في مثل هذا اليوم بدأ العالم سباقه نحو القمر، إذ صادف يوم الأحد 12 نيسان/ أبريل الذكرى 59 لانطلاق رجل الفضاء السوفياتي يوري غاغارين في رحلته حول الأرض. كان غاغارين أول إنسان يصعد إلى الفضاء في لحظة كانت تأسيسية للسباق إلى الفضاء بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، والذي بدأ رسمياً أواخر خمسينات القرن الماضي واشتد حتى مطلع سبعيناته.
هي فرصة للإضاءة على تاريخ سباق الفضاء هذا منذ بداياته الأولى وحتى أفوله. والإضاءة كذلك على برامج الفضاء والتحوّلات التي طرأت عليها اليوم، إذ نرى محاولات لإعادة ضخّ الزخم فيها هذه المرة على يد رجال الأعمال وشركاتهم الخاصة. فبين سعي إيلون ماسك إلى خفض كلفة الرحلات الفضائية وحديث جيف بيزوس عن إطلاق أكثر من ثلاثة آلاف قمر صناعي لتوفير الإنترنت، هل يعود الحديث عن نسخة محدثة لسباق الفضاء؟!

ربما لم يكن السباق إلى الفضاء مجرّد حلبة أخرى للحرب الباردة كما يشاع، بل كان نتاجاً لها. الحاجة الموضوعية لسبر أغوار الفضاء كانت تجد مبرراتها الأمنية في الولايات المتحدة الأميركية. فعلى رغم وجود مُحيطَين حول أميركا وبُعدها عن العالم القديم كحلبة ممكنة لأي حرب، يشكلان وقاية لأرضها، إلا أن ذلك لم يمنع سيطرة أكبر للهاجس الأمني. فالرغبة الأميركية في التجسس على الاتحاد السوفياتي والتي كانت وصلت لتسيير طائرات فوق أراضيه بغرض التصوير، شجعت الرئيس الأميركي دوايت آيزنهاور للتفكير بملفّ الفضاء كأداة لهذه الغاية.
أما في الاتحاد السوفياتي المُحاط بالقواعد الأميركية المشيّدة في الدول الأوروبية فقد كان الهاجس عسكرياً ومُلحّاً أكثر. فالسوفيات في وضع يقول إن أراضيهم وعاصمتهم مكشوفة للصواريخ والطائرات الأميركية التي يمكن أن تنطلق من أي قاعدة في أوروبا، في حين أن الأرض الأميركية بعيدة من متناول ترسانتهم. من يطّلع على هذا الوضع سيسارع للقول بضرورة إنتاج السوفيات سلاحاً طويل المدى يطاول الديار الأميركية (main land US). وهذا بالفعل ما سيحدث لاحقاً ليشكّل منعطفاً جذرياً في مسير البشر نحو الفضاء.
البذرة الألمانية
لافت جداً هو التتبّع الممكن للدوافع الموضوعية لكل تقدم أُحرز في التكنولوجيا الضرورية لبلوغ الفضاء. فالبذرةُ الأولى لإمكان الإفلات من جاذبية الأرض والوصول إلى السرعة المدارية التي يحتاجها القمر الصناعي مثلاً ليستطيع الدوران حول الأرض، تحققت في ألمانيا النازية.
كانت معاهدة فيرساي التي عقدها الحلفاء حول ألمانيا بعد هزيمتها في الحرب الكونية الأولى، تنصّ في بنودها على منع ألمانيا من امتلاك الطائرات حربية والمدفعيّة الثقيلة طويلة المدى. دفع هذا بالألمان إلى تطوير وسائل بديلة تصل فيها الآلة الحربية النازية إلى أراضي أعدائها خارج الخيار البري. أعطى النازيون أولوية كبيرة لمشروعهم الصاروخي الذي توصل إلى إنتاج أول صاروخ باليستيّ موجّه بعيد المدى وهو صاروخ الـV2 الشهير. كان ذلك عام 1944 وقد سارع الجيش النازي المتقهقر برياً وقتئذ إلى إجراء هجمة مرتدة جويا عبر قصف لندن ومدن أوروبية أخرى. لكن ذلك لم يؤدّ للتغيير الجذري المرتقب هتلرياً في مجريات الحرب.
“هذا أمرٌ غير مسموحٍ به على الإطلاق. لقد هزمنا جيوش النازية، دخلنا برلين وبينيمودي، لكن الأميركيين حصلوا على مهندسي الصواريخ. ما الذي يمكن أن يكون مثيراً للإشمئزاز ولا يُغتفر أكثر من هذا؟ كيف ولماذا سمحنا بأن يحدث ذلك؟”- جوزيف ستالين.

كانت هزيمة النازية في أيار/ مايو 1945 أيضاً محطة مهمة في السباق، لا سيما للأمريكيين. فما لبث الحلفاء أن دخلوا ألمانيا حتى تم “توضيب” المشروع الصاروخي النازي، لا سيما في مدينة بينيمودي بمواده العلمية ومخططاته ومنتجاته وأجزاء نحو مئة من الصواريخ المنتجة وصولاً إلى المهندسين العاملين فيها وتم نقلهم إلى الولايات المتحدة الأميركية.
من أبرز هؤلاء كبير مهندسي المشروع الصاروخي النازي الذي سيصبح كبير مهندسي مشروع الفضاء الأميركي: فيرنر فون براون. أما في الاتحاد السوفياتي فقد كان لدى ستالين اهتمام كبير بمحاكاة صاروخ الـV2 الألماني وتطويره. كان هاجس معادَلة القوة مع الأميركيين ووضع أميركا في مدى النيران السوفياتية مُلِحّاً، خصوصاً إثر الضربتين النوويتين الأميركيتين على اليابان.
دفع ذلك بسرعة إلى إنشاء البعثة التقنية الخاصة OTK (الاختصار بالروسية) التي أُرسلت إلى ألمانيا لبدء محاكاة الـV2 ثم عادت إلى روسيا لتُكمل تطوير المشروع الصاروخي. بين عامي 1949 و1953 أحرز السوفيات تقدماً هائلاً في برنامجهم ليتجاوزوا عند نهاية هذه السنوات الأربع آخر ما توصل إليه البرنامج الألماني وينطلقوا لما بعده.
تابعوا العمل على نماذج صاروخية ذات مديّات أبعد وتقنيات مختلفة. النقلة النوعية كانت بفضل أفكار ميخائيل تيخونرافوف وفريقه العامل في المشروع وتطويرهم فكرة تعدد المراحل التي يحتاجها كل صاروخ مذّاك وحتى هذه اللحظة ليصل إلى الفضاء. ببساطة، بدل أن يكون الصاروخ قطعة واحدة تحرق وقوداً وتصل إلى سرعة ومدى معيّنين، يقضي التصميم الجديد بأن يكون الصاروخ عبارة عن أقسام عدة (أشبه بصواريخ مركّبة على بعضها كالـ Lego) تعمل على مراحل.
ما إن ينتهي القسم الأسفل من حرق وقوده حتى ينفصل عن جسم الصاروخ الأساسي ويشتعل المحرّك الذي فوقه وهكذا.
يزيد هذا من سرعة الصاروخ ومداه بطريقتين: أولاً بالتخفف من وزن الأقسام التي تنفصل تباعاً وثانياً بمراكمة السرعة فكل محرك يزيد على سرعة ما قبله. وهكذا تم الوصول عام 1957 إلى نسخة الـR7 كأول صاروخ عابر للقارات متعدد المراحل. عندها فقط صار السفر إلى الفضاء ممكناً للبشر بعدما توفرت التكنولوجيا التي تستطيع حملهم إلى فوق.

“سبوتنيك”: إنجاز بلد وأزمة آخر
في سياق الحرب الباردة كان يُنظر إلى فضاء الأرض كحقلٍ لتسخين محتمل بين القطبين. ذلك أن لا حقوق ملكية ولا اتفاقيات تحكم الفضاء بعد. هل سيعتبر السوفيات مثلاً مرور صاروخ أو قمر صناعي أميركي في مجالهم الفضائي اعتداءً؟ ثم جاءت الفرصة لحلّ المعضلة من البوابة العلمية. فقد أُعلنت الفترة الممتدة من تموز/ يوليو 1957 وحتى كانون الثاني/ يناير 1958 “السنة الجيوفيزيائية الدولية” لإجراء أبحاث علمية حول الأرض والمُناخ وغير ذلك. سارع الأميركيون في 29 تموز 1955 بالإعلان عن نيتهم إطلاق قمر صناعي ضمن فعاليات الحدث العالمي، تلاه الإعلان السوفياتي بعد أربعة أيام.
في أواخر آب/ أغسطس 1957 حلّق صاروخ الـR7 بنجاح للمرة الأولى وأعيدت التجارب في أيلول/ سبتمبر. وفي 4 تشرين الأول/ أكتوبر، يُطلق السوفيات نحو الفضاء أول قمر صناعي في التاريخ؛ سبوتنيك. وهو عبارة عن كرة تزن 83 كلغ تحتوي على مصدر طاقة وجهاز راديو يرسل موجات يمكن التقاطها على الأرض لحسم صدقية الإنجاز. بعدها بأقل من شهر وبمناسبة ذكرى الثورة البلشفية أطلقت مركبة سبوتنيك 2 وعلى متنها الكلبة “لايكا” لتكون أول كائن حي يدور حول الأرض.
أثار ذلك في الولايات المتحدة ما عُرف بـ”أزمة سبوتنيك”. أطلّ الرئيس دوايت آيزنهاور بكلمة متلفزة يؤكد فيها تفوق “العالم الحرّ” بالمجمل على الشيوعية واتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة “التفوّق السوفياتي” في مجال الفضاء. إلا أن الإصلاحات البيروقراطية التي أجراها لم تأتِ بثمارها بالسرعة الكافية. وهذا ما برهنه المشهد الأميركي إثر إطلاق “سبوتنيك”.
ففي سياق الرد على الخطوة السوفياتية استعرضت وزارة الدفاع الأميركية المشاريع الجاري العمل بها. ووقع الاختيار على مشروع القمر الصناعي Vanguard (الطليعي) التابع للبحرية الأميركية. تحدد 6 كانون الثاني موعدا للإطلاق. إلا أن انفجار الصاروخ على منصة إطلاقه وعلى مرأى الجماهير التي تتابع البث المباشر للعملية زاد التأخّر الأميركي تعثّراً.
توجّه بعدها الخيار إلى مشروع آخر منفصل للجيش لينجح الأميركيون في 31 كانون الثاني 1958 في إطلاق أول أقمارهم الصناعية؛ Explorer. هذا التشتّت البيروقراطي سيقوّضه آيزنهاور بإنشاء وكالة الفضاء والطيران الأميركية NASA في تشرين الأول من العام نفسه لحصر المشاريع المتعلقة بالفضاء وتنسيقها. وهنا الملاحظة واجبة، أن جزءاً من التفوق السوفياتي في بادئ الأمر مردّه إلى الليونة البيروقراطية التي توفّرت لبرنامج الفضاء، أولاً لناحية التوقيت في مرحلة ما بعد الستالينية وثانياً للعلاقة المشوبة بالتعاون السلس بين سيرغي كارليوف مدير البرنامج، وديميتري أوستينوف مسؤول مديرية التصنيع الحربي المسؤولة عن برنامج الفضاء. فالاتجاه صوب التنظيم البيروقراطي أميركياً قابله لاحقاً اتجاه صوب التشتت سوفياتياً، خصوصاً بعد وفاة كارليوف وتقلّب الاهتمام ببرنامج الفضاء.
تابع البرنامج السوفياتي مساره التصاعدي مُسجّلاً السابقة تلو الأخرى. فبعد “سبوتنيك”، جاء برنامج Luna، ليُنجز أول اصطدام بالقمر ويُتيح لنا أول صور للوجه الآخر المُظلم للقمر. ثم كان برنامج Vostok، الذي جعل يوري غاغارين أول إنسان ينطلق إلى الفضاء على متن صاروخ ويدور حول الأرض، تبعته فالنتينا تيريشكوفا أول رائدة فضاء. ولاحقاً تضمن برنامج Voskhod، أول رحلة لأكثر من رائد فضاء. وكان أليكسي ليونوف أول من مشى خارج المركبة (Space walk)، وهذا يتعدى كونه “كزدورة” فضائية إلى أهميته في إتمام مهمات حساسة (شاهد إصلاح تيليسكوب “هابل”). إلا أن التغيرات السياسية المقبلة كانت تحمل تبدّلات جذرية في مجريات السباق.