fbpx
ساهموا في دعم الإعلام المستقل و الجريء!
ادعموا درج

“هيدي قوّة التركيز!”…مختصر هزائم لبنان والكونغ فو وحبّ يسوع

لتلقّي أبرز قصص درج على واتساب إضغط(ي) هنا!

اشتهر اللبنانيّ  الخمسينيّ جوزيف مرعب على وسائل التواصل الاجتماعيّ فجأة، هو الذي ينشرُ فيديوهات قصيرة عبر “تيك توك”، لم يتوقع أن يتحول إلى ظاهرة تثير الفضول.

الأكثر قراءة
[tptn_list show_date="1" heading="0" title_length="200" limit="5"]

يُدرك بسرعة أي “مُدمن” لتسجيلات الخمسيني اللبنانيّ جوزيف مرعب، ذي الركلات السريعة واللكمات المتلاحقة ومهارات “الكونغ فو المنزليّ”، أن صاحب “قوة التركيز” جديّ وليس ساخراً أو متهكماً.

مرعب الذي يفتخر بمهارة استخدام يديه لتدور منشفتان عليهما بأسلوب يحاكي لاعبي السيرك الهواة، يجيد أيضاً إيقاع كرات بينغ بونغ داخل كأس بضربة واحدة، ليبدو وكأنه يحاكي ملايين صنّاع المحتوى المبتذل في أنحاء العالم، لكن مرعب صاحب رسالة، ولا يبحث عن “معجبين”.

 ما ساهم في شهرة مرعب يتجاوز الحركات الاستعراضيّة التي لن تفيده في شجار حقيقيّ، فهناك نسخة إيطالية من مرعب يبثّ فيديوهات مشابهة، في حين أن فرادة مرعب الذي يسكن قرية كفرشيما في لبنان،  تأتي من العبارة التي يرددها في نهاية كل فيديو: “هيدي قوة التركيز، والرب يبارك الجميع!” ووراءه علم لبنان.

نموذج مرعب الرجوليّ 

لم يتوقف مرعب عن بث تسجيلاته على رغم السخرية التي أحاطت به، واقتباسه مهارات “الكونغ فو المنزلي”، ما دفع البودكاستر أنطوني سرجون إلى صناعة فيلم وثائقي عنه باسم “يسوع الكونغ فو- حكاية جوزيف مرعب”. سرجون كان الوحيد الذي تمكّن من زيارة ومقابلة مرعب، الذي يرفض الظهور على وسائل الإعلام حسب كلامه.

 يكشف لنا الوثائقي عن شخصية تختزل ربما تاريخ لبنان أو بصورة أدق، تاريخ الهزائم التي شهدها اللبنانيّون، وتاريخ الفساد والحروب والطائفية، فمرعب حسبما يعرّف عن نفسه “شخص يحب يسوع الرب من كلّ قلبه، لأن يسوع أحبّه أولاً”، لكنه في الوقت ذاته، يظهر في أول فيديو له على “تيك توك”، معانقاً جبران باسيل “حبيب القلب”.  

باسيل ذاته الذي يعانقه مرعب ويفرح لرؤيته، قال عام 2019: “بالإيمان مع الصلابة والمرونة يللي عنّا ياها ما في أقوى منا كلبنانيي بالعالم، ورح ننتصر عَ سرطان الفساد”، والمرونة هنا أسطورة سياسيّة، يدفع ثمنها الأفقر والأضعف، لا باسيل نفسه الزعيم المسيحي الذي “ما خلوه يصير رئيس”!.

يختلف نموذج الرجولة الذي يقدمه مرعب عن الرائج حالياً، هو لا يمتلك ثقة و”عضلات” جنود الرب وقدرتهم على الردع! ،ولا حذق مقاتلي “أمل” و”حزب الله” الذين يخترقون التظاهرات في بيروت بدراجاتهم الناريّة، ولا يتحرك على الطيف الجندريّ كـ”كوكب زحل”، أو يستعرض عضلاته أمام المرآة، جوزيف مرعب نموذج لتاريخ من الهزائم التي لحقت بلبنان، هو ذاك الذي لا نراه حين نتأمل بوسترات حملة وزارة السياحة اللبنانية التي ترفع شعار “أهلا بهالطلّة”.

سرير الطفولة كحلبة أداء

يمثل مرعب نموذجاً من الرجولة المهزومة، هو ابن لأب قاسّ توفي عام 2022، صورته إلى جانب صورة يسوع، هو طيف لا يغادر حياة مرعب، الذي يعيش شبه حياة رهبانية في قرية كفرشيما مع والدته، هو وريث الأرض التي تركها جده لأولاده، لا زراعة فيها، مجرد مساحة مسوّرة يحميها مرعب من الأفاعي ومن “حاولوا الاستيلاء عليها”، لكن لا نعرف من هم!.

مهارات مرعب تُستعرض في غرفته، على سريره في بعض الأحيان الذي يتحول إلى حلبة،  هي المساحة الأشد أماناً، ضابطها التعب والأحلام، لكن أداء مرعب الأكروباتيّ  وتحديات الـ”تيك توك” التي يتبناها بوصفها “مهارة”، يمتدّان داخل غرف المنزل بوصفها فضاءات اللعب الآمن، فلا جمهور ولا أحد سواه وإيمانه.

 يكشف المنزل الذي نراه في الوثائقيّ، أن ما يستخدمه مرعب لاستعراض مهاراته متوافر حوله (قنينة، منشفة، كأس بلاستيكية… الخ)، هو لا يبحث إلا عن وسيلة لإيصال رسالته، فلا أحد يعرف “الصحراء التي دخلت حياته”، بعدما أمضى طفولته يصليّ في كنيسة “سيدة الورديّة” المارونيّة في كفرشيما.

سرير الطفولة هنا مساحة تحمي مرعب من الخارج و”أشراره”، جدّيته لا تترك مساحة للسخرية، حتى سرجون يقول في الفيلم إنه لم يصنع وثائقياً ليسخر من جوزيف مرعب، بل ليتعرف أكثر على هذا الشخص “الأقرب إلى قديس”.

يُدرك بسرعة أي “مُدمن” لتسجيلات الخمسيني اللبنانيّ جوزيف مرعب، ذي الركلات السريعة واللكمات المتلاحقة ومهارات “الكونغ فو المنزليّ”، أن صاحب “قوة التركيز” جديّ وليس ساخراً أو متهكماً.

من أين أتى الكونغ فو؟

لا جديد في “مهارات” مرعب القتاليّة، ونقصد تسجيلاته الجديدة، أما في تلك الأقدم، فلياقته كانت أشدّ، لكن اختلافه عن أقرانه الآن يكمن في إيمانه بقدرته ومهارته، تلك التي تعلمها من بروس لي، الذي دخلت أفلامه لبنان نهاية السبعينات حيث البوسترات على أبواب السينما، كـ”قبضة الغضب -1972″ و”أسلوب التنين-1972″.

هذه الأفلام تحولت إلى “صرعة” تمت محاكاتها على مدى السنوات كـ(قبضة الهلالي-1991) أو (بنات الكاراتية-1981) وربما أشهرها ظهر لاحقاً، وهو (مستر كاراتية- 1993) لمحمد خان. وفي ذلك السياق، ظهر النموذج الرجولي الذي يقارب بروس لي، والذي تبناه مرعب الذي يشير الى أنه تمرن أيضاً على يد بطل الكونغ فو اللبنانيّ غسان مغامس الذي أسس “جمعية التنين الذهبي للكونغ فو” عام 1979.

بدأ مرعب التمرين في عمر الـ21 وتعلم من الشاشة ومن مدرّبه. الوقفات الأربع التي يمارسها لا تختلف عما نراه في أي مكان، لكن هذا كله لا يهم، إذ تتالت الهزائم على مرعب، ففي ظلّ الأب القاسي، بدأت الحرب الأهليّة، واجتاحت إسرائيل قرية كفرشيما القريبة من قصر بعبدا الرئاسيّ، ثم جاء الجيش السوريّ الذي “احتلّ كل الأراضي اللبنانيّة” حسب صفحة الكتائب اللبنانية في كفرشيما. 

لكفرشيما،  قرية مرعب، تاريخ مثير للاهتمام، إذ من المفترض أن تكون حدود لبنان الصغرى، أو”الكانتون المسيحي الممتد من كفرشيما إلى جسر المدفون”، الذي انتهى حلم إنشائه مع اغتيال بشير جميل عام 1982.  يظهر مرعب ضمن هذا السياق كمن تلقى لكمات لا تنتهي لكنه بقي واقفاً، أين؟ في كنيسة بناها لاحقاً بيده في الحرش الخاص به سمّاها “الروح القدس”، لكن حسب قوله “الكنيسة الحقيقية هي الإنسان”.

يتحرك مرعب بين فضاءات قليلة، منزله حيث تعيش والدته، الكنيسة التي كبر بها، والحرش وكنيسته التي بناها، صالة البينغ بونغ، وصالة تدريب الرياضة. إيقاع  مرعب مضبوط لم يزحْ عنه إلا لمناسبة الفيلم ربما، ولقاء جبران باسيل!.  هذا  كله يدور في كفرشيما، التي دخلتها دبابات الجيش الإسرائيلي أثناء اجتياحه لبنان في عام 1982، هي جبهة تطل على خراب العاصمة المُحتمل، وجوزيف مرعب واحد من أبنائها، الذين ربما شهدوا معارك “حرّاس الأرز” مع الفصائل الفلسطينيّة خلال السبعينات.

رجولة بروس لي التي يتبناها مرعب مختلفة عن تلك التي نراها في فيلم “المجازف-1983″، أو الفدائي الفلسطيني علي حسن سلامة الذي تزوج بملكة جمال الكون جورجينا رزق بين 1978-1979. النموذج الذي يقدمه بروس لي نظرياً لا يحمل السلاح، خلاص العالم يكون بضبط اللكمة والتركيز، فبروس لي، داعية سلام، لا مقاتل في حرب، وربما بالضبط هذا ما جذب مرعب هرباً من أب قاس ضربه حين رفض أول مرة حفظ الإنجيل، الذي لاحقاً “أنعم عليه يسوع بحفظه”، فقدسية مرعب تكمن في تمرين الجسد بوصفه المؤسسة الوحيدة التي لن تخذله.

الفساد الذي يخذل “الأبطال”

وفاة والد جوزيف مرعب كسرت قلبه، بل أشعلت كراهيته للمؤسسة، إذ يلوم المستشفى على موت والده، كونهم، ولا نعلم من “هم” بدقة، “عصابات مجرمين منظمة لا يستطيع مسّها أحد”. يتهم مرعب المؤسسة بالفساد، وسرقة أموال المودعين من دون أن يحدد المذنب، لذلك هو “مستعد للموت” ويسعى الى أن يكون خارج هذه المؤسسة، حتى إن مرض لا يذهب الى المستشفى “إلا وهو يموت”.

يظهر علم لبنان غريباً في تسجيلات مرعب، الذي يشير إلى عداوة غامضة للمؤسسة الرسميّة، فأي لبنان بدقة هو الذي يتحدث عنه؟ لبنان الكبير؟ أم الكانتون المسيحي؟ نعم، هناك الفخر الوطني وغيره من البلاغات، لكن ما هي صورة لبنان التي يحاول مرعب أن ينتصر لها؟ ربما هي صورة نوستالجية في مخيلته فقط، وهنا يأتي الإيمان الديني إجابة،  مرعب مكرّس للمسيح، بل ربما هو “ٌقديس” معجزته هي قوة التركيز ، التركيز على النجاة في لبنان!.

ما هي قوة التركيز ؟

اشتهرت عبارة “هذه قوة التركيز” التي يرددها مرعب في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى تريند يكرر في الكثير من المواقف، بقي الأمر غامضاً قبل الوثائقي، فما هي قوة التركيز؟ هل هي حب يسوع؟ حب لبنان؟ حب الكونغ فو؟ وما مصدر هذه القوة؟.

يعرف مرعب قوة التركيز بأنها “القدرة على اختزال مجموعة من الأفعال لإنجاز شأن ما، إلى حدها الأدنى لضمان المهارة والسرعة”. هي دقة الملاحظة إذاً والقدرة على التحكم باقتصاد الأفعال، والتمرين هنا هو الأساس، لا المهارة كونها مكتبسة، وليست ربانية، ومصدرها “داخل الإنسان، وفكره، وعقله الباطنيّ”، وبإمكان أي أحد تطويرها،  إلا في حالة مرعب، فمصدرها هو “الصلاة” أيضاً.

قوة التركيز هنا علامة محاولات النجاة في لبنان المنهار، وخيبة أمل كبيرة من النظام القائم، هي تتمحور حول أفعال تحصل في المنزل أو الحرش فقط، هي القدرة على ضبط “متغيرات” كالكرة والكأس والجاذبية الأرضية لإنجاز فعل ما يؤدي إلى الرضا ، لكنها لا تنجح مثلاً في محاولة إيجاد عمل في لبنان، أو الحصول على الأموال من البنك.

شدة الفساد والعشوائية لا تنجح معها قوة التركيز في لبنان، الفرد وقدرته يتلاشيان أمام اللادولة (وربما هذا الجانب المأساوي في حكاية جوزيف مرعب)، إذ لا يمكن ضبط كل المتغيرات في لبنان والتصرف على أساسها لإنجاز أبسط شيء، كالحصول على النقود من البنك، فأي قوة تركيز يمكن أن يتنبأ عبرها أحدهم بأن العاصمة بيروت ستنفجر؟. 

الحرش والمنزل ملجأ مرعب على الأقل، هو قادر على ضبط كل ما فيها ليتمكن من الوقوف على قدم واحدة فوق قنينة مياه.

صناعة الترفيه المُستوردة

سبق لمرعب أن عرف الشاشة الصغيرة، إذ شارك في أحد مواسم برنامج “آراب غوت تالنت” (كالنسخة الإيطالية منه)، وبالطبع رُفض، والسبب أن لجنة التحكيم “لم يكونوا صادقين”، وأهانوه بسؤال “شو بتشتغل”، ليخبرنا لاحقاً كيف حاول المشاركة في الكثير من الأعمال التلفزيونية، لكن رغباته لم تلقَ صدى.

 نحن هنا أمام رغبة في الشهرة لا بوصفها أسلوباً لكسب المال، بل احتفاء بالموهبة التي يمتلكها، تلك التي لا يراها سواه، لكن صناعة الترفيه في لبنان خذلت مرعب، برامج المواهب الخليجية والمستنسخة من أوروبا تتحرك ضمن قوالب لا ترى في مرعب مشروعاً، هو لا يوافق البروفايل، بل يمكن القول، هو حالة تثير الشفقة، تُستخدم في الفواصل الإعلانية، كحالة السوري “أراب إيغل“.  

بصورة ما، مصانع إنتاج النجوم همّشت مرعب، كونه لا يمثّل “صورة لبنان” الذي يخرّج للعالم “مواهب”، صحيح هو من مسقط رأس ملحم بركات وماجدة الرومي ونصري شمس الدين وعصام الرجي وفيلمون وهبي… لكن “نانسي ليست كارل ماركس”، وجوزيف مرعب وعلم لبنان خلفه أبعد ما يكون من سلعة، هو واحد من أولئك الذين لا نراهم على الشاشات، ولا نسمع أصواتهم، هو لبنان الذي لم يعد يمتلك شيئاً سوى الإيمان ومهارات أكروباتيّة ضمن منظومة سحقت الجميع، وهذا ما يفسر ربما موقف مرعب، رسالته “إنسانيّة” تتوجه الى الجميع، هو زاهد إلا في حبّ يسوع ولبنان.

مفارقة مصنع الرجال

هناك مفارقة من نوع ما في نهاية الفيلم، يصطحب أنطوني سرجون موضوع فيلمه جوزيف مرعب إلى صالة رياضيّة، هناك يتحول مرعب إلى ما يشبه طفلاً صغيراً يقفز على الحبال ويلكم أكياس الرمل، هو في مساحة إنتاج نماذج الرجولة المختلفة عن بروس لي النحيل، القادر على تحطيم جدار بلكمة تبعد منه 1 سم. 

 نرى أنفسنا في الصالة الرياضيّة أمام عالمين مختلفين كلياً، “الجيم” مصنع العضلات، واستعراض القوة البدنيّة والمهارة المحسوبة التي تستثمر في الجسد وصحته، انغماس في الذات في بلد قد تكون القوة الجسديّة فيه ملجأً  من الفساد ،كحالة الربّاعة اللبنانيّة جويا خير الله، أو جزءاً من شكل الرجولة الحاليّ الذي تحول فيه الجيم إلى “معبد” من نوع ما يعتبر الفنون القتاليّة جزءاً من “طقوسه”.

يظهر مرعب في مصنع التستستورن كرجل من خارج الزمن، طفل يلعب مبتسماً، ابن القفار والبراري، يجسد رجولة قدّيسيّة، تحمل مأساتها معها، وتركز على ارتداء الجوارب بأسرع وقت ممكن، فلا لكمة قادرة على تخليص لبنان، أو إتاحة فرصة لمرعب.

السيادة على اللحظة 

يكتفي مرعب في كل فيديو ينشره، بإتقان حركة واحدة حتى ينال الرضا، هو شغوف بالقدرة على التحكم بالموجوات حوله ليصل إلى نتيجة مضبوطة ومحسوبة، لا يقاطعها انفجار أو حرب مفاجئة.

 هناك نوع من العجز عن اختبار الحياة يعانيه مرعب والكثيرون غيره بسبب البنية السياسية والاقتصاديّة في لبنان، التي أدت إلى تقلّص فضاء مرعب إلى ما يستطيع السيطرة عليه، منزله وأرضه وجسده. صحيح كلها مهددة بصورة ما، لكن إلى الآن هي تحت سيادته، وهذا ما يفسر ربما النهاية، يظهر مرعب يحمل صليباً ويقدم رسالة للعالم، هو “واجه الشيطان وجهاً لوجه” ولا بد من خلاص ما أو الاعتكاف في كنيسة من طين.

10.01.2024
زمن القراءة: 9 minutes

اشتهر اللبنانيّ  الخمسينيّ جوزيف مرعب على وسائل التواصل الاجتماعيّ فجأة، هو الذي ينشرُ فيديوهات قصيرة عبر “تيك توك”، لم يتوقع أن يتحول إلى ظاهرة تثير الفضول.

يُدرك بسرعة أي “مُدمن” لتسجيلات الخمسيني اللبنانيّ جوزيف مرعب، ذي الركلات السريعة واللكمات المتلاحقة ومهارات “الكونغ فو المنزليّ”، أن صاحب “قوة التركيز” جديّ وليس ساخراً أو متهكماً.

مرعب الذي يفتخر بمهارة استخدام يديه لتدور منشفتان عليهما بأسلوب يحاكي لاعبي السيرك الهواة، يجيد أيضاً إيقاع كرات بينغ بونغ داخل كأس بضربة واحدة، ليبدو وكأنه يحاكي ملايين صنّاع المحتوى المبتذل في أنحاء العالم، لكن مرعب صاحب رسالة، ولا يبحث عن “معجبين”.

 ما ساهم في شهرة مرعب يتجاوز الحركات الاستعراضيّة التي لن تفيده في شجار حقيقيّ، فهناك نسخة إيطالية من مرعب يبثّ فيديوهات مشابهة، في حين أن فرادة مرعب الذي يسكن قرية كفرشيما في لبنان،  تأتي من العبارة التي يرددها في نهاية كل فيديو: “هيدي قوة التركيز، والرب يبارك الجميع!” ووراءه علم لبنان.

نموذج مرعب الرجوليّ 

لم يتوقف مرعب عن بث تسجيلاته على رغم السخرية التي أحاطت به، واقتباسه مهارات “الكونغ فو المنزلي”، ما دفع البودكاستر أنطوني سرجون إلى صناعة فيلم وثائقي عنه باسم “يسوع الكونغ فو- حكاية جوزيف مرعب”. سرجون كان الوحيد الذي تمكّن من زيارة ومقابلة مرعب، الذي يرفض الظهور على وسائل الإعلام حسب كلامه.

 يكشف لنا الوثائقي عن شخصية تختزل ربما تاريخ لبنان أو بصورة أدق، تاريخ الهزائم التي شهدها اللبنانيّون، وتاريخ الفساد والحروب والطائفية، فمرعب حسبما يعرّف عن نفسه “شخص يحب يسوع الرب من كلّ قلبه، لأن يسوع أحبّه أولاً”، لكنه في الوقت ذاته، يظهر في أول فيديو له على “تيك توك”، معانقاً جبران باسيل “حبيب القلب”.  

باسيل ذاته الذي يعانقه مرعب ويفرح لرؤيته، قال عام 2019: “بالإيمان مع الصلابة والمرونة يللي عنّا ياها ما في أقوى منا كلبنانيي بالعالم، ورح ننتصر عَ سرطان الفساد”، والمرونة هنا أسطورة سياسيّة، يدفع ثمنها الأفقر والأضعف، لا باسيل نفسه الزعيم المسيحي الذي “ما خلوه يصير رئيس”!.

يختلف نموذج الرجولة الذي يقدمه مرعب عن الرائج حالياً، هو لا يمتلك ثقة و”عضلات” جنود الرب وقدرتهم على الردع! ،ولا حذق مقاتلي “أمل” و”حزب الله” الذين يخترقون التظاهرات في بيروت بدراجاتهم الناريّة، ولا يتحرك على الطيف الجندريّ كـ”كوكب زحل”، أو يستعرض عضلاته أمام المرآة، جوزيف مرعب نموذج لتاريخ من الهزائم التي لحقت بلبنان، هو ذاك الذي لا نراه حين نتأمل بوسترات حملة وزارة السياحة اللبنانية التي ترفع شعار “أهلا بهالطلّة”.

سرير الطفولة كحلبة أداء

يمثل مرعب نموذجاً من الرجولة المهزومة، هو ابن لأب قاسّ توفي عام 2022، صورته إلى جانب صورة يسوع، هو طيف لا يغادر حياة مرعب، الذي يعيش شبه حياة رهبانية في قرية كفرشيما مع والدته، هو وريث الأرض التي تركها جده لأولاده، لا زراعة فيها، مجرد مساحة مسوّرة يحميها مرعب من الأفاعي ومن “حاولوا الاستيلاء عليها”، لكن لا نعرف من هم!.

مهارات مرعب تُستعرض في غرفته، على سريره في بعض الأحيان الذي يتحول إلى حلبة،  هي المساحة الأشد أماناً، ضابطها التعب والأحلام، لكن أداء مرعب الأكروباتيّ  وتحديات الـ”تيك توك” التي يتبناها بوصفها “مهارة”، يمتدّان داخل غرف المنزل بوصفها فضاءات اللعب الآمن، فلا جمهور ولا أحد سواه وإيمانه.

 يكشف المنزل الذي نراه في الوثائقيّ، أن ما يستخدمه مرعب لاستعراض مهاراته متوافر حوله (قنينة، منشفة، كأس بلاستيكية… الخ)، هو لا يبحث إلا عن وسيلة لإيصال رسالته، فلا أحد يعرف “الصحراء التي دخلت حياته”، بعدما أمضى طفولته يصليّ في كنيسة “سيدة الورديّة” المارونيّة في كفرشيما.

سرير الطفولة هنا مساحة تحمي مرعب من الخارج و”أشراره”، جدّيته لا تترك مساحة للسخرية، حتى سرجون يقول في الفيلم إنه لم يصنع وثائقياً ليسخر من جوزيف مرعب، بل ليتعرف أكثر على هذا الشخص “الأقرب إلى قديس”.

يُدرك بسرعة أي “مُدمن” لتسجيلات الخمسيني اللبنانيّ جوزيف مرعب، ذي الركلات السريعة واللكمات المتلاحقة ومهارات “الكونغ فو المنزليّ”، أن صاحب “قوة التركيز” جديّ وليس ساخراً أو متهكماً.

من أين أتى الكونغ فو؟

لا جديد في “مهارات” مرعب القتاليّة، ونقصد تسجيلاته الجديدة، أما في تلك الأقدم، فلياقته كانت أشدّ، لكن اختلافه عن أقرانه الآن يكمن في إيمانه بقدرته ومهارته، تلك التي تعلمها من بروس لي، الذي دخلت أفلامه لبنان نهاية السبعينات حيث البوسترات على أبواب السينما، كـ”قبضة الغضب -1972″ و”أسلوب التنين-1972″.

هذه الأفلام تحولت إلى “صرعة” تمت محاكاتها على مدى السنوات كـ(قبضة الهلالي-1991) أو (بنات الكاراتية-1981) وربما أشهرها ظهر لاحقاً، وهو (مستر كاراتية- 1993) لمحمد خان. وفي ذلك السياق، ظهر النموذج الرجولي الذي يقارب بروس لي، والذي تبناه مرعب الذي يشير الى أنه تمرن أيضاً على يد بطل الكونغ فو اللبنانيّ غسان مغامس الذي أسس “جمعية التنين الذهبي للكونغ فو” عام 1979.

بدأ مرعب التمرين في عمر الـ21 وتعلم من الشاشة ومن مدرّبه. الوقفات الأربع التي يمارسها لا تختلف عما نراه في أي مكان، لكن هذا كله لا يهم، إذ تتالت الهزائم على مرعب، ففي ظلّ الأب القاسي، بدأت الحرب الأهليّة، واجتاحت إسرائيل قرية كفرشيما القريبة من قصر بعبدا الرئاسيّ، ثم جاء الجيش السوريّ الذي “احتلّ كل الأراضي اللبنانيّة” حسب صفحة الكتائب اللبنانية في كفرشيما. 

لكفرشيما،  قرية مرعب، تاريخ مثير للاهتمام، إذ من المفترض أن تكون حدود لبنان الصغرى، أو”الكانتون المسيحي الممتد من كفرشيما إلى جسر المدفون”، الذي انتهى حلم إنشائه مع اغتيال بشير جميل عام 1982.  يظهر مرعب ضمن هذا السياق كمن تلقى لكمات لا تنتهي لكنه بقي واقفاً، أين؟ في كنيسة بناها لاحقاً بيده في الحرش الخاص به سمّاها “الروح القدس”، لكن حسب قوله “الكنيسة الحقيقية هي الإنسان”.

يتحرك مرعب بين فضاءات قليلة، منزله حيث تعيش والدته، الكنيسة التي كبر بها، والحرش وكنيسته التي بناها، صالة البينغ بونغ، وصالة تدريب الرياضة. إيقاع  مرعب مضبوط لم يزحْ عنه إلا لمناسبة الفيلم ربما، ولقاء جبران باسيل!.  هذا  كله يدور في كفرشيما، التي دخلتها دبابات الجيش الإسرائيلي أثناء اجتياحه لبنان في عام 1982، هي جبهة تطل على خراب العاصمة المُحتمل، وجوزيف مرعب واحد من أبنائها، الذين ربما شهدوا معارك “حرّاس الأرز” مع الفصائل الفلسطينيّة خلال السبعينات.

رجولة بروس لي التي يتبناها مرعب مختلفة عن تلك التي نراها في فيلم “المجازف-1983″، أو الفدائي الفلسطيني علي حسن سلامة الذي تزوج بملكة جمال الكون جورجينا رزق بين 1978-1979. النموذج الذي يقدمه بروس لي نظرياً لا يحمل السلاح، خلاص العالم يكون بضبط اللكمة والتركيز، فبروس لي، داعية سلام، لا مقاتل في حرب، وربما بالضبط هذا ما جذب مرعب هرباً من أب قاس ضربه حين رفض أول مرة حفظ الإنجيل، الذي لاحقاً “أنعم عليه يسوع بحفظه”، فقدسية مرعب تكمن في تمرين الجسد بوصفه المؤسسة الوحيدة التي لن تخذله.

الفساد الذي يخذل “الأبطال”

وفاة والد جوزيف مرعب كسرت قلبه، بل أشعلت كراهيته للمؤسسة، إذ يلوم المستشفى على موت والده، كونهم، ولا نعلم من “هم” بدقة، “عصابات مجرمين منظمة لا يستطيع مسّها أحد”. يتهم مرعب المؤسسة بالفساد، وسرقة أموال المودعين من دون أن يحدد المذنب، لذلك هو “مستعد للموت” ويسعى الى أن يكون خارج هذه المؤسسة، حتى إن مرض لا يذهب الى المستشفى “إلا وهو يموت”.

يظهر علم لبنان غريباً في تسجيلات مرعب، الذي يشير إلى عداوة غامضة للمؤسسة الرسميّة، فأي لبنان بدقة هو الذي يتحدث عنه؟ لبنان الكبير؟ أم الكانتون المسيحي؟ نعم، هناك الفخر الوطني وغيره من البلاغات، لكن ما هي صورة لبنان التي يحاول مرعب أن ينتصر لها؟ ربما هي صورة نوستالجية في مخيلته فقط، وهنا يأتي الإيمان الديني إجابة،  مرعب مكرّس للمسيح، بل ربما هو “ٌقديس” معجزته هي قوة التركيز ، التركيز على النجاة في لبنان!.

ما هي قوة التركيز ؟

اشتهرت عبارة “هذه قوة التركيز” التي يرددها مرعب في وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى تريند يكرر في الكثير من المواقف، بقي الأمر غامضاً قبل الوثائقي، فما هي قوة التركيز؟ هل هي حب يسوع؟ حب لبنان؟ حب الكونغ فو؟ وما مصدر هذه القوة؟.

يعرف مرعب قوة التركيز بأنها “القدرة على اختزال مجموعة من الأفعال لإنجاز شأن ما، إلى حدها الأدنى لضمان المهارة والسرعة”. هي دقة الملاحظة إذاً والقدرة على التحكم باقتصاد الأفعال، والتمرين هنا هو الأساس، لا المهارة كونها مكتبسة، وليست ربانية، ومصدرها “داخل الإنسان، وفكره، وعقله الباطنيّ”، وبإمكان أي أحد تطويرها،  إلا في حالة مرعب، فمصدرها هو “الصلاة” أيضاً.

قوة التركيز هنا علامة محاولات النجاة في لبنان المنهار، وخيبة أمل كبيرة من النظام القائم، هي تتمحور حول أفعال تحصل في المنزل أو الحرش فقط، هي القدرة على ضبط “متغيرات” كالكرة والكأس والجاذبية الأرضية لإنجاز فعل ما يؤدي إلى الرضا ، لكنها لا تنجح مثلاً في محاولة إيجاد عمل في لبنان، أو الحصول على الأموال من البنك.

شدة الفساد والعشوائية لا تنجح معها قوة التركيز في لبنان، الفرد وقدرته يتلاشيان أمام اللادولة (وربما هذا الجانب المأساوي في حكاية جوزيف مرعب)، إذ لا يمكن ضبط كل المتغيرات في لبنان والتصرف على أساسها لإنجاز أبسط شيء، كالحصول على النقود من البنك، فأي قوة تركيز يمكن أن يتنبأ عبرها أحدهم بأن العاصمة بيروت ستنفجر؟. 

الحرش والمنزل ملجأ مرعب على الأقل، هو قادر على ضبط كل ما فيها ليتمكن من الوقوف على قدم واحدة فوق قنينة مياه.

صناعة الترفيه المُستوردة

سبق لمرعب أن عرف الشاشة الصغيرة، إذ شارك في أحد مواسم برنامج “آراب غوت تالنت” (كالنسخة الإيطالية منه)، وبالطبع رُفض، والسبب أن لجنة التحكيم “لم يكونوا صادقين”، وأهانوه بسؤال “شو بتشتغل”، ليخبرنا لاحقاً كيف حاول المشاركة في الكثير من الأعمال التلفزيونية، لكن رغباته لم تلقَ صدى.

 نحن هنا أمام رغبة في الشهرة لا بوصفها أسلوباً لكسب المال، بل احتفاء بالموهبة التي يمتلكها، تلك التي لا يراها سواه، لكن صناعة الترفيه في لبنان خذلت مرعب، برامج المواهب الخليجية والمستنسخة من أوروبا تتحرك ضمن قوالب لا ترى في مرعب مشروعاً، هو لا يوافق البروفايل، بل يمكن القول، هو حالة تثير الشفقة، تُستخدم في الفواصل الإعلانية، كحالة السوري “أراب إيغل“.  

بصورة ما، مصانع إنتاج النجوم همّشت مرعب، كونه لا يمثّل “صورة لبنان” الذي يخرّج للعالم “مواهب”، صحيح هو من مسقط رأس ملحم بركات وماجدة الرومي ونصري شمس الدين وعصام الرجي وفيلمون وهبي… لكن “نانسي ليست كارل ماركس”، وجوزيف مرعب وعلم لبنان خلفه أبعد ما يكون من سلعة، هو واحد من أولئك الذين لا نراهم على الشاشات، ولا نسمع أصواتهم، هو لبنان الذي لم يعد يمتلك شيئاً سوى الإيمان ومهارات أكروباتيّة ضمن منظومة سحقت الجميع، وهذا ما يفسر ربما موقف مرعب، رسالته “إنسانيّة” تتوجه الى الجميع، هو زاهد إلا في حبّ يسوع ولبنان.

مفارقة مصنع الرجال

هناك مفارقة من نوع ما في نهاية الفيلم، يصطحب أنطوني سرجون موضوع فيلمه جوزيف مرعب إلى صالة رياضيّة، هناك يتحول مرعب إلى ما يشبه طفلاً صغيراً يقفز على الحبال ويلكم أكياس الرمل، هو في مساحة إنتاج نماذج الرجولة المختلفة عن بروس لي النحيل، القادر على تحطيم جدار بلكمة تبعد منه 1 سم. 

 نرى أنفسنا في الصالة الرياضيّة أمام عالمين مختلفين كلياً، “الجيم” مصنع العضلات، واستعراض القوة البدنيّة والمهارة المحسوبة التي تستثمر في الجسد وصحته، انغماس في الذات في بلد قد تكون القوة الجسديّة فيه ملجأً  من الفساد ،كحالة الربّاعة اللبنانيّة جويا خير الله، أو جزءاً من شكل الرجولة الحاليّ الذي تحول فيه الجيم إلى “معبد” من نوع ما يعتبر الفنون القتاليّة جزءاً من “طقوسه”.

يظهر مرعب في مصنع التستستورن كرجل من خارج الزمن، طفل يلعب مبتسماً، ابن القفار والبراري، يجسد رجولة قدّيسيّة، تحمل مأساتها معها، وتركز على ارتداء الجوارب بأسرع وقت ممكن، فلا لكمة قادرة على تخليص لبنان، أو إتاحة فرصة لمرعب.

السيادة على اللحظة 

يكتفي مرعب في كل فيديو ينشره، بإتقان حركة واحدة حتى ينال الرضا، هو شغوف بالقدرة على التحكم بالموجوات حوله ليصل إلى نتيجة مضبوطة ومحسوبة، لا يقاطعها انفجار أو حرب مفاجئة.

 هناك نوع من العجز عن اختبار الحياة يعانيه مرعب والكثيرون غيره بسبب البنية السياسية والاقتصاديّة في لبنان، التي أدت إلى تقلّص فضاء مرعب إلى ما يستطيع السيطرة عليه، منزله وأرضه وجسده. صحيح كلها مهددة بصورة ما، لكن إلى الآن هي تحت سيادته، وهذا ما يفسر ربما النهاية، يظهر مرعب يحمل صليباً ويقدم رسالة للعالم، هو “واجه الشيطان وجهاً لوجه” ولا بد من خلاص ما أو الاعتكاف في كنيسة من طين.