fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

هيئة تحرير الشام، الطائفية، و”ميتريكس” سوريا الموازية

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

في ربيع عام 2024، نشرت دراسة مطوّلة عن مسألة الطائفية في المشهد السوري. ناقشت في تلك الدراسة أن المشهد السوري فيه “طوائفية” (confessionalism)، أي حضور لطوائف متعددة ومتنوعة في فضاء واحد، ولكنه يخلو من “الطائفية” (sectarianism)، أي أيديولوجيا تطأيفية إقصائية مغايرة تشيطن الآخر وتعادي المختلف.

بينت أن الأطراف الذين يصرون على فرض وجود الطائفية على المشهد السوري الحالي، يفعلون ذلك كي يبرروا استخدامهم مصطلح “حرب أهلية” لتوصيف الأحداث في سوريا وثورتها. وهو توصيف غير علمي وغير موضوعي أبداً للمشهد السوري، فنعت هذا المشهد بالحرب الأهلية يعني تجهيل الفاعل والمقترف الحقيقي وتبرئته في المشهد، ألا وهو النظام الأسدي المجرم، والادعاء بأن هناك طائفة سورية تتعرض للمقتلة على يد طائفة أو طوائف أخرى، بدل الاعتراف بأن الحرب الدائرة كانت بين نظام حاكم وبين شعبه من الخلفيات والطوائف كافة. هذا يعني الإصرار على قراءة لبنان والمشهد اللبناني في سوريا وفرض سيناريو الحرب الأهلية اللبنانية على المشهد السوري.

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد البربري، وفي ضوء المذابح الأخيرة التي ارتكبتها بعض فصائل ومقاتلي هيئة تحرير الشام في حق 1383 مواطناً ومواطنة سوريين عزل وأبرياء مدنيين، وموت ما يقارب 350 شاباً من قوات الأمن والجيش الجديدين، لمجرد أنهم ينتمون لطائفة معينة مختلفة عن طائفة أخرى، يقول المراقب العلمي إن “الطائفية” دخلت حديثاً المشهد السوري وإنها بدأت تتفشى فيه بلا هوادة. 

وما انتشار اللغة والمفردات والتعبيرات والأفكار، التي تصنف السوريين طائفياً وتشطرهم وفق طوائفهم، في خطابات السوريين وأحاديثهم اليومية، سوى مؤشرات وعلامات على بدء تفشي هذا المرض العضال في الجسم السوري. اليوم، ما عدنا نستطيع أن نقول إن سوريا فيها فقط “طوائفية”، بل إنها بدأت تمظهر عوارض إصابة جدية بفيروس “الطائفية”، وللأسف الشديد.

والسؤال الذي يسأله المراقب لنفسه في هذا الإطار هو: كيف دخلت الطائفية إلى المشهد السوري الحالي، ومن هو الطرف الذي أدخلها إلى هذا المشهد وكيف؟ الإجابة التي أجزم شخصياً بها وأقترحها هي أن من أدخل الطائفية إلى المشهد السوري المعاش هو “هيئة تحرير الشام”.

هيئة تحرير الشام أو “سوريا الموازية”

يعرف الدارسون والمتابعون لظاهرة “هيئة تحرير الشام” أنها مجموعة من الفصائل القتالية المسلحة الراديكالية إسلاموياً، والتي ينقصها الانسجام والتناغم والوحدة، لكنها انضوت جميعاً تحت مظلة أيديولوجية ودوغمائية إسلاموية واحدة هي ما نسميه في الأوساط العلمية “السلفية الجهادية النكوصية” (Jihadi Regressive Salafism).

 في سنوات الثورة والحروب على الأرض السورية، شكلت فصائل ما يعرف بهيئة تحرير الشام لنفسها فضاء افتراضياً موازياً (parallel virtuality) في محافظة إدلب، عملت فيه على خلق سوريا موازية بمجتمع موازٍ لمجتمعات السوريين، سواء النازحين والمهجرين أو الباقين في الداخل السوري. 

وقدمت نفسها على أنها “قوة موازية” لا تنتمي الى قوى الثورة والمعارضة السورية بل تتوازى معها، وأحياناً كثيرة تتضارب معها في المبادئ والطروحات والرؤى؛ وعلى أنها “جيش موازٍ” لا ينتمي الى جيش سوريا الحر، بل يحاربه ويناهضه ويتنافس معه على مناطق النفوذ والتأثير؛ وعلى أنها “ثورة موازية” لا ينتمي أفرادها وأتباعها وجمهورها الى جمهور الثورة السورية الرئيسي، بل يخالفه في الطروحات والمبادئ وحتى يقمعه ويضطهده حين يتمكن من ذلك.

 ولمن يعرف فيلم “ميتريكس” (Metrix) وبطله الأسطوري “نيو” (NEO)، يمكن القول إن الهيئة خلقت ميتريكس افتراضياً بطله الأسطوري هو “أبو محمد الجولاني” (وقتها)، وراحت تسمح لكل من يريد أن يهرب من العالم الواقعي (سوريا الواقعية) بأن يلوذ بهذا الميتريكس في إدلب وبأن ينتمي الى تلك السوريا الافتراضية الموازية.

في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، انهار النظام الأسدي الحاكم في سوريا الواقعية، ووصلت كتائب هيئة تحرير الشام بقيادة “نيو” ذاك الميتريكس، أحمد الشرع، وهيمنت على المشهد الواقعي وراحت من وقتها تعمل بشكل ممنهج على فرض الميتريكس الافتراضي لسوريا الموازية الذي خلقته في إدلب، بكل مقوماته وعناصره وأيديولوجياته ومشاريعه وبرامجه التنفيذية، على سوريا الواقعية، وعملت على جعل العالم الافتراضي يصبح هو العالم الواقعي بالقوة والقهر والترهيب على المستوى الشعبي القاعدي، وبالسياسة والدبلوماسية والرغبة في التغيير والانفتاح والاحتضان على المستوى القيادي لبطل الميتريكس المذكور. 

من يعرف فكرة الميتريكس في الخيال العلمي يعلم أن الفكرة تدور حول إمكانية انتقال الناس من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي الميتريكسي المذكور ومن ثم العودة منه إلى الواقع حين يريدون. في حالة ميتريكس سوريا الموازية للهيئة، لم تعد هناك حاجة للسفر إلى ميتريكس سوريا الموازية ومن ثم العودة منه ذهاباً وأياباً إلى الواقع، إذ بات الهدف الآن هو أن يتحول الميتريكس الافتراضي، وكل ما فيه وما يكونه من أفكار وممارسات ومفاهيم واعتقادات وتمظهرات وآليات عمل وميكانيزمات تفاعل وتواصل، ليصير هو بحد ذاته العالم الواقعي، سوريا الواقعية.

واحد من تمظهرات هذا الميتريكس الجديد ومحاولة فرض الفضاء الافتراضي على سوريا الواقعية، هو المنطق الطائفي الذي عبر عن نفسه في عنف ودموية منفلتة في مذبحة الساحل الأخيرة. لدينا هناك فصائل طائفية بعقلها وهويتها وفهمها لذاتها ولسوريا، وممارساتها تحاول جعل الميتريكس الموازي الطائفي الضيق والإقصائي الذي عاشت فيه وخلقته بنفسها في سوريا الموازية هو الواقع المفروض الفعلي واليومي الذي تسميه “سوريا الجديدة”.

 والمخيف أن كثراً من السوريين (وقسم كبير منهم يعيش خارج سوريا اليوم) باتوا اليوم يشكلون الخزان الشعبي الذي انتمى حديثاً للميتريكس الجديد وهو من أكثر المدافعين المتعصبين والمنفلتين طائفياً عن هذا الافتراض الجديد في سوريا اليوم، وهم يتبنون بكل أريحية العقل الطائفي لهذا الميتريكس ولخالقيه، ويتعاملون مع الدم والقتل والعنف المسيطر والوحشية التي تتمظهر في هذا الميتريكس وكأنها مجرد اختبارات افتراضية بطبيعتها وموازية وليست شيئاً واقعياً ملموساً له إرهاصات وتبعات ونتائج مادية مفروضة ستدمر سوريا الواقعية وستنهي بذلك إي إمكانية لتوافر فضاء وجودي مكاني يمكن لميتريكس سوريا الموازية الافتراضي أن يوجد فيه. في النهاية، لا وجود للعالم الافتراضي فعلاً من دون ارتباط ما بعالم واقعي.

تحولات أحمد الشرع

أود أن أشير هنا إلى مسألة مثيرة جدأً للاهتمام في سياق حالة الميتريكس السوري الافتراضي وابتلاعه سوريا الواقع، وهي مسألة تتعلق بسلوك بطل الميتريكس السوري المذكور الذي يمثل فيه شخصية “نيو” المخلص المسياني، والذي هو السيد أحمد الشرع، رئيس الإدارة الانتقالية. من يراقب سلوك وأداء وتوجهات السيد الشرع منذ كان “أبو محمد الجولاني” وصولاً إلى اليوم، لا يمكنه إلا أن يلاحظ أن الرجل قام برحلة تحول لافتة وتستحق الدراسة والانتباه، بل والتقدير، بأن انتقل فكرياً وسلوكياً من ضفة “السلفية الجهادية النكوصية”، التي تتبناها هيئة تحرير الشام عموماً، إلى ضفة ما نسميه علمياً “السلفية الإصلاحية” (Reformist Salafism) المعتدلة والمرنة والتقدمية والانفتاحية. 

يظهر هذا في تخليه عن اسمه ومظهره الجهادي وبذته القتالية الحربية حال خروجه من الميتريكس الموازي إلى سوريا الواقعية (أو حال انتقاله من أدلب إلى دمشق)، وفي سلوكه وخطابه فوق-الطائفي، وحتى فوق-الطوائفي، ومحاولته احتضان جميع السوريين والتأكيد أنه يحاول بناء سوريا للجميع تعلو فوق الطوائف والعصبيات والتصنيفات العرقية.

 لدينا إذاً “نيو” بنسخة جديدة محدّثَة يحاول الخروج من ميتريكس سوريا الافتراضية الموازي وعدم التقيد به وبشروطه وبأفكاره ورؤاه. لكن، يبدو للمراقب أيضاً أن محالة السيد الشرع المذكورة تصطدم بفصائل جهادية من الرحم الذي أولد هذا الميتريكس الموازي (هيئة تحرير الشام)، والتي لا تستمع الى رئيس الإدارة الانتقالية، ولا يبدو أنها تعمل بتوجهاته ولا تتبنى رؤيته ولم تنتقل مثله إلى ضفة السلفية الإصلاحية، بل إنها تقوم بأعمال وممارسات، وتقترف ارتكابات، توحي بالعصيان وعدم الطاعة بل وبمحاولة إفشال وتشويه الصورة الجديدة والرؤى والخطاب الواقعي لـ “نيو” الميتريكس الجديد (مع أن تلك الفصائل أعلنت مبايعتها للسيد الشرع في مؤتمر علني أسمته “مؤتمر النصر”، ونصّبته رئيساً للبلاد، طبعاً من دون طبعاً أخذ مواقف السوريين في سوريا وآرائهم الواقعية بالاعتبار).

صراع على سوريا!

المذبحة الطائفية الأخيرة، وما يتنامى من خطابات ولعبة-لغة طائفية مخيفة في المشهد السوري الشعبي الحالي، في مقابل محاولة نيو الميتريكس السوري الجديد (السيد أحمد الشرع) العلو فوق الطائفية وبناء خطاب وواقع سوريين جديدين من خارج فضاء الميتريكس الجهادي السلفي للهيئة، تقول للمراقب إن هناك اليوم صراع عميق وجدي، وإن كان مضمراً وغير علني حتى هذه اللحظة، ما بين فصائل في الهيئة تصر على فرض الميتريكس السوري الموازي الإدلبي بكل عيوبه ومساوئه على سوريا الواقع، من جهة، وما بين البطل المسياني (الـ “نيو”) في هذا الميتريكس وهو يحاول أن يخرج من الميتريكس وأن يخلق سوريا جديدة واقعية ما فوق-افتراضية وما فوق-ميتريكسية، إن شئتم. 

فلننظر فقط إلى الحكومة الانتقالية وقراراتها وممارساتها وتعييناتها الوظيفية واستراتيجية اختياراتها لمن تسلمهم المهمات والمسؤوليات وتنال توقيع الرئيس عليها فقط، ولنراقب سلوكيات وممارسات جمهور الهيئة في الحياة اليومية السورية، وسنرى أن المنطق الميتريكسي المذكور هو ما يحكم المشهد، وأن الممارسات العملانية على الأرض لا تنفذ رؤية رئيس الإدارة ولا خطاباته ولا توجهاته، بل تعيد تمريرها عبر قناة التصفية والتنقية الخاصة بميتريكس سوريا الافتراضية الموازية التي يراد فرضها بالقوة على الواقع.

 فعلى سبيل المثال، الرئيس يتحدث عن احترام الحريات الشخصية وعدم فرض شيء على الناس، وجمهور الهيئة يحاول فرض تدينه ومنظومة قيمه السلوكية والمجتمعية والمظهرية على الشارع السوري كل يوم وبالقوة وبالعنف. والرئيس يجري اتفاقيات تصالح وتفاهم مع الأكراد والدروز ويعد بحفظ حقوقهم في الدولة كاملة، ويطلع علينا إعلان دستوري من لجنة خلبية ميتريكسية يصر على حصر هوية الدولة وماهيتها الرئاسية والدستورية والقانونية بدين واحد وبانتماء لطائفة بعينها. 

ويقول رئيس الإدارة إن سوريا ستكون جمهورية متحررة من عصر الاستبداد السابق. وثم نقرأ إعلاناً دستورياً أتوقراطياً، بل وثيوقراطياً، يكرس الرئاسة كسلطة أحادية مطلقة في البلد وينفي مبدأ فصل السلطات واستقلالية القضاء ويقضي على المنطق البرلماني واستقلالية الجهاز التنفيذي، ويكرس نفس نظام وعقلية الاستبداد البعثية الأسدية السابقة ويشرعنهما بدعم فقهي من مجلس مشوري تشريعي مؤلف من رجالات دين وتشريع كهنوتيين يذكروننا “بمجلس تشخيص مصلحة النظام” في النظام الإيراني، مؤلف بغالبيته الساحقة من منظرين فقهيين ورجالات دين ينتمون الى هيئة تحرير الشام حصراً (أتمت أميركا بهذا خلق المعادل السني لنظام الملالي في إيران، كما قلت في مقالة سابقة). 

والرئيس، أيضاً، يقول إن سوريا للجميع، أما جمهور ميتريكس سوريا الموازية فيصر على جعل السوريين يرضخون إلى واقع أن سوريا الجديدة هي ملك جمهور الميتريكس وطائفته دون سواها.

نعم، سوريا اليوم على كف عفريت الطائفية. ولكن الأخطر من الطائفية بما لا يقاس هو مشروع هيئة تحرير الشام بأن تحول سوريا الواقعية إلى مجرد الحيز المكاني المادي والملموس لوجود وهيمنة وتأريض مشروع ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية وبكل الوسائل الممكنة، وأولها الطائفية والتضاد التصنيفي القائم على الحقد والكراهية والثأرية. 

في فيلم الميتريكس، يقدم الآتون من العالم الافتراضي (شخصية مورفيوس) كبسولتين لأهل العالم الواقعي: واحدة حمراء تبقيهم حيث هم ولا تغير من واقعهم في شيء. وواحدة زرقاء تفتح عيونهم على حقيقة فضاء الميتريكس وتنقلهم إليه. في الفيلم، الخيار متروك للناس كي يختاروا ما يريدون ويتحملوا مسؤوليته. 

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.

والسؤال يبقى دوماً أمام السوريين في محاولتهم التعامل مع هذا الواقع الجديد، نجاتهم في قلب عاصفته، أو حتى محاولتهم مساعدة الإدارة الانتقالية ورئيسها في مسيرة إعادة خلق سوريا وبنائها مجدداً من خارج الميتريكس وبعيداً عن مخاطره ومضامينه التدميرية، هو التالي: وأنت تتعامل مع قوة مهيمنة متسلطة مسلحة ويدها على السلاح دوماً، كيف تضمن أن مضمون صوتك وخطابك سيصلان إلى عقل هذا المسلح الميتريكسي وفكره وأنها لن تبلغ إصبعه الضاغط على الزناد؟ كيف تضمن وصول الخطاب إلى عقل المجاهد وليس إلى إصبعه على الزناد؟      

21.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.

في ربيع عام 2024، نشرت دراسة مطوّلة عن مسألة الطائفية في المشهد السوري. ناقشت في تلك الدراسة أن المشهد السوري فيه “طوائفية” (confessionalism)، أي حضور لطوائف متعددة ومتنوعة في فضاء واحد، ولكنه يخلو من “الطائفية” (sectarianism)، أي أيديولوجيا تطأيفية إقصائية مغايرة تشيطن الآخر وتعادي المختلف.

بينت أن الأطراف الذين يصرون على فرض وجود الطائفية على المشهد السوري الحالي، يفعلون ذلك كي يبرروا استخدامهم مصطلح “حرب أهلية” لتوصيف الأحداث في سوريا وثورتها. وهو توصيف غير علمي وغير موضوعي أبداً للمشهد السوري، فنعت هذا المشهد بالحرب الأهلية يعني تجهيل الفاعل والمقترف الحقيقي وتبرئته في المشهد، ألا وهو النظام الأسدي المجرم، والادعاء بأن هناك طائفة سورية تتعرض للمقتلة على يد طائفة أو طوائف أخرى، بدل الاعتراف بأن الحرب الدائرة كانت بين نظام حاكم وبين شعبه من الخلفيات والطوائف كافة. هذا يعني الإصرار على قراءة لبنان والمشهد اللبناني في سوريا وفرض سيناريو الحرب الأهلية اللبنانية على المشهد السوري.

اليوم، وبعد سقوط نظام الأسد البربري، وفي ضوء المذابح الأخيرة التي ارتكبتها بعض فصائل ومقاتلي هيئة تحرير الشام في حق 1383 مواطناً ومواطنة سوريين عزل وأبرياء مدنيين، وموت ما يقارب 350 شاباً من قوات الأمن والجيش الجديدين، لمجرد أنهم ينتمون لطائفة معينة مختلفة عن طائفة أخرى، يقول المراقب العلمي إن “الطائفية” دخلت حديثاً المشهد السوري وإنها بدأت تتفشى فيه بلا هوادة. 

وما انتشار اللغة والمفردات والتعبيرات والأفكار، التي تصنف السوريين طائفياً وتشطرهم وفق طوائفهم، في خطابات السوريين وأحاديثهم اليومية، سوى مؤشرات وعلامات على بدء تفشي هذا المرض العضال في الجسم السوري. اليوم، ما عدنا نستطيع أن نقول إن سوريا فيها فقط “طوائفية”، بل إنها بدأت تمظهر عوارض إصابة جدية بفيروس “الطائفية”، وللأسف الشديد.

والسؤال الذي يسأله المراقب لنفسه في هذا الإطار هو: كيف دخلت الطائفية إلى المشهد السوري الحالي، ومن هو الطرف الذي أدخلها إلى هذا المشهد وكيف؟ الإجابة التي أجزم شخصياً بها وأقترحها هي أن من أدخل الطائفية إلى المشهد السوري المعاش هو “هيئة تحرير الشام”.

هيئة تحرير الشام أو “سوريا الموازية”

يعرف الدارسون والمتابعون لظاهرة “هيئة تحرير الشام” أنها مجموعة من الفصائل القتالية المسلحة الراديكالية إسلاموياً، والتي ينقصها الانسجام والتناغم والوحدة، لكنها انضوت جميعاً تحت مظلة أيديولوجية ودوغمائية إسلاموية واحدة هي ما نسميه في الأوساط العلمية “السلفية الجهادية النكوصية” (Jihadi Regressive Salafism).

 في سنوات الثورة والحروب على الأرض السورية، شكلت فصائل ما يعرف بهيئة تحرير الشام لنفسها فضاء افتراضياً موازياً (parallel virtuality) في محافظة إدلب، عملت فيه على خلق سوريا موازية بمجتمع موازٍ لمجتمعات السوريين، سواء النازحين والمهجرين أو الباقين في الداخل السوري. 

وقدمت نفسها على أنها “قوة موازية” لا تنتمي الى قوى الثورة والمعارضة السورية بل تتوازى معها، وأحياناً كثيرة تتضارب معها في المبادئ والطروحات والرؤى؛ وعلى أنها “جيش موازٍ” لا ينتمي الى جيش سوريا الحر، بل يحاربه ويناهضه ويتنافس معه على مناطق النفوذ والتأثير؛ وعلى أنها “ثورة موازية” لا ينتمي أفرادها وأتباعها وجمهورها الى جمهور الثورة السورية الرئيسي، بل يخالفه في الطروحات والمبادئ وحتى يقمعه ويضطهده حين يتمكن من ذلك.

 ولمن يعرف فيلم “ميتريكس” (Metrix) وبطله الأسطوري “نيو” (NEO)، يمكن القول إن الهيئة خلقت ميتريكس افتراضياً بطله الأسطوري هو “أبو محمد الجولاني” (وقتها)، وراحت تسمح لكل من يريد أن يهرب من العالم الواقعي (سوريا الواقعية) بأن يلوذ بهذا الميتريكس في إدلب وبأن ينتمي الى تلك السوريا الافتراضية الموازية.

في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر، انهار النظام الأسدي الحاكم في سوريا الواقعية، ووصلت كتائب هيئة تحرير الشام بقيادة “نيو” ذاك الميتريكس، أحمد الشرع، وهيمنت على المشهد الواقعي وراحت من وقتها تعمل بشكل ممنهج على فرض الميتريكس الافتراضي لسوريا الموازية الذي خلقته في إدلب، بكل مقوماته وعناصره وأيديولوجياته ومشاريعه وبرامجه التنفيذية، على سوريا الواقعية، وعملت على جعل العالم الافتراضي يصبح هو العالم الواقعي بالقوة والقهر والترهيب على المستوى الشعبي القاعدي، وبالسياسة والدبلوماسية والرغبة في التغيير والانفتاح والاحتضان على المستوى القيادي لبطل الميتريكس المذكور. 

من يعرف فكرة الميتريكس في الخيال العلمي يعلم أن الفكرة تدور حول إمكانية انتقال الناس من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي الميتريكسي المذكور ومن ثم العودة منه إلى الواقع حين يريدون. في حالة ميتريكس سوريا الموازية للهيئة، لم تعد هناك حاجة للسفر إلى ميتريكس سوريا الموازية ومن ثم العودة منه ذهاباً وأياباً إلى الواقع، إذ بات الهدف الآن هو أن يتحول الميتريكس الافتراضي، وكل ما فيه وما يكونه من أفكار وممارسات ومفاهيم واعتقادات وتمظهرات وآليات عمل وميكانيزمات تفاعل وتواصل، ليصير هو بحد ذاته العالم الواقعي، سوريا الواقعية.

واحد من تمظهرات هذا الميتريكس الجديد ومحاولة فرض الفضاء الافتراضي على سوريا الواقعية، هو المنطق الطائفي الذي عبر عن نفسه في عنف ودموية منفلتة في مذبحة الساحل الأخيرة. لدينا هناك فصائل طائفية بعقلها وهويتها وفهمها لذاتها ولسوريا، وممارساتها تحاول جعل الميتريكس الموازي الطائفي الضيق والإقصائي الذي عاشت فيه وخلقته بنفسها في سوريا الموازية هو الواقع المفروض الفعلي واليومي الذي تسميه “سوريا الجديدة”.

 والمخيف أن كثراً من السوريين (وقسم كبير منهم يعيش خارج سوريا اليوم) باتوا اليوم يشكلون الخزان الشعبي الذي انتمى حديثاً للميتريكس الجديد وهو من أكثر المدافعين المتعصبين والمنفلتين طائفياً عن هذا الافتراض الجديد في سوريا اليوم، وهم يتبنون بكل أريحية العقل الطائفي لهذا الميتريكس ولخالقيه، ويتعاملون مع الدم والقتل والعنف المسيطر والوحشية التي تتمظهر في هذا الميتريكس وكأنها مجرد اختبارات افتراضية بطبيعتها وموازية وليست شيئاً واقعياً ملموساً له إرهاصات وتبعات ونتائج مادية مفروضة ستدمر سوريا الواقعية وستنهي بذلك إي إمكانية لتوافر فضاء وجودي مكاني يمكن لميتريكس سوريا الموازية الافتراضي أن يوجد فيه. في النهاية، لا وجود للعالم الافتراضي فعلاً من دون ارتباط ما بعالم واقعي.

تحولات أحمد الشرع

أود أن أشير هنا إلى مسألة مثيرة جدأً للاهتمام في سياق حالة الميتريكس السوري الافتراضي وابتلاعه سوريا الواقع، وهي مسألة تتعلق بسلوك بطل الميتريكس السوري المذكور الذي يمثل فيه شخصية “نيو” المخلص المسياني، والذي هو السيد أحمد الشرع، رئيس الإدارة الانتقالية. من يراقب سلوك وأداء وتوجهات السيد الشرع منذ كان “أبو محمد الجولاني” وصولاً إلى اليوم، لا يمكنه إلا أن يلاحظ أن الرجل قام برحلة تحول لافتة وتستحق الدراسة والانتباه، بل والتقدير، بأن انتقل فكرياً وسلوكياً من ضفة “السلفية الجهادية النكوصية”، التي تتبناها هيئة تحرير الشام عموماً، إلى ضفة ما نسميه علمياً “السلفية الإصلاحية” (Reformist Salafism) المعتدلة والمرنة والتقدمية والانفتاحية. 

يظهر هذا في تخليه عن اسمه ومظهره الجهادي وبذته القتالية الحربية حال خروجه من الميتريكس الموازي إلى سوريا الواقعية (أو حال انتقاله من أدلب إلى دمشق)، وفي سلوكه وخطابه فوق-الطائفي، وحتى فوق-الطوائفي، ومحاولته احتضان جميع السوريين والتأكيد أنه يحاول بناء سوريا للجميع تعلو فوق الطوائف والعصبيات والتصنيفات العرقية.

 لدينا إذاً “نيو” بنسخة جديدة محدّثَة يحاول الخروج من ميتريكس سوريا الافتراضية الموازي وعدم التقيد به وبشروطه وبأفكاره ورؤاه. لكن، يبدو للمراقب أيضاً أن محالة السيد الشرع المذكورة تصطدم بفصائل جهادية من الرحم الذي أولد هذا الميتريكس الموازي (هيئة تحرير الشام)، والتي لا تستمع الى رئيس الإدارة الانتقالية، ولا يبدو أنها تعمل بتوجهاته ولا تتبنى رؤيته ولم تنتقل مثله إلى ضفة السلفية الإصلاحية، بل إنها تقوم بأعمال وممارسات، وتقترف ارتكابات، توحي بالعصيان وعدم الطاعة بل وبمحاولة إفشال وتشويه الصورة الجديدة والرؤى والخطاب الواقعي لـ “نيو” الميتريكس الجديد (مع أن تلك الفصائل أعلنت مبايعتها للسيد الشرع في مؤتمر علني أسمته “مؤتمر النصر”، ونصّبته رئيساً للبلاد، طبعاً من دون طبعاً أخذ مواقف السوريين في سوريا وآرائهم الواقعية بالاعتبار).

صراع على سوريا!

المذبحة الطائفية الأخيرة، وما يتنامى من خطابات ولعبة-لغة طائفية مخيفة في المشهد السوري الشعبي الحالي، في مقابل محاولة نيو الميتريكس السوري الجديد (السيد أحمد الشرع) العلو فوق الطائفية وبناء خطاب وواقع سوريين جديدين من خارج فضاء الميتريكس الجهادي السلفي للهيئة، تقول للمراقب إن هناك اليوم صراع عميق وجدي، وإن كان مضمراً وغير علني حتى هذه اللحظة، ما بين فصائل في الهيئة تصر على فرض الميتريكس السوري الموازي الإدلبي بكل عيوبه ومساوئه على سوريا الواقع، من جهة، وما بين البطل المسياني (الـ “نيو”) في هذا الميتريكس وهو يحاول أن يخرج من الميتريكس وأن يخلق سوريا جديدة واقعية ما فوق-افتراضية وما فوق-ميتريكسية، إن شئتم. 

فلننظر فقط إلى الحكومة الانتقالية وقراراتها وممارساتها وتعييناتها الوظيفية واستراتيجية اختياراتها لمن تسلمهم المهمات والمسؤوليات وتنال توقيع الرئيس عليها فقط، ولنراقب سلوكيات وممارسات جمهور الهيئة في الحياة اليومية السورية، وسنرى أن المنطق الميتريكسي المذكور هو ما يحكم المشهد، وأن الممارسات العملانية على الأرض لا تنفذ رؤية رئيس الإدارة ولا خطاباته ولا توجهاته، بل تعيد تمريرها عبر قناة التصفية والتنقية الخاصة بميتريكس سوريا الافتراضية الموازية التي يراد فرضها بالقوة على الواقع.

 فعلى سبيل المثال، الرئيس يتحدث عن احترام الحريات الشخصية وعدم فرض شيء على الناس، وجمهور الهيئة يحاول فرض تدينه ومنظومة قيمه السلوكية والمجتمعية والمظهرية على الشارع السوري كل يوم وبالقوة وبالعنف. والرئيس يجري اتفاقيات تصالح وتفاهم مع الأكراد والدروز ويعد بحفظ حقوقهم في الدولة كاملة، ويطلع علينا إعلان دستوري من لجنة خلبية ميتريكسية يصر على حصر هوية الدولة وماهيتها الرئاسية والدستورية والقانونية بدين واحد وبانتماء لطائفة بعينها. 

ويقول رئيس الإدارة إن سوريا ستكون جمهورية متحررة من عصر الاستبداد السابق. وثم نقرأ إعلاناً دستورياً أتوقراطياً، بل وثيوقراطياً، يكرس الرئاسة كسلطة أحادية مطلقة في البلد وينفي مبدأ فصل السلطات واستقلالية القضاء ويقضي على المنطق البرلماني واستقلالية الجهاز التنفيذي، ويكرس نفس نظام وعقلية الاستبداد البعثية الأسدية السابقة ويشرعنهما بدعم فقهي من مجلس مشوري تشريعي مؤلف من رجالات دين وتشريع كهنوتيين يذكروننا “بمجلس تشخيص مصلحة النظام” في النظام الإيراني، مؤلف بغالبيته الساحقة من منظرين فقهيين ورجالات دين ينتمون الى هيئة تحرير الشام حصراً (أتمت أميركا بهذا خلق المعادل السني لنظام الملالي في إيران، كما قلت في مقالة سابقة). 

والرئيس، أيضاً، يقول إن سوريا للجميع، أما جمهور ميتريكس سوريا الموازية فيصر على جعل السوريين يرضخون إلى واقع أن سوريا الجديدة هي ملك جمهور الميتريكس وطائفته دون سواها.

نعم، سوريا اليوم على كف عفريت الطائفية. ولكن الأخطر من الطائفية بما لا يقاس هو مشروع هيئة تحرير الشام بأن تحول سوريا الواقعية إلى مجرد الحيز المكاني المادي والملموس لوجود وهيمنة وتأريض مشروع ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية وبكل الوسائل الممكنة، وأولها الطائفية والتضاد التصنيفي القائم على الحقد والكراهية والثأرية. 

في فيلم الميتريكس، يقدم الآتون من العالم الافتراضي (شخصية مورفيوس) كبسولتين لأهل العالم الواقعي: واحدة حمراء تبقيهم حيث هم ولا تغير من واقعهم في شيء. وواحدة زرقاء تفتح عيونهم على حقيقة فضاء الميتريكس وتنقلهم إليه. في الفيلم، الخيار متروك للناس كي يختاروا ما يريدون ويتحملوا مسؤوليته. 

في سوريا الحالية الواقعية، لا يوجد خيار ولا كبسولتان ولا حتى مورفيوس: إما أن تنصاع لحقيقة هيمنة ميتريكس سوريا الافتراضية الموازية الذي أحضرته الهيئة معها من تجربة إدلب، أو عليك أن تتحول إلى ضحية وهدف مشروعين أمام خالقي الميتريكس وحراسه في سبيل ترسيخ وتحقيق هيمنة الميتريكس المذكور على الواقع.

والسؤال يبقى دوماً أمام السوريين في محاولتهم التعامل مع هذا الواقع الجديد، نجاتهم في قلب عاصفته، أو حتى محاولتهم مساعدة الإدارة الانتقالية ورئيسها في مسيرة إعادة خلق سوريا وبنائها مجدداً من خارج الميتريكس وبعيداً عن مخاطره ومضامينه التدميرية، هو التالي: وأنت تتعامل مع قوة مهيمنة متسلطة مسلحة ويدها على السلاح دوماً، كيف تضمن أن مضمون صوتك وخطابك سيصلان إلى عقل هذا المسلح الميتريكسي وفكره وأنها لن تبلغ إصبعه الضاغط على الزناد؟ كيف تضمن وصول الخطاب إلى عقل المجاهد وليس إلى إصبعه على الزناد؟      

21.03.2025
زمن القراءة: 8 minutes
|

اشترك بنشرتنا البريدية