fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

هل يصبح التعافي البيئي بعد الحرب أولويّة في لبنان؟

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

واجه لبنان سلسلة من النزاعات المسلّحة، بدءاً من الحرب الأهلية، مروراً بحرب تموز 2006 ومعركة نهر البارد عام 2007، وصولاً إلى حرب 2024. تسببت هذه النزاعات بكوارث بيئية متعددة، أبرزها تلوث البحر نتيجة قصف إسرائيل خزانات الوقود في معمل الجية للطاقة. وعلى رغم ذلك، يفتقر لبنان إلى تشريعات واضحة وشاملة لحماية البيئة خلال النزاعات، أو إطار قانوني لمعالجة الأضرار البيئية الناجمة عنها، أو حتى تدابير وقائية للحد من تداعياتها.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.

في سابقة هي الأولى من نوعها، ناقش المجلس النيابي اللبناني البيان الوزاري للحكومة الجديدة بعد مرور ثلاثة أشهر على انتهاء الحرب مع إسرائيل. عُقدت الجلسة في ظل تداعيات بيئية خطيرة خلّفتها الحرب، ما يجعلها أكثر من مجرد إجراء سياسي تقليدي، بل فرصة نادرة لإدراج القضايا البيئية في صلب السياسات العامة للدولة. لكن من بين 48 نائباً تحدثوا خلال الجلسة، لم يتطرق إلى القضايا البيئية سوى خمسة نواب فقط. 

يعكس هذا التمثيل الضئيل الإهمال الواضح للملف البيئي داخل المجلس النيابي، على رغم التحديات البيئية المتفاقمة بسبب الحرب الأخيرة، في حين تستمر أزمات قديمة، مثل ملف النفايات والمقالع والكسارات، من دون حلول مستدامة أو سياسات واضحة منذ انتهاء الحرب الأهلية.

عادةً، يتم تهميش القضايا البيئية بعد النزاعات المسلّحة، إذ ينصبّ التركيز على جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار السياسي، ما يجعل البيئة أمراً ثانوياً لدى صانعي القرار. ومع ذلك، فإن الأضرار البيئية الناتجة من الحروب تمتد غالباً إلى ما بعد حدود الدول المتأثرة، مهدِّدة حياة السكان وسبل عيشهم لسنوات طويلة بعد انتهاء النزاع، وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر.

ولطالما تعامل مجلس النواب اللبناني والحكومات المتعاقبة مع القضايا البيئية باعتبارها أمراً ثانوياً. بعد الحرب الأهلية، غلبت خطط الطوارئ الحكومية في مقاربة أزمات بيئية مثل أزمة النفايات. وعلى الرغم من التحديات البيئية التي خلّفتها حرب تموز/ يوليو 2006، لم يتضمن البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تشكلت عام 2008 أي التزامات لمعالجة الأضرار البيئية في مرحلة ما بعد الحرب. بل أشارت فقط إلى متابعة تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالبقعة النفطية على الشواطئ اللبنانية. 

أثناء حرب تموز 2006، أدى القصف الإسرائيلي لمعمل الجية الحراري إلى إطلاق غاز الديوكسين المسرطن وتسرّب 15 ألف متر مكعب من الفيول إلى البحر، ما أسفر عن أضرار مستمرة حتى اليوم. وعلى الرغم من الكميات الضخمة من الردم التي خلفتها حرب تموز 2006 ومعركة نهر البارد 2007، لم يتضمن البيان الوزاري لحكومة السنيورة أي تدابير لمعالجة النفايات الناتجة من هذين الحدثين، على الرغم من تضمين البيان الوزاري حديثاً عن الأزمات البيئية الأخرى التي يعاني منها لبنان في أوقات السلم.

لم يذكر البيان الوزاري الجديد القضايا البيئية بالتفصيل، الأمر الذي أكده رئيس الحكومة القاضي نواف سلام. لكنه البيان الوزاري الأول في تاريخ لبنان الذي تضمن إشارة واضحة إلى حماية البيئة بعد النزاعات المسلّحة. وشدد البيان على “ضرورة التعافي البيئي بجوانبه كافة، والعمل على التأهيل البيئي، لا سيما في المناطق التي تعرضت للعدوان الإسرائيلي، والذي أدى إلى احتراق آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية والغابات والأحراش، واستخدام أسلحة تسببت في أضرار طويلة الأمد على الطبيعة والنظم الإيكولوجية.” وأكد البيان مراعاة الأبعاد البيئية، وذلك بدءاً من معالجة الردميات وصولاً إلى اعتماد خطط إعمار أكثر استدامة”. 

كغيره من البيانات الوزارية، تطرق بيان حكومة سلام إلى أزمة النفايات والكسارات والمقالع باعتبارها مشاكل “لا تتحمل حلولاً ترقيعية بل تستدعي معالجة جذرية ومستدامة”. وتحدث عن تطبيق صارم للقوانين المتعلقة بالأملاك البحرية والنهرية، إضافة إلى التعافي والتأهيل البيئي. لكن، تتطلب هذه الملفات خططاً تنفيذية واضحة، بخاصة أن هذه الأزمات تفاقمت على مدى العقود الماضية من دون حلول ملموسة، ما أدى إلى تداعيات بيئية خطيرة وانعكاسات مباشرة على صحة المواطنين. 

على مدى أكثر من عقدين، تعاطت الحكومات مع أزمة النفايات بإقرار خطط طوارئ لبيروت وجبل لبنان من دون الالتفات إلى باقي المناطق اللبنانية، ما أدى إلى انتشار المكبات العشوائية التي وصل عددها إلى أكثر من 941 مكباً عشوائياً. كما وشرّعت الحكومات المتعاقبة استمرار عمل المقالع والكسارات خلافاً للقانون، فوصل عددها إلى 1247 كسارة.

يحتاج لبنان إلى تطوير سياسات بيئية قائمة على الأدلة العلمية ومصمّمة وفقاً للواقع المحلي، لضمان استدامة البيئة وحماية صحة المواطنين. في هذا السياق، تناول البيان الوزاري مسألة “السيادة العلمية” و”تعزيز منظومة البحث العلمي”، باعتبارهما ركيزتين أساسيتين لتحقيق بيئة سليمة ومستدامة. ويبدو هذا التوجه ضرورياً لسد التناقض الواضح في البيان نفسه، إذ أشار من جهة إلى “مجابهة المخاطر الناجمة عن اضطراب المناخ والكوارث الطبيعية”، لكنه في الوقت ذاته تحدث عن “استئناف العمل على التنقيب عن النفط والغاز”، ما يعكس تضارباً بين التوجهات البيئية والسياسات الاقتصادية للحكومة.  

يأتي هذا التناقض فيما دعت قمة الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP28)، التي انعقدت في الإمارات العربية المتحدة، إلى التحول بعيداً من الوقود الأحفوري. ويُعتبر الأخير المساهم الأكبر في تغير المناخ العالمي، إذ يشكل أكثر من 75 في المئة من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة عالمياً، ونحو 90 في المئة من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وفقاً للأمم المتحدة. والتزم لبنان بخفض انبعاثاته بنسبة 31 في المئة بحلول عام 2030، وفقاً للمساهمات المحددة وطنياً (NDCs) المقدمة إلى اتفاقية باريس للمناخ. 

مع ذلك، فإن إصرار الحكومة على دعم سياسات التنقيب عن الوقود الأحفوري يطرح تساؤلات جدية حول مدى التزامها بتعهدات لبنان ضمن اتفاقية باريس للمناخ، وقدرتها على تحقيق التحول نحو طاقة نظيفة ومستدامة، بخاصة في ظل التحذيرات العالمية من تداعياته الكارثية على المناخ.

الأثر البيئي للحرب والتجاهل الرسمي 

على الرغم من الآثار البيئية الخطيرة الناجمة عن الحرب الأخيرة، غاب النقاش الجاد حولها في تصريحات الكتل النيابية الممثلة للمواطنين في المناطق المتضررة. أكبر كتلتين نيابيتين في الجنوب والبقاع، كتلة الوفاء للمقاومة وكتلة التنمية والتحرير، لم تتطرقا بأي شكل إلى التدهور البيئي الناتج من الحرب.  وخرجت كلمة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، النائب محمد رعد، عن سياق الجلسة متجاوزة الإطار التقليدي لمناقشة البيان الوزاري، إذ خصّص أكثر من 25 دقيقة للحديث عن التبرير السياسي والعسكري لمواقف “حزب الله”، بدلًا من التركيز على أولويات الحكومة وبرنامج عملها، بما في ذلك معالجة التداعيات البيئية للحرب. كذلك، لم يصدر أي موقف عن باقي الكتل النيابية بشأن هذه القضية، على رغم أن بعضها ممثّل في لجنة البيئة النيابية.

وأشارت النائبة نجاة عون صليبا، العضوة الوحيدة في لجنة البيئة التي تحدثت خلال جلسة مناقشة البيان الوزاري، إلى أن “نقل الردميات الناتجة من العدوان الإسرائيلي ورميها في البحر من دون الالتزام بالمعايير البيئية وإرشادات وزارة البيئة، وتقديم هذه الخطوة كحل لتوسيع مطمر الكوستابرافا، يُعد اعتداءً صارخاً على الشواطئ اللبنانية ومخالفة واضحة لدفتر شروط التلزيم”.

مواقف النواب: تباين الآراء وغياب التوافق الداخلي

 لم تحظَ القضايا البيئية الأخرى بالاهتمام الكافي داخل المجلس النيابي خلال جلسة مناقشة البيان الوزاري، ما يُضعف دور النواب في مساءلة الحكومة، إذ يفقدون فرصة فرض التزامات واضحة عليها لحماية البيئة خلال النزاعات ومرحلة إعادة الإعمار. كما أن تجاهل هذه القضايا يُقوض الرقابة البرلمانية، ويمنح الحكومة هامشاً واسعاً لتجاهل الأضرار البيئية، ما يؤدي إلى غياب سياسات فعالة واستمرار الانتهاكات من دون محاسبة.

وفيما يسمح النظام الداخلي لمجلس النواب، للنواب بالتحدث بصفة فردية، ظهر تباين واضح في مواقف النواب داخل الكتل نفسها، ما يعكس غياب التوافق أو اختلاف الأولويات السياسية. على سبيل المثال، من بين تسعة نواب يمثلون قوى التغيير، تناول الملف البيئي النائبان نجاة عون وياسين ياسين فقط، بينما تطرق النائب هادي أبو الحسن إلى القضايا البيئية ضمن مداخلته، في حين غاب الموضوع تمامًا عن كلمة زميله في “اللقاء الديمقراطي”، وائل أبو فاعور.

في حين إن النائبة نجاة صليبا عون شدّدت على أن “البيئة السليمة هي أساس الحياة الكريمة، فلا يمكن تحقيق رفاهية الإنسان من دون هواء نقي ومياه نظيفة وموارد مستدامة”، اقتصر الحديث البيئي في جلسة الثقة على ثلاثة ملفات: النفايات، الكسّارات، والتعديات على الأملاك البحرية والنهرية. 

وأكدت النائبة صليبا أن “التدهور البيئي المتسارع، نتيجة المقالع والكسارات وتلوّث المياه وتراجع المساحات الحرجية، يشكّل تهديداً مباشراً للموارد الطبيعية ورفاهية الإنسان”. وأضافت أن “المخاطر الحقيقية تكمن في الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها أقطاب السلطة بحق البيئة، فقد نهبوا رمال الشواطئ وضفاف الأنهار وسمحوا لأكثر من 1600 مقلع  وكسارة بنهش جبالنا، وأهدروا مليارات الدولارات على مشاريع فاشلة لتنظيف مياه الأنهر التي لا تزال ملوّثة”.

قبل تشكيل الحكومة الحالية،  شرّعت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، استمرار الجرائم البيئية عبر إصدار قرار  يسمح بشكل استثنائي لشركات الترابة باستخراج المواد الأولية اللازمة لصناعة الترابة تلبية لحاجة السوق المحلي، وذلك لمدة سنتين. وبرر مجلس الوزراء هذا القرار بالحاجة الملحة لمادة الترابة لإعادة الإعمار وإعادة النازحين إلى بيوتهم. في هذا السياق، أكد أبو الحسن “ضرورة إقرار قانون ينظم عمل المقالع والمرامل والكسارات ويلبي الشروط البيئية”. 

النائب عن قضاء الكورة، أديب عبد المسيح، وصف ملف الكسارات والمقالع بأنه “لا رابح سوى الفوضى، ولا خاسر إلا المواطن”. وطالب عبد المسيح بتطبيق كامل للمرسوم 1883 الذي ينظم عمل الكسارات والمقالع في لبنان. وقال: “هناك دراسة في وزارة البيئة تقدر مستحقات الدولة من المقالع والكسارات بـ 2.4 مليار دولار، أي ما يعادل ما طلب من صندوق النقد الدولي”، مطالباً الحكومة بتوقيع أذونات تحصيل من المقالع والكسارات. وتطرق عبد المسيح أيضاً إلى قضية الأترنيت والأميانت والأسبستوس المسرطن في شكا، مشدداً على مخاطرها الصحية والبيئية، كما دعا إلى اعتماد إدارة وطنية فعالة لقطاع النفايات”.

على رغم التحديات البيئية الخطيرة التي يواجهها نهر الليطاني في حوضيه الأعلى والأدنى، لم يحظَ بقدر كافٍ من الاهتمام في النقاشات النيابية، إذ اقتصر الحديث عنه على مداخلتين فقط. فقد دعا النائب المستقل غسان سكاف إلى “إعلان حالة طوارئ بيئية لإنقاذ الليطاني، تبدأ بإنشاء محطات تكرير للصرف الصحي وتأسيس وكالة أو مجلس وطني ينسّق مع الوزارات المعنية لوضع حدٍّ للانتهاكات البيئية، إضافةً إلى متابعة المجلس النيابي إقرار القوانين المرتبطة بنهر الليطاني”. وانتقد سكاف غياب أي ذكر للنهر في البيان الوزاري، معتبراً أنه “ليس مجرد مجرى مائي، بل شريان حياة لنحو مليون ونصف المليون مواطن في البقاع والجنوب”، مشيراً إلى أن “بعض فصول الفساد في لبنان طاولت الليطاني، ما أدى إلى تلوث خطير في مياهه تجاوز كل الخطوط الحمراء، وأثّر سلباً على صحة البقاعيين وأرزاقهم”. في حين أشار عضو كتلة اللقاء الديمقراطي النائب هادي أبو الحسن، إلى “أنه الوقت المناسب لحسم مسألة الأملاك البحرية والنهرية بعد إنهاء الجيش عملية تحديث المسح بالتعاون مع وزارة الأشغال، والبدء بإزالة التعديات واستيفاء البدلات وتلك الناتجة من التسويات”.  

من جهته، شدّد عضو تكتل التغيير النائب ياسين ياسين، على ضرورة أن تولي الحكومة الحالية اهتماماً خاصاً لأزمة النفايات المنتشرة على ضفاف الليطاني وفي محيط بحيرة القرعون. وأشار إلى أن “سكان البقاع الغربي وراشيا يواجهون كارثة بيئية وصحية متفاقمة بسبب التلوث والإهمال، إذ تحوّل نهر الليطاني من شريان حياة إلى مصدر للأمراض، فيما تعاني بحيرة القرعون والمكبّات العشوائية من غياب أي معالجة جدّية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان”. 

وعلى رغم التاريخ الحافل بفشل مشاريع السدود وما خلفته من كوارث بيئية، عاد رئيس تكتل لبنان القوي، النائب جبران باسيل، عرّاب هذه المشاريع، ليقول: “بكل الأحوال، موضوع السدود ما لازم ينهمل”. تصريح يعكس إصراره على التمسك بهذه المشاريع على رغم انتقادات واسعة من الخبراء والناشطين البيئيين الذين يعتبرونها مجرد هدر للمال العام ومصدراً للمزيد من الأزمات البيئية.

الحرب على البيئة: فجوات قانونيّة

واجه لبنان سلسلة من النزاعات المسلّحة، بدءاً من الحرب الأهلية، مروراً بحرب تموز 2006 ومعركة نهر البارد عام 2007، وصولاً إلى حرب 2024. تسببت هذه النزاعات بكوارث بيئية متعددة، أبرزها تلوث البحر نتيجة قصف إسرائيل خزانات الوقود في معمل الجية للطاقة. وعلى رغم ذلك، يفتقر لبنان إلى تشريعات واضحة وشاملة لحماية البيئة خلال النزاعات، أو إطار قانوني لمعالجة الأضرار البيئية الناجمة عنها، أو حتى تدابير وقائية للحد من تداعياتها. في حين يعتبر عدد من الحقوقيين الذين تحدث إليهم “درج”، أن هذه القوانين تصبح حبراً على ورق في مواجهة حرب الآلة الإسرائيلية على البيئة.

“لم تتضمن القوانين اللبنانية، أهمها القانون 444/2002 بشأن حماية البيئة، أحكاماً واضحة ومحددة تعالج تأثير النزاعات على البيئة”، وفقاً لما قاله المحامي نجيب فرحات لـ “درج”. وأضاف فرحات أن “القانون رقم 80/2018 المتعلق بالإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، ينظم إدارة النفايات بما في ذلك نفايات البناء والهدم، لكنه لا يشير بشكل صريح إلى نفايات المخلفات العسكرية”. أما بالنسبة الى خطط الطوارئ، فلم تتضمن خطة الطوارئ المثيرة للجدل التي وضعتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي السابقة، أي آليات لحماية البيئة من التدهور الذي قد تسببه الحرب.

في عام 2022، أصدرت لجنة القانون الدولي المبادئ التوجيهية لحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، مؤكدة أنه “يتعين على الدول، وفقاً لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، اتخاذ تدابير تشريعية وإدارية وقضائية وغيرها من التدابير الفعّالة لتعزيز حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة”.  

تناول البيان الوزاري  للحكومة الحالية “إقرار أمن وطني على المستويات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية”، لكنه أغفل ضرورة تبني إطار دفاعي بيئي يضمن حماية الموارد الطبيعية الأساسية، مثل المياه، الأراضي الزراعية، والهواء النظيف. في ظل التهديدات البيئية الناتجة من النزاعات، “يجب اعتماد خطط طوارئ تدمج الاعتبارات البيئية ضمن استراتيجيات الدفاع الوطني، لضمان استدامة الموارد وحمايتها من التدمير”، بحسب المحامي نجيب فرحات. كما أن خطط إعادة الإعمار لا يمكن أن تقتصر على إعادة البناء المادي، بل “يجب أن تشمل إعادة تأهيل بيئي لمعالجة التلوث، استصلاح الأراضي، وتأمين استدامة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة”، يضيف فرحات. 

في تحقيقات سابقة  لـ”درج”، أشرنا إلى أهمية مساءلة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن استخدامها الفوسفور الأبيض، بالإضافة إلى إمكانية تحصيل تعويضات للمتضررين عبر الصندوق الاستئماني الخاص بالضحايا (Trust Fund for Victims). وعلى رغم أن النائب هادي أبو الحسن لم يأتِ على ذكر البعد البيئي صراحةً، إلا أنه دعا الحكومة إلى إزالة العوائق القانونية التي تحول دون رفع لبنان دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، سعياً الى محاسبتها على جرائمها والمطالبة بالتعويضات. وقد يشكّل هذا المسار مدخلاً للحكومة للمطالبة بتعويضات لإعادة التأهيل البيئي جراء الضرر الناجم عن الحرب الأخيرة. فهل ستتخذ الحكومة خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، أم ستبقى المساءلة البيئية مجرد ملف ثانوي في خضم الأزمات السياسية والاقتصادية؟

18.03.2025
زمن القراءة: 10 minutes

واجه لبنان سلسلة من النزاعات المسلّحة، بدءاً من الحرب الأهلية، مروراً بحرب تموز 2006 ومعركة نهر البارد عام 2007، وصولاً إلى حرب 2024. تسببت هذه النزاعات بكوارث بيئية متعددة، أبرزها تلوث البحر نتيجة قصف إسرائيل خزانات الوقود في معمل الجية للطاقة. وعلى رغم ذلك، يفتقر لبنان إلى تشريعات واضحة وشاملة لحماية البيئة خلال النزاعات، أو إطار قانوني لمعالجة الأضرار البيئية الناجمة عنها، أو حتى تدابير وقائية للحد من تداعياتها.

أُنجز هذا التقرير بدعم من برنامج “قريب” الذي تنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الإعلامية CFI وتموله الوكالة الفرنسية للتنمية AFD.

في سابقة هي الأولى من نوعها، ناقش المجلس النيابي اللبناني البيان الوزاري للحكومة الجديدة بعد مرور ثلاثة أشهر على انتهاء الحرب مع إسرائيل. عُقدت الجلسة في ظل تداعيات بيئية خطيرة خلّفتها الحرب، ما يجعلها أكثر من مجرد إجراء سياسي تقليدي، بل فرصة نادرة لإدراج القضايا البيئية في صلب السياسات العامة للدولة. لكن من بين 48 نائباً تحدثوا خلال الجلسة، لم يتطرق إلى القضايا البيئية سوى خمسة نواب فقط. 

يعكس هذا التمثيل الضئيل الإهمال الواضح للملف البيئي داخل المجلس النيابي، على رغم التحديات البيئية المتفاقمة بسبب الحرب الأخيرة، في حين تستمر أزمات قديمة، مثل ملف النفايات والمقالع والكسارات، من دون حلول مستدامة أو سياسات واضحة منذ انتهاء الحرب الأهلية.

عادةً، يتم تهميش القضايا البيئية بعد النزاعات المسلّحة، إذ ينصبّ التركيز على جهود إعادة الإعمار وتحقيق الاستقرار السياسي، ما يجعل البيئة أمراً ثانوياً لدى صانعي القرار. ومع ذلك، فإن الأضرار البيئية الناتجة من الحروب تمتد غالباً إلى ما بعد حدود الدول المتأثرة، مهدِّدة حياة السكان وسبل عيشهم لسنوات طويلة بعد انتهاء النزاع، وفقًا للجنة الدولية للصليب الأحمر.

ولطالما تعامل مجلس النواب اللبناني والحكومات المتعاقبة مع القضايا البيئية باعتبارها أمراً ثانوياً. بعد الحرب الأهلية، غلبت خطط الطوارئ الحكومية في مقاربة أزمات بيئية مثل أزمة النفايات. وعلى الرغم من التحديات البيئية التي خلّفتها حرب تموز/ يوليو 2006، لم يتضمن البيان الوزاري لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة التي تشكلت عام 2008 أي التزامات لمعالجة الأضرار البيئية في مرحلة ما بعد الحرب. بل أشارت فقط إلى متابعة تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بالبقعة النفطية على الشواطئ اللبنانية. 

أثناء حرب تموز 2006، أدى القصف الإسرائيلي لمعمل الجية الحراري إلى إطلاق غاز الديوكسين المسرطن وتسرّب 15 ألف متر مكعب من الفيول إلى البحر، ما أسفر عن أضرار مستمرة حتى اليوم. وعلى الرغم من الكميات الضخمة من الردم التي خلفتها حرب تموز 2006 ومعركة نهر البارد 2007، لم يتضمن البيان الوزاري لحكومة السنيورة أي تدابير لمعالجة النفايات الناتجة من هذين الحدثين، على الرغم من تضمين البيان الوزاري حديثاً عن الأزمات البيئية الأخرى التي يعاني منها لبنان في أوقات السلم.

لم يذكر البيان الوزاري الجديد القضايا البيئية بالتفصيل، الأمر الذي أكده رئيس الحكومة القاضي نواف سلام. لكنه البيان الوزاري الأول في تاريخ لبنان الذي تضمن إشارة واضحة إلى حماية البيئة بعد النزاعات المسلّحة. وشدد البيان على “ضرورة التعافي البيئي بجوانبه كافة، والعمل على التأهيل البيئي، لا سيما في المناطق التي تعرضت للعدوان الإسرائيلي، والذي أدى إلى احتراق آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية والغابات والأحراش، واستخدام أسلحة تسببت في أضرار طويلة الأمد على الطبيعة والنظم الإيكولوجية.” وأكد البيان مراعاة الأبعاد البيئية، وذلك بدءاً من معالجة الردميات وصولاً إلى اعتماد خطط إعمار أكثر استدامة”. 

كغيره من البيانات الوزارية، تطرق بيان حكومة سلام إلى أزمة النفايات والكسارات والمقالع باعتبارها مشاكل “لا تتحمل حلولاً ترقيعية بل تستدعي معالجة جذرية ومستدامة”. وتحدث عن تطبيق صارم للقوانين المتعلقة بالأملاك البحرية والنهرية، إضافة إلى التعافي والتأهيل البيئي. لكن، تتطلب هذه الملفات خططاً تنفيذية واضحة، بخاصة أن هذه الأزمات تفاقمت على مدى العقود الماضية من دون حلول ملموسة، ما أدى إلى تداعيات بيئية خطيرة وانعكاسات مباشرة على صحة المواطنين. 

على مدى أكثر من عقدين، تعاطت الحكومات مع أزمة النفايات بإقرار خطط طوارئ لبيروت وجبل لبنان من دون الالتفات إلى باقي المناطق اللبنانية، ما أدى إلى انتشار المكبات العشوائية التي وصل عددها إلى أكثر من 941 مكباً عشوائياً. كما وشرّعت الحكومات المتعاقبة استمرار عمل المقالع والكسارات خلافاً للقانون، فوصل عددها إلى 1247 كسارة.

يحتاج لبنان إلى تطوير سياسات بيئية قائمة على الأدلة العلمية ومصمّمة وفقاً للواقع المحلي، لضمان استدامة البيئة وحماية صحة المواطنين. في هذا السياق، تناول البيان الوزاري مسألة “السيادة العلمية” و”تعزيز منظومة البحث العلمي”، باعتبارهما ركيزتين أساسيتين لتحقيق بيئة سليمة ومستدامة. ويبدو هذا التوجه ضرورياً لسد التناقض الواضح في البيان نفسه، إذ أشار من جهة إلى “مجابهة المخاطر الناجمة عن اضطراب المناخ والكوارث الطبيعية”، لكنه في الوقت ذاته تحدث عن “استئناف العمل على التنقيب عن النفط والغاز”، ما يعكس تضارباً بين التوجهات البيئية والسياسات الاقتصادية للحكومة.  

يأتي هذا التناقض فيما دعت قمة الأمم المتحدة لتغير المناخ (COP28)، التي انعقدت في الإمارات العربية المتحدة، إلى التحول بعيداً من الوقود الأحفوري. ويُعتبر الأخير المساهم الأكبر في تغير المناخ العالمي، إذ يشكل أكثر من 75 في المئة من إجمالي انبعاثات الغازات الدفيئة عالمياً، ونحو 90 في المئة من جميع انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وفقاً للأمم المتحدة. والتزم لبنان بخفض انبعاثاته بنسبة 31 في المئة بحلول عام 2030، وفقاً للمساهمات المحددة وطنياً (NDCs) المقدمة إلى اتفاقية باريس للمناخ. 

مع ذلك، فإن إصرار الحكومة على دعم سياسات التنقيب عن الوقود الأحفوري يطرح تساؤلات جدية حول مدى التزامها بتعهدات لبنان ضمن اتفاقية باريس للمناخ، وقدرتها على تحقيق التحول نحو طاقة نظيفة ومستدامة، بخاصة في ظل التحذيرات العالمية من تداعياته الكارثية على المناخ.

الأثر البيئي للحرب والتجاهل الرسمي 

على الرغم من الآثار البيئية الخطيرة الناجمة عن الحرب الأخيرة، غاب النقاش الجاد حولها في تصريحات الكتل النيابية الممثلة للمواطنين في المناطق المتضررة. أكبر كتلتين نيابيتين في الجنوب والبقاع، كتلة الوفاء للمقاومة وكتلة التنمية والتحرير، لم تتطرقا بأي شكل إلى التدهور البيئي الناتج من الحرب.  وخرجت كلمة رئيس كتلة الوفاء للمقاومة، النائب محمد رعد، عن سياق الجلسة متجاوزة الإطار التقليدي لمناقشة البيان الوزاري، إذ خصّص أكثر من 25 دقيقة للحديث عن التبرير السياسي والعسكري لمواقف “حزب الله”، بدلًا من التركيز على أولويات الحكومة وبرنامج عملها، بما في ذلك معالجة التداعيات البيئية للحرب. كذلك، لم يصدر أي موقف عن باقي الكتل النيابية بشأن هذه القضية، على رغم أن بعضها ممثّل في لجنة البيئة النيابية.

وأشارت النائبة نجاة عون صليبا، العضوة الوحيدة في لجنة البيئة التي تحدثت خلال جلسة مناقشة البيان الوزاري، إلى أن “نقل الردميات الناتجة من العدوان الإسرائيلي ورميها في البحر من دون الالتزام بالمعايير البيئية وإرشادات وزارة البيئة، وتقديم هذه الخطوة كحل لتوسيع مطمر الكوستابرافا، يُعد اعتداءً صارخاً على الشواطئ اللبنانية ومخالفة واضحة لدفتر شروط التلزيم”.

مواقف النواب: تباين الآراء وغياب التوافق الداخلي

 لم تحظَ القضايا البيئية الأخرى بالاهتمام الكافي داخل المجلس النيابي خلال جلسة مناقشة البيان الوزاري، ما يُضعف دور النواب في مساءلة الحكومة، إذ يفقدون فرصة فرض التزامات واضحة عليها لحماية البيئة خلال النزاعات ومرحلة إعادة الإعمار. كما أن تجاهل هذه القضايا يُقوض الرقابة البرلمانية، ويمنح الحكومة هامشاً واسعاً لتجاهل الأضرار البيئية، ما يؤدي إلى غياب سياسات فعالة واستمرار الانتهاكات من دون محاسبة.

وفيما يسمح النظام الداخلي لمجلس النواب، للنواب بالتحدث بصفة فردية، ظهر تباين واضح في مواقف النواب داخل الكتل نفسها، ما يعكس غياب التوافق أو اختلاف الأولويات السياسية. على سبيل المثال، من بين تسعة نواب يمثلون قوى التغيير، تناول الملف البيئي النائبان نجاة عون وياسين ياسين فقط، بينما تطرق النائب هادي أبو الحسن إلى القضايا البيئية ضمن مداخلته، في حين غاب الموضوع تمامًا عن كلمة زميله في “اللقاء الديمقراطي”، وائل أبو فاعور.

في حين إن النائبة نجاة صليبا عون شدّدت على أن “البيئة السليمة هي أساس الحياة الكريمة، فلا يمكن تحقيق رفاهية الإنسان من دون هواء نقي ومياه نظيفة وموارد مستدامة”، اقتصر الحديث البيئي في جلسة الثقة على ثلاثة ملفات: النفايات، الكسّارات، والتعديات على الأملاك البحرية والنهرية. 

وأكدت النائبة صليبا أن “التدهور البيئي المتسارع، نتيجة المقالع والكسارات وتلوّث المياه وتراجع المساحات الحرجية، يشكّل تهديداً مباشراً للموارد الطبيعية ورفاهية الإنسان”. وأضافت أن “المخاطر الحقيقية تكمن في الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبها أقطاب السلطة بحق البيئة، فقد نهبوا رمال الشواطئ وضفاف الأنهار وسمحوا لأكثر من 1600 مقلع  وكسارة بنهش جبالنا، وأهدروا مليارات الدولارات على مشاريع فاشلة لتنظيف مياه الأنهر التي لا تزال ملوّثة”.

قبل تشكيل الحكومة الحالية،  شرّعت حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي، استمرار الجرائم البيئية عبر إصدار قرار  يسمح بشكل استثنائي لشركات الترابة باستخراج المواد الأولية اللازمة لصناعة الترابة تلبية لحاجة السوق المحلي، وذلك لمدة سنتين. وبرر مجلس الوزراء هذا القرار بالحاجة الملحة لمادة الترابة لإعادة الإعمار وإعادة النازحين إلى بيوتهم. في هذا السياق، أكد أبو الحسن “ضرورة إقرار قانون ينظم عمل المقالع والمرامل والكسارات ويلبي الشروط البيئية”. 

النائب عن قضاء الكورة، أديب عبد المسيح، وصف ملف الكسارات والمقالع بأنه “لا رابح سوى الفوضى، ولا خاسر إلا المواطن”. وطالب عبد المسيح بتطبيق كامل للمرسوم 1883 الذي ينظم عمل الكسارات والمقالع في لبنان. وقال: “هناك دراسة في وزارة البيئة تقدر مستحقات الدولة من المقالع والكسارات بـ 2.4 مليار دولار، أي ما يعادل ما طلب من صندوق النقد الدولي”، مطالباً الحكومة بتوقيع أذونات تحصيل من المقالع والكسارات. وتطرق عبد المسيح أيضاً إلى قضية الأترنيت والأميانت والأسبستوس المسرطن في شكا، مشدداً على مخاطرها الصحية والبيئية، كما دعا إلى اعتماد إدارة وطنية فعالة لقطاع النفايات”.

على رغم التحديات البيئية الخطيرة التي يواجهها نهر الليطاني في حوضيه الأعلى والأدنى، لم يحظَ بقدر كافٍ من الاهتمام في النقاشات النيابية، إذ اقتصر الحديث عنه على مداخلتين فقط. فقد دعا النائب المستقل غسان سكاف إلى “إعلان حالة طوارئ بيئية لإنقاذ الليطاني، تبدأ بإنشاء محطات تكرير للصرف الصحي وتأسيس وكالة أو مجلس وطني ينسّق مع الوزارات المعنية لوضع حدٍّ للانتهاكات البيئية، إضافةً إلى متابعة المجلس النيابي إقرار القوانين المرتبطة بنهر الليطاني”. وانتقد سكاف غياب أي ذكر للنهر في البيان الوزاري، معتبراً أنه “ليس مجرد مجرى مائي، بل شريان حياة لنحو مليون ونصف المليون مواطن في البقاع والجنوب”، مشيراً إلى أن “بعض فصول الفساد في لبنان طاولت الليطاني، ما أدى إلى تلوث خطير في مياهه تجاوز كل الخطوط الحمراء، وأثّر سلباً على صحة البقاعيين وأرزاقهم”. في حين أشار عضو كتلة اللقاء الديمقراطي النائب هادي أبو الحسن، إلى “أنه الوقت المناسب لحسم مسألة الأملاك البحرية والنهرية بعد إنهاء الجيش عملية تحديث المسح بالتعاون مع وزارة الأشغال، والبدء بإزالة التعديات واستيفاء البدلات وتلك الناتجة من التسويات”.  

من جهته، شدّد عضو تكتل التغيير النائب ياسين ياسين، على ضرورة أن تولي الحكومة الحالية اهتماماً خاصاً لأزمة النفايات المنتشرة على ضفاف الليطاني وفي محيط بحيرة القرعون. وأشار إلى أن “سكان البقاع الغربي وراشيا يواجهون كارثة بيئية وصحية متفاقمة بسبب التلوث والإهمال، إذ تحوّل نهر الليطاني من شريان حياة إلى مصدر للأمراض، فيما تعاني بحيرة القرعون والمكبّات العشوائية من غياب أي معالجة جدّية، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان”. 

وعلى رغم التاريخ الحافل بفشل مشاريع السدود وما خلفته من كوارث بيئية، عاد رئيس تكتل لبنان القوي، النائب جبران باسيل، عرّاب هذه المشاريع، ليقول: “بكل الأحوال، موضوع السدود ما لازم ينهمل”. تصريح يعكس إصراره على التمسك بهذه المشاريع على رغم انتقادات واسعة من الخبراء والناشطين البيئيين الذين يعتبرونها مجرد هدر للمال العام ومصدراً للمزيد من الأزمات البيئية.

الحرب على البيئة: فجوات قانونيّة

واجه لبنان سلسلة من النزاعات المسلّحة، بدءاً من الحرب الأهلية، مروراً بحرب تموز 2006 ومعركة نهر البارد عام 2007، وصولاً إلى حرب 2024. تسببت هذه النزاعات بكوارث بيئية متعددة، أبرزها تلوث البحر نتيجة قصف إسرائيل خزانات الوقود في معمل الجية للطاقة. وعلى رغم ذلك، يفتقر لبنان إلى تشريعات واضحة وشاملة لحماية البيئة خلال النزاعات، أو إطار قانوني لمعالجة الأضرار البيئية الناجمة عنها، أو حتى تدابير وقائية للحد من تداعياتها. في حين يعتبر عدد من الحقوقيين الذين تحدث إليهم “درج”، أن هذه القوانين تصبح حبراً على ورق في مواجهة حرب الآلة الإسرائيلية على البيئة.

“لم تتضمن القوانين اللبنانية، أهمها القانون 444/2002 بشأن حماية البيئة، أحكاماً واضحة ومحددة تعالج تأثير النزاعات على البيئة”، وفقاً لما قاله المحامي نجيب فرحات لـ “درج”. وأضاف فرحات أن “القانون رقم 80/2018 المتعلق بالإدارة المتكاملة للنفايات الصلبة، ينظم إدارة النفايات بما في ذلك نفايات البناء والهدم، لكنه لا يشير بشكل صريح إلى نفايات المخلفات العسكرية”. أما بالنسبة الى خطط الطوارئ، فلم تتضمن خطة الطوارئ المثيرة للجدل التي وضعتها حكومة الرئيس نجيب ميقاتي السابقة، أي آليات لحماية البيئة من التدهور الذي قد تسببه الحرب.

في عام 2022، أصدرت لجنة القانون الدولي المبادئ التوجيهية لحماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة، مؤكدة أنه “يتعين على الدول، وفقاً لالتزاماتها بموجب القانون الدولي، اتخاذ تدابير تشريعية وإدارية وقضائية وغيرها من التدابير الفعّالة لتعزيز حماية البيئة في سياق النزاعات المسلحة”.  

تناول البيان الوزاري  للحكومة الحالية “إقرار أمن وطني على المستويات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية”، لكنه أغفل ضرورة تبني إطار دفاعي بيئي يضمن حماية الموارد الطبيعية الأساسية، مثل المياه، الأراضي الزراعية، والهواء النظيف. في ظل التهديدات البيئية الناتجة من النزاعات، “يجب اعتماد خطط طوارئ تدمج الاعتبارات البيئية ضمن استراتيجيات الدفاع الوطني، لضمان استدامة الموارد وحمايتها من التدمير”، بحسب المحامي نجيب فرحات. كما أن خطط إعادة الإعمار لا يمكن أن تقتصر على إعادة البناء المادي، بل “يجب أن تشمل إعادة تأهيل بيئي لمعالجة التلوث، استصلاح الأراضي، وتأمين استدامة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة”، يضيف فرحات. 

في تحقيقات سابقة  لـ”درج”، أشرنا إلى أهمية مساءلة إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن استخدامها الفوسفور الأبيض، بالإضافة إلى إمكانية تحصيل تعويضات للمتضررين عبر الصندوق الاستئماني الخاص بالضحايا (Trust Fund for Victims). وعلى رغم أن النائب هادي أبو الحسن لم يأتِ على ذكر البعد البيئي صراحةً، إلا أنه دعا الحكومة إلى إزالة العوائق القانونية التي تحول دون رفع لبنان دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام المحكمة الجنائية الدولية، سعياً الى محاسبتها على جرائمها والمطالبة بالتعويضات. وقد يشكّل هذا المسار مدخلاً للحكومة للمطالبة بتعويضات لإعادة التأهيل البيئي جراء الضرر الناجم عن الحرب الأخيرة. فهل ستتخذ الحكومة خطوات ملموسة في هذا الاتجاه، أم ستبقى المساءلة البيئية مجرد ملف ثانوي في خضم الأزمات السياسية والاقتصادية؟

18.03.2025
زمن القراءة: 10 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية