “الحوادث الفردية”، وهي تجاوزات طائفية من قتل وتنكيل لم يعد يُخفى على أحد أنها ليست فردية على الإطلاق، وأن إدارة البلاد تغضّ النظر حين حدوثها وتعود لتعتذر عنها في ما بعد.
اجتمع ضبّاط الفصائل وراء الأبواب المغلقة، واحتفلوا بانتصار الثورة. ثم عيّنوا قائدهم رئيساً وحلّوا الدستور، حلوا الجيش، حلوا الأمن، حلوا الأحزاب، حلّوا مفاصل الدولة . ثم انضمّوا في جسم واحد بغضّ النظر عن تناحرهم والدماء التي سالت بينهم سابقاً معلنين ولاءهم للقائد.
هكذا أُضفيت عليهم الشرعية الثورية وتوضّح لنا بكل ديبلوماسية أنهم أسياد قرارهم وأن لهم الفضل في تعيين رئيس الجمهورية، مثلهم مثل أصحاب كل انقلاب عسكري مرّ على سوريا منذ فجر تاريخها السياسي الحافل بالانقلابات.
تبيّن أننا لا ننتمي إلى هذه الثورة ولا أهلية لنا للاحتفال معهم بانتصار ثورتهم. فقد تابعنا احتفالهم وقراراتهم على القنوات الإعلامية على شكل أخبار عاجلة، ثم انتظرنا خطاب الرئيس المقتضب ليبثّ بعد منتصف الليل، وبعدما يئسنا من محاولة العثور على مصدر ينقل لنا ما يحدث مباشرة.
يقول المثل الشعبي: “شربنا البحر وما حنغصّ بالساقية”. بمعنى أن من تحمّل الأهوال تحت حكم عائلة الأسد لن يستصعب إشكالات بسيطة كالسابقة.
التنوع الإثني في مجتمعات المدن السورية ومعظم قراها لن يسمح بتمدد دولة إسلامية متشدّدة، ولا يمكن أن تكون المظلومية السنية والتي امتدّ ظلّها على عقود مضت، وسيلة لفرض دولة ذات لون واحد ، مهما حاولت الألسن إثبات أحقيتها، ونحن ما زلنا هنا صامدين.
إقرأوا أيضاً: