لم يبالغ المعلق البريطاني نيك كوهين عندما وجه انتقاداته اللاذعة إلى الحكومات الغربية، حين قال إنها لا تمتلك الشجاعة الكافية لفرض عقوبات على قناة “فوكس نيوز” التابعة لامبروطورية القطب الاعلامي الاميركي روبرت مردوخ. قال كوهين إنها “تحولت إلى منبر يروج للدعاية البوتينية إلى حد لم يعد من الممكن التمييز بينها وبين دعاية الكرملين” . كوهين تساءل في مقالة له في صحيفتي “الغارديان”و”اوبزيرفر” عن الأسباب التي تمنع إدارة جو بايدن وحكومات بريطانيا ودول الاتحاد الاوروبي الاخرى من تجميد أرصدة مردوخ قائلاً “لو كان الغرب يمتلك الشجاعة لقام بتجميد فوري لحسابات مردوخ ، لأن مقدمي برامج قناته فوكس ومروجي الدعاية الروسية متداخلون لدرجة أنه لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر مثل كعكة لم توضع في الفرن بعد”.
وفيما تواصل “فوكس نيوز” ترديد طروحات الكرملين في ما يخص حربها الغادرة ضد أوكرانيا، أعلنت واشنطن فرض عقوبات على ثلاث قنوات تلفزيونية روسية جديدة وحرمانها الإفادة من الخدمات الاستشارية الأميركية، وهي تبث من موسكو.
وتضمنت اللائحة الجديدة ” بيرفي قنال” و«روسيا-1» و«ان تي في» التي تم إدراجها على القائمة السوداء. وينص القرار على منع أي شركة أميركية من تمويل هذه القنوات عبر الإعلانات أو بيعها معدات وتقنيات تلفزيونية. وكان الغرب حظر بث وسائل إعلام روسية مع شن الكرملين عدوانه على أوكرانيا من بينها “روسيا اليوم” و”سبوتنيك”. وكانت هذه القنوات بمجموعها تلقت في العام الماضي وحده نحو 300 مليار دولار من عائدات الإعلانات من الدول الغربية.
مع قيام بوتين بغزو أوكرانيا ارتفع منسوب نشاط كارلسون في تناول هذه الحرب مثيراً استياء كبيراً في أوساط الجمهوريين و الديموقراطيين على حد سواء، وذلك بسبب طروحاته التي تنسخ الدعاية الروسية،
الصحافي الأميركي المفضل لدى الكرملين
أكثر ما يثير الانتباه والاستغراب هو أن روسيا التي أرغمت العدد الأكبر من الصحافيين والمراسلين الغربيين على مغادرة أراضيها، وسحبت منهم هوياتهم الصحافية، منحت الصحافي الأميركي ومقدم البرامج في “فوكس نيوز” تاكر كارلسون المزيد من الوقت في فترة الذروة لترديد ما تنشره روسيا من أخبار ومعلومات كاذبة ومضللة، كي تنقلها عن لسانه ماكينة الدعاية البوتينية. وفي هذا الإطار، يعد برنامجه “تاكر كارلسون تونايت”، متوافقاً مع السردية الروسية وأساليب دعايتها الموجهة للعالم الغربي والخارجي عموماً.
وكشفت وثائق روسيّة صادرة في الثالث من آذار/ مارس الماضي على شكل هيئة تعليمات طلب الكرملين من وسائل الإعلام الروسية الرسمية، تكثيف الاستشهاد بأقوال الصحافي تاكر كارلسون، كونه ينقل للأميركيين السرديّة الروسية عن الحرب والأحداث الدولية. الوثائق التي نشرها موقع مجلة “ماذر جونز” الأميركية ليست الوحيدة التي تُشيرإلى تغطية “فوكس نيوز” المثيرة للشفقة للحرب، لا سيما بعد مقتل صحافيين يغطّيان الحرب لصالحها، وإصابة صحافي ثالث. وأشارت المجلة إلى أن شخصية اعلامية روسية أخفت هويتها هي التي سربت هذه الوثائق التي تتألف من 12 صفحة.
رواية “المختبرات السرية في أوكرانيا”
روج كارلسون لمعلومات كاذبة نشرتها آلة الدعاية الروسية تفيد بأن الولايات المتحدة الأميركية تقوم بأنتاج أسلحة بيولوجية في مختبرات سرية في أوكرانيا، وهو نبأ انتشر بسرعة فائقة في وسائل الإعلام العالمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الروسية التي تستحوذ على مساحات واسعة على الانترنت. كارلسون حرص على تحريف كلمة وردت عن هذا الموضوع على لسان مسؤولي الكرملين بشكل فاق توقعات حتى روسيا نفسها. موسكو كما عودتنا في هذه الحالات الطارئة اعتبرت أن مثل هذه المختبرات ليست سوى “دليل على الأنشطة الإجرامية لأميركا”، كما ورد على لسان المسؤول الروسي.
الغريب ان كارلسون من دون أي دليل أو تحقيق استقصائي اعتبر أن رواية روسيا عن المختبرات السرية مؤكدة، لأن المسؤولة في الخارجية الأميركية فيكتوريا نولاند كانت “أكدت في جلسة استماع للكونغرس”، بحسب ما ذهب إليه وجود مختبرات سرية في أوكرانيا”، وهذا خبر كاذب ورد ضمن نظرية المؤامرة التي تشيعها مجموعة “كيو أنون” الأميركية، بأنّ فايروس “كورونا” تم تركيبه في هذه المختبرات.
الحقيقة هي أن نولاند لم تقل شيئاً عن مختبرات سرية اميركية في اوكرانيا، بل تحدثت عن أن ان”أميركا تتعاون مع أوكرانيا لحماية مرافق البحوث البيولوجية”، وأكدت، كما هو منشور، في جلسة الاستماع تلك، أن “لدى أوكرانيا منشآت أبحاث بيولوجية، ونشعر بقلق بالغ إزاء سيطرة القوات الروسية عليها”. ووفقاً لما نشرته وكالات الأنباء، فإن مراكز الأبحاث ليست سرية، وهي مملوكة ومدارة من كييف نفسها، وتتلقى دعماً مالياً من واشنطن. الهدف من تلك المختبرات هو “إجراء أبحاث لمنع الهجمات البيولوجية والأمراض المعدية والتصدي لها، وما يجرى التحذير منه هو أن الكائنات الحية في المراكز مهددة للحياة، ولكنها ليست أسلحة بيولوجية”، بحسب ” وكالة “اسوشييتد برس”.
أما في ما يخص ايران ودورها التخريبي في الشرق الأوسط فإن كارلسون يرفض السردية الرسمية بأن إيران تمثل تهديدا للولايات المتحدة، وقال في تموز/ يوليو 2017، “نحن في الواقع لا نواجه أي تهديدات من إيران”، وطلب من ضيفه الخبير ماكس بوت المؤيد لمهاجمة إيران “أن تقول لي كم عدد الأميركيين الذين قتلوا على يد إرهابيين تدعمهم إيران منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001؟”.
ومع قيام بوتين بغزو أوكرانيا ارتفع منسوب نشاط كارلسون في تناول هذه الحرب مثيراً استياء كبيراً في أوساط الجمهوريين و الديموقراطيين على حد سواء، وذلك بسبب طروحاته التي تنسخ الدعاية الروسية، فلقد شن هجوماً كبيراً على ما وصفه دق طبول الحرب من الدوائر الأميركية المختلفة سواء الجمهورية منها أو الديموقراطية.
من هو تاكر كارلسون؟
حاز كارلستون شهرة غير متوقعة من خلال برنامجه “تاكر كارلسون الليلة” الذي بدأ بثه عام 2021 ليصبح الأكثر مشاهدة بين برامج الأخبار في تاريخ شبكات الأخبار الأميركية الرئيسية، ووصل عدد مشاهديه خلال الربع الأخير من العام ذاته إلى 4.3 مليون مشاهد، وهو رقم ضخم جداً بمعايير الشبكات الإخبارية الأميركية.
وكان كارلسون تخرج من كلية ترينيتي الواقعة بولاية كونيتيكت المجاورة لنيويورك عام 1991، وحاول منذ ذلك اليوم تحقيق حلم ظل يراوده بالعمل في وكالة الاستخبارات المركزية “سي آي إيه” ، إلا أن طلبه للانضمام إلى الوكالة لم ينل موافقة رئيس الوكالة آنذاك. عندها قرر كارلسون السير على خطى والده، الذي كان صحافياً محلياً شهيراً في ولاية كاليفورنيا. وعمل لفترة قصيرة معه، ومن ثم بعد ذلك عمل في عدد من الوظائف المتنوعة في صحف ومجلات أسبوعية إخبارية، إلى أن توفرت له عام 2000 فرصة العمل في التلفزيون مع دخوله إلى شبكة “سي أن أن” (CNN) ليشارك في تقديم برنامج “المواجهة” (Crossfire) الشهير، ممثلاً للجانب المحافظ في النقاش. إلا أن هذه القناة قررت عام 2005 إلغاء البرنامج، وأعلنت أنها لن تجدد عقد كارلسون، إنما خرج الأخير برواية مغايرة مدعياً أنه قدم استقالته قبل إعلان القناة قرارها بطرده.
لم يمض وقت طويل حتى انضم كارلسون إلى شبكة “إم إس إن بي سي” (MSNBC) الليبرالية، وذلك عام 2005 حين شرع بتقديم برنامج باسمه حتى نهاية عام 2008، قبل إيقاف البرنامج والتخلص منه لانخفاض نسب المشاهدة. وبهذا أصبح عاطلاً من العمل، وانتقل إلى سوق العمل بحثاً عن وظيفة وهو في الأربعين من عمره، وعاش تحت مظلة والده الصحافي، وعندها راودته فكرة تأسيس موقع The Daily Caller، وفتح أبوابه أمام الكثير من كُتَّاب تيار اليمين المتشدد للكتابة.
ثم أتته الفرصة الثمينة عام 2016 عندما تم إيقاف المذيع الأشهر في فوكس آنذاك بيل أورايليي على خلفية قضايا تحرش جنسي، وتم استبدال برنامجه ببرنامج تاكر كارلسون، وهو ما يقوم به حتى الآن.
كارلسون المولود عام 1969 في ولاية كاليفورنيا، لعائلة ثرية، لم يكن كما كان ادعى يُخطِّط ليصبح صاحب البرنامج التلفزيوني الإخباري الأكثر مشاهدة في العالم، بل الفشل هو الذي انتهى به، بكل بساطة، إلى ذلك. فهو على سبيل المثال لم يتمكن من الالتحاق بأي من الجامعات الأميركية المرموقة، ولم يجد أمامه سوى السفر للالتحاق بكلية ترينتي الإيرلندية، حيث درس التاريخ، بمساعدة والد صديقته «سوزان أندروز»، التي سيتزوجها في ما بعد، وفقًا لـ «بيزنس إنسايدر”.
العنصري ومروج نظريات المؤامرة
يعد كارلسون وفقاً لكثيرين من الصحافيين والمراقبين السياسيين ومنظمات الدفاع عن حريات الرأي ، عنصرياً شعبوياً متطرفاً ومروجاً لنظريات المؤامرة، إضافة إلى كونه لا يحترم النساء والمهاجرين والأقليات من غير أصحاب البشرة البيضاء كالأفارقة الأميركيين واللاتينيين والآسيويين. إلا أن استطلاعات الرأي أشارت إلى ان الملايين يعتبرونه بطلاً أميركياً قومياً لعدائه الصريح للعولمة، كما وجد فيه الجمهوريون عاملاً ضرورياً لتحقيق التوازن في إعلام اميركي يسيطر عليه تقليدياً التيار الليبرالي. ويراه أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب ممثلاً لهم في معركة سياسية أهم أدواتها الإعلام. وأثارت زيارته العاصمة المجرية بودابست ولقاؤه رئيس الوزراء فيكتور اوروبان ضجة كبيرة في الولايات المتحدة والدول الغربية التي تصف اوروبان بالتطرف والشعبوية والإيمان بسمو الجنس الأبيض. و في العاصمة الهنغارية شارك كارلسون مع اوروبان في افتتاح مركز بحثي هناك يركز على دعم الأيديولوجية اليمينية المحافظة حول العالم.
إقرأوا أيضاً:
نصير ترامب
غير أنه من المؤكد ان كارلسون مع ذلك يحظى بشعبية واسعة ومتزايدة في أوساط المحافظين اليمينيين بسبب دعمه وتأييده الفائق لسياسات وتوجهات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وظهر تأييده ودعمه هذا فور ظهور ترامب السياسي خلال حملة الانتخابات الرئاسية عام 2016، حين أعلن عن دعمه ترشيح ترامب وتأييده أفكاره المثيرة للجدل، مثل “حظر دخول مواطني دول مسلمة”، موجهاً انتقادات حادة للمرشحين الجمهوريين المنافسين لترامب لرفضهم وضع قضية الهجرة في أولويات برنامجهم الانتخابي، معتبراً أن رغبة ترامب في تشييد الجدار الفاصل عند الحدود المكسيكية- الأميركية ضرورة وطنية ملحة”.
وكرر كارلسون خطاب ترامب المتشكك بنيات المحتجين السود في أعقاب مقتل جورج فلويد على يد ضابط شرطة أبيض خلال صيف 2020، إذ قال “إن ما يحدث ليس بالتأكيد تعبيراً عن حركة حياة السود مهمة”، و دعا إلى أن يتذكر الجميع واقع أن هؤلاء المجرمين سيحاولون سرقتك والاعتداء عليك”! وغزت أخبار وتعليقات كارلسون خلال السنوات الاخيرة عناوين الصحف بحيث اصبحت الأكثر إثارة للجدل على الهواء حول مواضيع مثل المهاجرين والنساء والسود.
وتبنى كارلسون مواقف ترامب المشككة في فايروس “كوفيد- 19″، ولكنه مع ذلك حث مشاهديه على اخذ اللقاحات، وذكرت شائعات أن موقفه هذا ساهم في إقناع ترامب بتلقي اللقاح. ولكنه بحلول أيار/ مايو 2020 بدأ يشكك علناً في ما تعلنه السلطات الطبية عن خطورة الفايروس، ولهذا عارض تدابير الابتعاد الاجتماعي، كما وسخر مراراً من فعالية ارتداء أقنعة الوجه أو جدوى تلقي اللقاحات.
هل يحلم «كارلسون» بدخول البيت الأبيض؟
بدأ كارلسون حياته السياسية عضواً في الحزب الديموقراطي، وظل مدرجاً ديمقراطياً في سجلات الناخبين الأميركيين لسنوات طويلة، إلا أنه وبصورة فاجأت كثيرين انقلب وانتمى للحزب الجمهوري، معلناً أنه لا يتفق مع كل طروحات ومواقف هذا الحزب، بخاصة في ما يتعلق بالقضايا الخارجية.
ترددت خلال السنوات القليلة المنصرمة على لسان المعلقين الجمهوريين أسئلة صريحة عما إذا كان كارلسون يطمح للوصول إلى البيت الأبيض، وتشير استطلاعات الرأي إلى امتلاكه قاعدة شعبية كبيرة، لا سيما في اوساط التيارات الاكثر يمينية في الحزب والفئات الاجتماعية. ويرى مراقبون أنه أصبح بفضل برنامجه في “فوكس نيوز” وخطابه الشعبوي شخصية بارزة بين المرشحين المتحمسين ليجعلوا «أميركا عظيمة مرة أخرى». واللافت للانتباه أن كارلسون تجاهل مقالاً نشرته مجلة «بولتيكو» الأميركية، عام 2020، عن وجود توافق داخل قيادة الحزب الجمهوري بأن هناك فرصة قوية أمامه للفوز، إذا ما قرر خوض السباق الرئاسي”. ومن الواضح أن برنامجه في «فوكس نيوز»، وتسجيلات الفيديو الخاصة به على موقع القناة على الانترنت وفرت له فرصة لاستقطاب ملايين المشاهدين، وملايين المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً. هذا اضافة إلى انه يستضيف في برنامجه المشاهير من كل أوساط المجتمع الأميركي، كما أنه لا يخفي نزعة التباهي والنرجسية اللتين تتحكمان بسلوكه في علاقته بمن يحيطه، ولذلك فهو لا يكف عن تقليد أسلوب ترامب المثير للانقسامات في المجتمع الأميركي، مع فارق مهم هو أنه يتمتع أيضاً بسعة تفكير قوية اكتسبها ليس فقط بواسطة برنامجه كصحفي بارز، بل أيضاً كونه تحول إلى نجم تلفزيوني معروف، ليس داخل الولايات المتحدة وحسب،، إنما على نطاق أوروبا والعالم. وبينما يسعى كارلسون لتحقيق المزيد من النجاحات على الصعيد الإعلامي، تفيض الإشاعات حول توليه زعامة التيار اليميني المتشدد، وذهب البعض إلى القول بأن ترامب ربما يختاره نائباً له في حال ترشحه في انتخابات عام 2024.
لم يترك كارلسون موضوعاً من الحياة اليومية في أميركا، إلا وخاض فيه وأبدى رأيه وموقفه الذي هو في غالباً معارض لإدارة بايدن .وكلما طالت اوقات اطلالته التلفزيونية، زاد تأثيره في الرأي العام، واعتبر مراقبون أن “الأوقات الطويلة التي أطل فيها كارلسون على الشعب الأمريكي في برنامجه قد تتحول إلى سلاح ذي حدين خلال حملته الانتخابية المحتملة”.
ينفي كارلسون أي رغبة أو اهتمام بالترشح للرئاسة، إلا أن معظم مؤيديه وأنصاره يشكون في صحة ذلك. ولم يستبعد مراقبون احتمال أن يترشح كارلسون عام 2024، فيما يسخر آخرون من الفكرة، ويرون أنها مجرد خيال…
إقرأوا أيضاً: