على نحو مفاجئ، خطف قيادي عسكري سابق في جيش النظام السوري، كان قد عمل مع سهيل الحسن، مجموعة عسكرية تابعة ل”هيئة تحرير الشام” أثناء قيامها بتمشيط ريف جبلة.
في غضون ساعات، ظهر فيديو للمجموعة المخطوفة، حيث أُجبر الجنود التابعون ل”الهيئة” على الركوع، وتبيّن أن جميعهم ينتمون إلى إدلب وريفها. بدا سؤال الخاطفين للمخطوفين ذا دلالة واضحة، إذ ترافق مع تهديد يحمل معاني عميقة: “لقد أتوا لإذلالنا”.
تزامن هذا الحدث مع موجة غضب عارمة اجتاحت وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تصاعدت الهجمات اللفظية ضد الخاطفين ومن ينتمون إلى الطائفة العلوية، وأُرفقت بصور وتهديدات طالت سكان الساحل.
إثر ذلك، أُغلق العديد من الأبواب في الساحل، وسط تصاعد المخاوف من اندلاع جديد لما يُسمى بـ”الحرب الطائفية”، وليلاً شهدت اللاذقية مظاهرات تدعو إلى الوحدة الوطنية، تخللها صيحات تشتم العلويين في شوارع صليبة، إلا أن “الهيئة” خلال ساعة واحدة هددت المتظاهرين الطائفيين، الذين انفكت عنهم المظاهرة الكبيرة، وامتلأ “الفيس بوك” بالاعترض على ما حدث، لكن نوازع الحرب الطائفية غير الممكنة أصلاً، عادت سريعاً لتتصدر مشهد الرعب في الساحل وعموم سوريا.
بعد ساعات قليلة من خطف الشبان، وصلت قوات “الهيئة” إلى موقع الحادثة، حيث قام الخاطف بتفجير نفسه بحسب مقاتلي “الهيئة”، بعد أن أردى في الكمين ثلاثة منهم. ومع ذلك، تمكنت “الهيئة” من القبض على أفراد المجموعة المسلحة الباقين، وتم تسليم الأسرى السبعة بأمان إلى مناطقهم، مما ساهم في تهدئة التوتر مؤقتاً.
“رسائل العلويين”
وسط هذه الأحداث، برزت “دبلوماسية الرسائل” كوسيلة للتواصل، حيث ظهر “أدب مظلومية رسائلي” بين العلويين وقيادة “الهيئة”، وانتشرت فيديوهات وبيانات تحمل أدعية طويلة مسجوعة، واستشهادات قرآنية، مع زخرفة لغوية متقنة، قادها مشايخ علويون في محاولة للتوسط لدى “الهيئة” للاستماع إلى مطالبهم.
تنوّعت مطالب العلويين بين الدعوة إلى الحوار وإيجاد حلول أمنية ووضع خطة استراتيجية لعدالة انتقالية للعسكريين والأمنيين، أقلها فرز المتورطين عن العسكريين الذين لم يمارسوا جرائم، بل حتى إنهم لم يقاوموا “الهيئة” وسلموا سلاحهم، وإيجاد حل للبطالة في الساحل.
لكن قيادة “الهيئة” بدت وكأنها لا تستجيب، وكأن هذا “الأدب الرسائلي” قد كُتب عليه أن يُتجاهل. فلا يكفي تخلف وقروسطية المفهوم الدبلوماسي الرسائلي، بل إنه لا يصل أبداً إلى المتلقي المفترض!
يبدو أيضاً أن “الهيئة” تعمل وفق آليات لا تأخذ في الاعتبار الجوانب الاجتماعية أو السياسية. خصوصاً أن المطالبة بالعدالة الانتقالية سيصيب الفصائل التي أصبحت جيشاً، ولا رصد حقوقي أو قانوني منظم لمخلفات النظام القمعية، وفصل بنية الدولة العميقة عن الدولة بوصفها جهازاً بيروقراطياً، هدف الوصول إليه هو الوصول إلى تأمين الحياة، لا ممارسة الجريمة، كما يغيب العمل الاجتماعي عن تأسيس هيئات للسلم المدني بشكل واضح ومنظم.
إقرأوا أيضاً:
في سلوك المُحررين – الملثمين
في أبسط معايير الحماية والتواصل السياسي، كان على “الهيئة” قبل حل الموضوع أمنياً مع مسلحي النظام، أن تُعيد النظر في ما أصبح متداولاً في السياق السوري.
إذ أصبح الكثيرون يستخدمون خطاباً رمزياً محاكين النظام السابق، فإن كان المزاح متجسداً بقسوة في نبرة حرف القاف وبعض الكلمات التي تُحاكي سلوك الأجهزة الأمنية سابقاً، نحن اليوم أمام مصطلحات مرعبة للعلويين ومضحكة للبعض الآخر ومستهلكة مزاحاً، مصطلحات مثل “طالعين الفصائل عليهم”، “إجتكم الهيئة”، و”جاييكم الأمن العام”، تحمل دلالات مزدوجة؛ مصطلحات “مازحة”، وتعكس سلوك الفصائل العسكرية التي تصف نفسها بـ”محرري سوريا”، تجاه العلويين.
في أحد خطابات شيوخ العلوية، جاء طلب واضح “الهيئة” بأن لا يرسلوا “الملثمين”. لماذا يرتدي عناصر “الهيئة” اللثام؟ ممَ يُفترض أن نخاف؟ ولماذا لم يعتذر أحد عن إهانة القرداحة وأرياف العلويين؟ وفي الجريمة التي مر عليها أسبوع في منطقة عين الشرقية وقتل خلالها ثلاثة شبان من عائلة واحدة، احتج الأهالي بهدوء تام، وطلبوا فقط إخراج الأجانب من اللاذقية.
بات الكثيرون في خوف من رؤية الملثمين، خاصة أولئك الذين يتحدثون الفصحى بصرامة. هذا الخوف، الذي يمكن وصفه ب”فوبيا الملثم”، ينبع من ارتباط صورة الملثم بالجريمة، وبذكريات الحرب الطويلة التي شكلت ذاكرة السوريين من خلال تفاصيل وفيديوهات قتل مروعة.
فما بالك بالعلويين الذين وجدوا أنفسهم خلال سياق الحرب في طرف النظام، الذي استغل الطائفة بشدة، ليأتي الغالب ويعاملهم كمغلوبين، إذ يشعر العلويون بأنهم خارج أطر الدولة، حيث يغيب الإحساس بالحماية القانونية أو المؤسساتية. حتى في المجتمع السني والمسيحي في اللاذقية، هناك صدى واضح للخوف من “الفصائل الغريبة”.
خرج المحافظ في اللاذقية بعد قتل الشبان الثلاثة للقاء المشايخ والأعيان، واستمع إلى رسالة طويلة وُجهت إلى أحمد الشرع، وباتت الرسائل تُشبه أدب الرحلات، وصف الحال، ومحاولة تأسيس مقاربة للوضع.
من هم الفلول؟
يهاجم الإعلام العربي ومنصات “يوتيوب” و”تيك توك” توصيفياً بعض المناطق، حيث تُذكر المناطق العلوية بوصفها أمكنة للفلول، فيما يعكس هذا الخطاب سياسة التنميط المكاني، التي تربط أماكن أو مجتمعات بعينها بسمات سلبية أو انتماءات سياسية محددة.
ولدرء شبهة الطائفية في التعامل مع هذا التوصيف، يجري نشر فيديوهات ومقاطع عنيفة، توثق استهداف شخصيات سُنية، تُوصف بأنها فلول للنظام، مثل رئيس بلدية دُمر، الذي أُطلقت النار عليه وقُتل بطريقة بشعة تضمنت الذبح والضرب بالعصي والأحجار من قبل جماهير دُمر. هذه المشاهد أُرفقت بسردية تدّعي أنها دليل على عدم الطائفية، في محاولة لتبرير العنف الموجه ضد الفلول.
لكن ما يحدث في الواقع يعكس التبرير الجماهيري للعنف، حيث يُقبل العنف باعتباره وسيلة مشروعة لتحقيق العدالة خارج إطار القانون. ومع تصاعد هذا النمط، يتحول إلى إرهاب العدالة الشعبية المُبررة، حيث يتم استخدام العنف ضد أفراد أو جماعات تحت غطاء تحقيق العدالة أو الانتقام، وكأن المشاركة في العنف هو مسؤولية جمعية.
لا بد من الإشارة أيضاً أنه يجري تصوير مقاتلي “الهيئة” في عقول الكثيرين، وكأنهم أبطال التدخل السريع في الأزمات مثل سوبرمان أو باتمان، لكن الواقع يعكس فجوة كبيرة بين هذا التصور وقدرة “الهيئة” الفعلية على استيعاب الامتداد الجغرافي، وتعقيد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية. اتساع وتعقيد يجعلان من المستحيل تنفيذ المهام اليومية من دون مساعدة هيكل دولة فعّال أو البدء بإنشائه، بما يشمل إعادة تشكيل الشرطة وقوى الأمن الداخلي وتغيير القيادات.
من يحكمنا؟
في خضم هذا المشهد، يتعزز اغتراب الهوية السورية، حيث بات السوريون، سنة وعلويين ومسيحيين، يفتقدون ممكنات قبول واقع تصرفات الأسلمة التي تُرعب المجتمع. هذه التصرفات تبرز تناقضاً إدراكياً ومعرفياً واجتماعياً في الإجابة عن أسئلة جوهرية: ممن نحن محكومون؟ وإلى أين نتوجه؟ وأين نعمل؟ خصوصاً أن أحمد الشرع، لم يخاطب السوريين إلى الآن، بل اكتفى بالوفود الدولية والمؤثرين والشعراء… الخ، وخطبة قصيرة في المسجد الأموي في دمشق!
القلق وراء سؤال “من يحكمنا” يأتي بعد انكشاف بعض الفصائل التي تتبنى مبدأ شرعياً دينياً غريباً عن المجتمع السوري، وعابراً لتركيبته الاجتماعية والثقافية. في الوقت ذاته، يدور في الأفق نزاع على الشرعية بين الفصائل المتنافسة، حيث يبدو أن إصدار فتوى، أو إعلان قانون، أو خروج ممثل للنظام الجديد بأي شكل، أصبح وسيلة لإضفاء شرعية على تصرفات لا تعكس بناء دولة،أو على الأقل تعكس تخبطاً في إدارتها وبنائها، من دون الحديث عن الأطر الشرعية ل”التحرير” ودور المجاهدين فيه، الذين من المفترض أن يتحولوا إلى جنود في جيش نظامي، ما زالت أيديولوجيته غامضة.
في هذا السياق، تُطرح تساؤلات عن غياب المواقف الحازمة والإجراءات التي تعالج هذه التصرفات. هل يستطيع أي نظام جديد أن يوجه رسالة واضحة إلإعلاميين؟ أو أن يتخذ خطوات حاسمة لبناء دولة تحفظ الهوية السورية، بدلاً من أن تغرق في فوضى أيديولوجية تُمزق نسيجها الاجتماعي؟.
إقرأوا أيضاً: